إيقاع الجسد وشذريته في أعمال المغربي محمد قنيبو

تمثيل اللامرئي واختزالية المرئي: يكتسي الجسد في التصوير المغربي، خاصة في العقود الأخيرة، حضورا بارزا واهتماما ملحوظا من لدن الفنانين التشكيليين المغاربة، بعد محاولات للانزياح عن الطابع التجريدي الذي ظل يهيمن على غالبية الملمح الفني المغربي، إذ أن فنانين كثرا – ينتمون إلى منعطف العقد الثامن من القرن الماضي- يحاولون تجريب أساليب جديدة والدخول في […]

إيقاع الجسد وشذريته في أعمال المغربي محمد قنيبو

[wpcc-script type=”de09c09a3278f13299f07525-text/javascript”]

تمثيل اللامرئي واختزالية المرئي:

يكتسي الجسد في التصوير المغربي، خاصة في العقود الأخيرة، حضورا بارزا واهتماما ملحوظا من لدن الفنانين التشكيليين المغاربة، بعد محاولات للانزياح عن الطابع التجريدي الذي ظل يهيمن على غالبية الملمح الفني المغربي، إذ أن فنانين كثرا – ينتمون إلى منعطف العقد الثامن من القرن الماضي- يحاولون تجريب أساليب جديدة والدخول في تيارات مغايرة ومختلفة ومعاصرة. عماد هذه المحاولة هو الهروب بالفن المغربي البصري عن أي ارتكاسية وتكلس وتصلب قد يقوده إلى الخمود والجمود، وقد أخذ شباب – آنذاك- على عاتقهم هذه العزيمة والرغبة، متسلحين بما درسوه داخل أو خارج المغرب، وبما طالعوه وعايشوه من تغير حاصل في الفن العالمي، على المستوى التصويري pictural والتمثيلي représentatif، في التصوير الصباغي la peinture بالتحديد.
هذا الأمر الذي سينعكس على جيل التسعينيات، إذ سيعمد فنانو هذا الجيل إلى اختراق القائم والسائد وتجاوز الماضي واللعب على وتر إبداعِ تصوُّرٍ فنيّ جديدٍ في الخانة الفنية المغربية، كلّ على حدة. محمد قنيبو (1967 تازة) واحد من هؤلاء الفنانين التشكيليين الذين حاولوا اجتراح أساليبهم الخاصة، متتبعا خطوط التمثيل والتصوير والتشخيص المجرد، وذلك منذ بداياته الأولى سنة 1992. يحتل مفهوم التمثيل محلا مهما داخل الإيقاع التصويري في أعمال قنيبو. ونحن نحفر في أعماله الأخيرة، وهي التي تهمنا في دراستنا هذه، نقف عند مستوى مختلف من التمثيل بالنسبة لمُجايِليه من فنانين آخرين يتتبعون المغايرة أسلوبا ومذهبا تشكيليا. فأعمال هذا الفنان القادم من أعالي جبال رجال التصوف والتشوف والزاهدين، لا تجيء من باب إعادة إنتاج الواق ، بل إنها تمتطي صهوة الإبداع، عبر جعل اللامرئي مرئيا والذهاب بالمرئي إلى أقصى الاختزالية. بهذا فمحمد قنيبو يكسر الصور الكلاسيكية ويلعب بالتصوير في صيغته الحداثية، لعبا قوامه قول الواقع بلغة شاعرية وروحانية، لا تبتغي أي مباشرة وجفاف في القول والتصوير.

الجسد في حالة الرقص:

تكمن شاعرية العمل الفني عند قنيبو في كون جل شخوصه – التي تحضر في بعد جماعي ثنائي أو ثلاثي أو رباعي… هي شخوص (أجساد) في حالة رقص، أو الجذب بالمعنى الصوفي، إنها إذن مرِحة في عالمها ذاك، عالم من الشطح، الذي يقود ساكنيه إلى التسامي والانفكاك من سلطة الجسد وسلطة الجاذبية عليه. ما يجعل أجساد محمد قنيبو أجسادا هائمة في الفضاء برشاقة وخفة. إنها أجساد راقصة إذن، بل إن محمد قنيبو يحتفل في أعماله هذه بـ«الرقص»، منطلقا من مقولة نيتشه بأنه «علينا أن نعتبر كل يوم يمضي بدون رقص يوماً ضائعاً». فهذا الفنان يحاول أن يحتفل بالإيقاع الذي يتركه الرقص في العالم، هذا الأخير الذي هو عالم يسكنه تناغم ظاهر، كما يرى الفيلسوف ذاته، من حيث أنه عالم يتسم بالنظام والتماسك، ولكن نظامه وتماسكه مثل نظام وتماسك العمل الفني، أي إنه نظام مؤقت يشبه النظام الذي فرضه شاعر على قصيدة غائية صغيرة، نظام لا يضرب بجذوره في أي واقع، وإنما في وجدان الشاعر وإرادته، والفنان وإرادته. ولأن العمل الفني مليء بالمجاز، فالواقع هو أيضا مجازي، لهذا فقنيبو لا ينقل إلا الصيغ الاستعارية من الواقع، هذه الصيغ التي تحضر في حالة من رقص المراد منه التعبير عن حالات الذات الدفينة والمنسية واللامرئية، لهذا فتلك الأجساد التي يرسمها قنيبو هي أجساد إنسانية تسكن عالمها الخاص، عالم اللوحة، إلا أنها أجساد في حالة اللااكتمال والنقصان، وليست في مأساة أو قسوة، بل إنها تنصلت من كتلها وأثقالها لتغدو نزقة تلهو وترقص في خفة.

العمل الفني مليء بالمجاز، فالواقع هو أيضا مجازي، لهذا فقنيبو لا ينقل إلا الصيغ الاستعارية من الواقع.

هذا اللهو والرقص سيقود هذا الفنان إلى تناص جمالي مبهر، إذ أنه سيتقاطع بصريا في إحدى أعماله الموقعة سنة 2016 مع لوحة «الرقصة» لهنري ماتيس، لكنه تناص، أو لنقل تَصَاوُرٌ بلغة التصوير، لا يعتريه نقل أو تشبيه أو سقوط الحافر على الحافر، بل إنه تصاورٌ وليد هواية اللعب الذي يجمع بين الفنانين معا، لهذا فما يميز أعمال قنيبو عن العمل المذكور لماتيس في كون الأول لا يعتمد على التمثيل واتباع قواعد المنظور، فالتمثيل عن قنيبو قوامه اتباع رشاقة الفرشاة وضرباتها السميكة المتخبطة والعشوائية ظاهريا، التي ينتج عنها الجسد رشيقا، إنها الفوضى الخلاقة التي ينبع منها الكون، فالفنان هنا لا يبحث عن إمساك بأي نظام معين بقدر ما يرغب في الخروج عن التصوير والتمثيل النمطي للعالم.

شاعرية الإيقاع:

يفرّشُ  قنيبو أرضية عالمه /لوحته بخلفية أحادية اللون، لا شوشرة فيها ولا ضجيج ألوان، هادئة تمنح للأجساد والبورتريهات متسعا للمرح والخروج من حالة الغياب إلى حالة الحضور هنا والآن. ما يمنح العمل أرضية غنائية، تاركا لضربات الفرشات السميكة أن تتبع إيقاعا معينا، و«لأن العالم هو الإيقاع»، كما يقول أحدهم، فقنيبو يتبع إيقاعه الدلالي الخاص، من حيث أنه يستعين بمسطحاته الإيقاعية لتوليد نظام دلالي يعتري العمل ككل. الأمر شبيه بما يعمد إليه الخطاط الآسيوي (الصيني، الياباني…) وهو يكتب عموديا نصه، فهذا الفنان يتبع الاستراتيجية الإيقاعية نفسها (من الأعلى إلى الأسفل) وميلان معين في كلا الجهتين. ولأنه لا يمكن التسليم بوجود عمل إبداعي خارج النظام الإيقاعي، سواء الداخلي أو الخارجي، فقنيبو وجد إيقاعه الداخلي في اتباع رشاقة ضربات فرشاته، مانحا إياها كامل الحرية والحركة التي تتولد عنها الخطوط المتداخلة كعلامات بصرية تشيّد وحدة اللوحة، وتوحّد بين شخوصها المتراقصة. وكما تشكّل تلك البورتريهات شبه الإنسانية التي يصوّرها الفنان بلا ملامح واضحة، وإن تحيلنا إلى أشخاص ومشاهد في عالمنا المعاش، فقنيبو لا يهرب من الإيمان في عمله التصويري بأن «المعيش» يتصدر العالم الموضوعي، كما يذهب إلى ذلك ميلوبونتي، لهذا فحينما يقطع قنيبو صلته مع المنظور، فهو يستمد ذلك من رؤية هذا الفيلسوف الفرنسي الرائية كون أن نظرية المنظور الكلاسيكية لا تعبر عن الإدراك المعيش والطبيعي لكونها مُجمِّدة للمنظور المعيشي.

تشكّل تلك البورتريهات شبه الإنسانية التي يصوّرها الفنان بلا ملامح واضحة، وإن تحيلنا إلى أشخاص ومشاهد في عالمنا المعاش، فقنيبو لا يهرب من الإيمان في عمله التصويري بأن «المعيش» يتصدر العالم الموضوعي.

فمع الكلاسيكية يتعين على المتلقي أن ينظر إلى العمل الفني من زاوية واحدة ومحددة، بينما يعتمد قنيبو، مستمدا ذلك من التصوير الحديث، على إعطاء المتلقي رؤية إنسانية للعالم، أي منح العمل زوايا نظر متعددة، في تقارب مع الرسام البدائي، أو تلك الرسومات الطفولية حيث يخلو الفضاء من أبعاد المنظور. فالتمثيل الحديث أو المعاصر يعتمد على إيقاع تصويري نافذ إلى جزئيات المعيش، لأن «موضوعات فن الرسم الحديث «تسيل دماً»، فتنشر أمام أعيننا مادتها فتجرب عقدة التعايش التي عقدناها مع العالم بواسطة كل طرف من أطراف جسدنا».

التصوير العالم بالشذرة:

ولأننا لا نوجد إلا باعتبارنا أجسادا، أو على حد تعبير ميرلوبونتي «نحن أجسادنا»، يحاول محمد قنيبو أن يعلي من قيمة الجسد، أو بالأحرى البدن (اللحم البشري)، الهيئة الظاهر والبارزة للعالم العيّان، محطما قواعد التمثيل الكلاسيكي، ومستعينا باللمسة الشذرية في معالجته لأجساد شخوصه، ما يجعل من اللوحة لديه تحضر بمثابة قصيدة نثر متدفقة ومقبلة من أعالي الجبال.
فبعين شاعر وبيد كاتب وبقلب فنان يرسم محمد قنيبو غير مبال بأي إلزامية والتزام باتباع القواعد، مستندا إلى الشذرة تصويرا، بكل ما تحمله من تكثيف وتبئير وتركيز وإرصاد… وما تبتغيه من ابتعاد عن أي نسقية، لتختلط فيها كل الأجناس ويسمو الانزياح ويحتل البياض (الفراغ) المكان الأرحب. ما يجعل اللوحة عبارة عن مقاطع بصرية وفقرات ومتواليات مستقلة كل على حدة، إلا أنها تكوّن نسيج العمل ككل، في تكامل شذريّ دلاليا وتركيبيا وتداوليا. فإن كان قنيبو يبتعد عن التمثيل الكلاسيكي وقواعد المنظور الموضوعية، فهو يستعين – بالمقابل- بالشذرة لخلق إيقاعه الخاص، من حيث أن كل مقطع في اللوحة له سيادته الخاصة، غير خادع لأي تسلسل منطقي، إلا أنه يخدم الدلالة الكبرى للعمل الفني، وكل ذلك تحت إطار لامرئي يضبط إيقاع العمل.

الفوضى الخلاقة:

كل هذا الزخم الشذري والمقطعي، ومهما تولد عنه من إيقاع، فهو إحياء لنظرية الفوضى، حيث أن كل مشهد في العمل يبدو اعتباطيا وضرب عشواء، هذا إن أخذنا بالاعتبار أن كل ضربة فرشاة هي علامة مستقلة بنفسها، إلا أنه متصل ومترابط بشكل من الأشكال. وهذا ما نسميه بـ«الفوضى الخلاقة»، حيث أنه وإن بدا ظاهريا أن العمل تعتريه الفوضى، لكنه منظم بخط رفيع، يشبع أوتار بور الفيزيائية التي تربط الكون وأجزاءه كاملة. لهذا يمنح محمد قنيبو كل جزء من عمله حيزه المهم، وكما حرية الظهور والبروز والاستقلالية التامة. فنجده يعتمد على خلفيات أحادية اللون وبدرجات قوية وكثيفة، كي لا تشوّش على ما يرنو إلى تصويره، واضعا فوقها طبقة من الألوان عبر ضربات فرشاة بألوان حالكة بلا تردد أو تراجع، ما يجعل أضداده متراكمة فوق بعضها بعضا، في اشتغال كوريغرافي وكاريغرافي، خالقا بمسطحاته اللونية شخوصه شبه الآدمية والشذرية. إنها بالأحرى صور ظلية (سيلويتات) هاربة من أي تعريف دلالي في نزقيّة وفرح ومرح.

لا يرغب في تمثيل الواقع والعالم بقدر ما يريد أن يرسم لنا البعد اللامرئي فيه وأخذنا إلى إبصار المرئي من زوايا مختلفة ومغايرة ومتعددة، تمنح لكل متلقِ أحقية القراءة الخاصة للعامل وللعالم.

تطويع الفضاء:

يطوّع محمد قنيبو الفضاء ويجعله طوع يده، ويؤثث فيه علاماته البصرية التي ينتج عنها العالم المعيش، عالم يأخذه الفنان من الواقع ويضعه داخل الإطار، لكنه ينزاح عن التمثيل والنقل الجاف والموضوعي. لهذا فهذا الفنان سليل هنري ماتيس وفرانسيس بيكون، من حيث تطويع المادة /اللون كما هو الحال عند الأول، وتطويع التصوير وفضائه كما الحال عند الثاني، أي الذهاب إلى تبني تصوير سيمولاكري. إلا أن قنيبو يختلف عن بيكون من حيث الاشتغال على البورتريهات، فالفنان المغربي لا يعمد إلى لمسخ الكلي لشخوصه، أو التشويه التام للوجوه، بل إنه يذهب بذكاء إلى الاشتغال على ما يمكن تسميته بـ«الانمحاء الملامحي»، أي إزالة عن وجوه شخوصه أيَّ ملمح نفساني وجسماني، وجعلها باردة وشاردة، لا تعيش أي حالة مأساة وتراجيدية وقسوة، عكس ما يفعله بيكون بشخوصه، لهذا إن كنا نتحدث عن أي تشابه فهو تشابه بدئي لا نهائي، وظاهري لا أسلوبي. إذن، فمحمد قنيبو لا يرغب في تمثيل الواقع والعالم بقدر ما يريد أن يرسم لنا البعد اللامرئي فيه وأخذنا إلى إبصار المرئي من زوايا مختلفة ومغايرة ومتعددة، تمنح لكل متلقِ أحقية القراءة الخاصة للعامل وللعالم، مستعينا بإيقاع داخلي متولد عن حركية العلامات/ضربات الفرشاة. متجرءا على اختراق الفضاء وتطويعه وجعله مطواعا وليّنا، في خدمة التصوير وما يبتغي للفنان تمثيله، تاركا للشذرات المكوّنة لنسيج اللوحة كل الحرية والاستقلالية في التبليغ عن قولها ودلالتها الخاصة، وكل ذلك ضمن خيط رابط ورهيف يوحّد المقاطعة «الشعرية» البصرية في ما بينها. كأنني به يكتب محمد قنيبو قصيدة نثر خاصة به مع كل عمل فني.

٭ شاعر وباحث جمالي مغربي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *