إيزابيل إيبرهارت رحّالة فوق كل الشّبهات

كل شيء بدأ قبل أكثر من خمس عشرة سنة، كنت أعد حصة تلفزيونية وثائقية تحمل عنوان: «الديوان»، كان القصد من وراء إنتاجها هو تجميع شتات الذاكرة الوطنية المعرضة للموت البطيء بشكل إجرامي. قتل الذاكرة بقصد أو بإهمال جريمة أيضاً. وكان الرهان على ثلاثين حلقة، كل واحدة 52 دقيقة، وإدراك الأحياء على الأقل قبل فوات الأوان. […]

إيزابيل إيبرهارت رحّالة فوق كل الشّبهات

[wpcc-script type=”9c4700aa7e5192b3c16c45a7-text/javascript”]

كل شيء بدأ قبل أكثر من خمس عشرة سنة، كنت أعد حصة تلفزيونية وثائقية تحمل عنوان: «الديوان»، كان القصد من وراء إنتاجها هو تجميع شتات الذاكرة الوطنية المعرضة للموت البطيء بشكل إجرامي. قتل الذاكرة بقصد أو بإهمال جريمة أيضاً. وكان الرهان على ثلاثين حلقة، كل واحدة 52 دقيقة، وإدراك الأحياء على الأقل قبل فوات الأوان.
ثلاثون شخصية أدبية وثقافية وفنية تم انتقاؤها، أثرت في المشهد الثقافي الجزائري بعمق منذ القدم، من أبوليوس القرن الثاني الميلادي، مؤسس الرواية العالمية، إلى ابن خلدون، في مغارة فرندة التي بدأ فيها كتابة مقدمته المشهورة، مروراً بسيرفانتس الذي بدأ كتابة دون كيخوتي في الجزائر، في مغارة سيرفانتس القائمة حتى اليوم عندما كان سجيناً، والموسيقي الفرنسي سان- سونس الذي عاش وأنتج أهم أعماله في الجزائر ومات فيها، بعد أن تأثر عميقاً بالموسيقى الأندلسية والشعبية العاصمية، إضافة إلى الكتاب المعاصرين من أمثال جون سيناك، ومحمد ديب، وابن هدوقة، وأبو العيد دودو، والطاهر وطار، وجمال عمراني، وعبد الله الركيبي، ورشيد بوجدرة، وغيرهم. كثير من هؤلاء توفي بعد فترات قصيرة من إنهاء التصوير. طبعا نصف حصص «الديوان» لم تبث على القنوات الوطنية، وما تزال سجينة علبها. السبب لا أعرفه، ولكن يمكننا أن نتخيله، لكن ليس هذا بيت القصيد. فقد خصصت حلقة من حلقات السلسلة لإيزابيل إيبرهارت وسط غابة من الأسئلة واليقينيات القاتلة والرفض والتهم السهلة، أخطرها أنها كانت مخبرة وجاسوسة لصالح الجنرال ليوتي؟؟؟ وكان عليّ أن أثبت عكس ذلك. تتبعت حياتها خطوة خطوة، وصورت الوثائقي الخاص بها في أماكن متعددة، حيث كانت إقامتها. فرجعت إلى جذورها العائلية القيصرية الروسية، حتى ارتحالها هي وأمها إلى جنيف تحت حماية زوج أمها، ثم الجزائر لزيارة أخيها الذي كان في إحدى ثكنات سيدي بلعباس، قبل انتحاره. ثم خيارها السكن هي وأمها في مدينة عنابة، في الحي العربي الشعبي، وبعد وفاة والدتها انتقلت إلى منطقة الجنوب كصحفية في مجال التحقيقات، فتعرضت لكثير من المخاطر على الرغم من أنها تلبس زي الرجال وسمت نفسها محمود. هي التي قال ألبير كامو في قبر والدتها عندما رأى قبر أمها محاطاً بالورد، على إحدى هضبات بونة: كم هو جميل الموت هنا qu’il est beau de mourir.
كانت حياة إيزابيل كلها ارتحال، وكتابة إبداعية وتحقيقات. لكن للأسف، ما يزال وإلى اليوم، كلما ذكر اسم إيزابيل إيبرهارت، سبقتها لعنة الجاسوسة ظلماً، لأن كل ما عثر عليه من وثائق يثبت عكس ذلك. لا شك في أن إيزابيل إيبرهارت صحفية متحمسة لعملها، وكاتبة كبيرة، وحكاءة مميزة. أحبت الجزائر وانتسبت لها ولشعبها البسيط، بعد أن أسلمت وتزوجت من جزائري. ظلت تزاول عملها الصحفي كما لو أنها فرنسية أو سويسرية أو روسية، بإحساس الباحث عن سر الجنوب الغربي الصامت.
اختزل بعض الكتاب قصتها بهذا النعت المشين، والعمل كمخبرة لصالح الجنرال ليوتي، وتم تفسير كل عملها الثقافي وأدبها وحياتها وفق علاقتها بالجنرال، مع أنها كانت أكبر من ذلك كله. عندما اندمجت في المجتمع الجزائري، اختارت الجنوب لأنه كان مناسباً لها روحياً وثقافياً، وراحت تجوب العالم الصحراوي متلحفة برنساً ذكورياً، وتحاول أن تنصت لأنينه الصاخب في الزمن الاستعماري. كان عليها أن تجد مسلكاً في المناطق التي كان يسيطر عليها الاستعمار للتمكن من العبور واكتشاف الأسرار وبؤس الحياة التي كان يعيشها الناس. كانت تحب الزوايا، ومنها زاوية الهامل التي كانت تسهر عليها لالة زينب بنت سيدي المختار، ولكن كان من الصعب المرور إليها دون إذن مسبق من القائد العسكري: الجنرال ليوتي. كان الجنرال ليوتي قد قرأ بعض كتاباتها القصصية ذات الطابع الأنثروبولوجي والإثنوغرافي. اللقاء بينهما جعلهما ينبهران ببعضهما، فقد أعجب كثيراً بجرأتها وذكائها، وسحرت هي بروح الأديب التي تنام تحت اللباس العسكري. هذه العلاقة جلبت لها سخط كثيرين في المنطقة. قيل إنها تتبادل معه المعلومات لأنها كانت تمضي وقتاً طويلاً برفقته قبل أن تحصل على إذن بالمرور نحو مناطق الجنوب، وهو ما لم يكن متاحاً لصحافيين آخرين.
بالرجوع إلى الوثائق، نكتشف بسهولة أن الإعجاب كان حاضراً، بل كان هو الأداة المحركة للقائهما التاريخي: جنرال وكاتبة. هي التقت وأعجبت طبعاً ليس بالجنرال الذي كانت تنتقده بلا هوادة بانتقادها للمؤسسة العسكرية الاستعمارية، وكان يقبل منها ذلك، ولكن بالمثقف الذي كان يحادثها عن زولا، ومحنته في قضية دريفوس التي فجرها بشجاعة، واتهم المؤسسة العسكرية بالتواطؤ بسبب معاداة السامية وقتها، لدرجة أن اضطر على الهرب إلى لندن بعدما كتب رسالته الشهيرة «إني أتهم». كان ليوتي يحدثها أيضاً عن فكتور هيغو البرلماني المنتقد، والثائر الكبير والشاعر الحساس، وحليف الفقراء والغافروش. وعن فلوبير وقسوة الفرنسيين عليه بعدما كتب مدام بوفاري حينما اتهموه بمديح الفساد الأخلاقي واسترخاص الحصانة الزوجية عندما اختار أن يجعل من مدام بوفاري مجرد دمية في مهب الفساد الأخلاقي البورجوازي. كما كان يقضي وقتاً برفقتها وهو يحلل لوحات موني وغيره من رسامي عصره. كانت إيزابيل معجبة بليوتي الذي يخفي داخله فناناً وناقداً مميزين. كانا يسهران طويلاً وهما يتناقشان في الأدب والموسيقى، وتحقيقاتها في الزوايا، واكتشافها لنظام حياتي مختلف عما عرفه الغرب، حيث للمرأة دورها الكبير في السلم الاجتماعي والتسيير. زاوية الهامل مثلاً كانت تديرها امرأة، لالة زينب، التي لعبت دوراً حاسماً في الحياة الروحية للمنطقة. اتضح لاحقاً أن التسهيلات التي كانت تحصل عليها من ليوتي مصدرها علاقة ثقافية عميقة، ومشترك كبير في الانشغال الأدبي والفني. وقد دون ذلك كله في مذكراته وهو ما لم ترفضه أو تخفيه إيزابيل إيبرهارت.
ارتبطت بزوجها التي التقته في مارسيليا، ووجدت صعوبات جمة في الزواج منه بسبب القوانين الفرنسية المجحفة، لكنها ذللتها كلها. يكفي أن نعرف اليوم أنها مدفونة في المقبرة العامة لعين الصفراء، ضحية لفيضانات وادي عين الصفراء التي جرفتها سيوله وعثر عليها ميتة بعد أيام. وليوتي هو من شيد قبرها، وكتب عليه اسمها، وإلا لضاعت بين آلاف القبور التي لا تحمل شواهد ولا أسماء.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *