ابدأ الآن: فأيّ لحظة قد تكون هي ولادتك الجديدة

يعتقد كثيرٌ من النَّاس أنَّهم قد بلغوا مرحلةً لا يستطيعون فيها تحقيق أحلامهم، أو البدءَ في مشاريعهم الخاصة. وقد يتطور الأمر إلى درجة عدم التَّفكير في تطوير ذاتهم، فتكثرُ مبرراتهم؛ مثل ظروف المعيشة الصعبة، أو بلوغهم مقداراً من العمر ينظرون إليه على أنَّه نقطة النهاية التي يجب التوقف فيها عن كلّ شيء، وغيرها من تلك الشمّاعات التي يُعَلّقون عليها أسباب انعدام أملهم وقلّة حيلتهم.

Share your love

لن أتكلّم في هذا الصّدَد عن شخصيّات معروفةٍ يعلمها الجميع؛ إذ تستطيع بعمليةِ بحثٍ صغيرةٍ على جوجل، معرفة سِيَرِهِم وإنجازاتهم، فغالبنا يعرف قصة مارك زوكربيرغ، وروبرت فورد، وإنزو فيراري، وأوبرا وينفري وستيف جوبز، وكثيرون غيرهم.

لنخرج قليلاً عن هذا الروتين، ودعني أخبرك قصة رجلٍ أعرفه شخصياً: أبو رازق.

حينما كنت في العشرين من عمري، عملت في معملٍ لصناعة الألبسة، وكان رئيس قسم المحاسبة رجلٌ قد بلغ الثمانين من العمر تقريباً، يدعى أبو رازق. كان أبو رازق يُتقن اللغة الإنكليزيّة واليونانية، ودائماً ما كنت أتأمله وهو يمشي أمامي مرتدياً معطفاً من الجوخ… ما أعرفه هو أنَّه كان شخصاً محبوباً من الجميع، والكلّ يُكِنُّ له الاحترام والتقدير، إلا أنَّني لم أحاول التقرّب منه لأتعرَّفَ عليه عن قرب.

اتصل أبو رازق ذاتَ يومٍ بمدير الورشة التي أعمل بها، طالباً منه أن يرسل إليه أحد الشبان لكي يصحبه إلى منزله، ليحمل له أشياءً جلبها تجهيزاً لوصول ابنته من فرنسا. وقد كنت أنا ذلك الشاب الذي وقع عليه الاختيار.

لذا ركبت معه السيارة ذات اللون النبيذي، وذهبنا سويَّةً. جلبنا كلّ الأشياء من السوق، وبدأنا نصعد بها إلى المنزل. وما إن فَتح أبو رازق الباب ودخلنا إلى المنزل، حتى رأيتُ مكتبةً عملاقةً تحتل صدرَ غرفة الجلوس، وتمتد على طول حائط الغرفة.

وحينما أقول عملاقة، فأنا أعي تماماً ما أقول؛ فقد ذُهِلْتُ من عدد الكتب الموجودة فيها. ولأنِّيَ شخصٌ فضوليّ بطبعي؛ سألت أبو رازق: “هل كلّ الكتب ملكك؟ وهل قرأتها كلها؟” فأجابني: نعم.

سألته: “عمي، ما هي دراستك؟” ابتسم وقال: “أنا خريج كليّة التجارة والاقتصاد من جامعة دمشق، ودفعتي كانت من أوائل الدفعات التي تخرجت من الجامعة؛ بيد أنَّني أحب المطالعة كثيراً”.

وزاد في حديثه أنَّه مغرمٌ بالأدب الإنكليزي، وغالبيّة كتب مكتبته هي كتبٌ باللغة الانكليزية لكبار رواة وأدباء وأعلام الأدب الانجليزي. ولشدة حبه لهذا الأدب، قرّر بعد تخرّجه من كليّة التجارة أن يدخل الجامعة مُجَدّداً، ليحصل على شهادةٍ جامعيّةٍ في الأدب الانجليزي. وكان له ما أراد.

ساد نوعٌ من الصّمْتِ بيننا، وزاد إعجابي في هذا الرجل. استأذنته في الخروج من المنزل، سائلاً إيَّاه: “هل لي أن أزورك غداً مساءً؟”، فَرَحّب بذلك ولم يُمانع.

خرجت من منزله تراودني أسئلةٌ كثيرة… خريج تجارةٍ واقتصاد، مولعٌ بالأدب الانجليزي، وحاصلٌ على شهادةٍ جامعيّةٍ فيه، ويتقن اللغة اليونانية، ومكتبته عامرةٌ بالكتب! يا لهذا الرجل!!

جاء اليوم الثاني، وعند المغيب كنت أطرق باب بيته، فتح لي مبتسماً بوجهه البشوش… وقال لي: “أهلا عمي عليْ، تفضّل”. ما إن دخلت حتى سمعت صوت شارل آزنافور الرائع، يصدح في أرجاء المنزل. دخل مطبخ بيته حاملاً معه كأسين من الشاي، فابتسمت وقلت له: “لابدّ أنَّك تُحَضِّر لاستقبال ابنتك القادمة من فرنسا”.

ابتسم بوقار وقال: “بكلّ تأكيد، فأنا من أجلها تعلّمت الفرنسية وأتقنتها؛ فكيف لي أن أتكلّم مع أبنائها الذين لم أرَهم بعد، إن لم أتعلّم اللغة التي يتحدثون بها؟”، أثارَ هذا الأمر دهشتي… أثار كلّ شيءٍ في عقلي.

أبو رازق خريج كلية التجارة، يُحبُّ ويتقن اللغة الانكليزية، وحاصلٌ على شهادةٍ في آدابها، ويتحدّث اليونانية، وكأنَّ ذلك لا يكفي؛ لذا أتقن اللّغة الفرنسية وهو في عمر الثمانين كُرمَى لأحفاده!!!

ما هذا الشغف الذي يملكه؟ وما هو الدافع الذي جعله يتقن كل هذه اللغات؟!

تركت العمل في مصنع الألبسة لظروف دراستي الجامعية، إلَّا أنَّني لم أنقطع عن زيارته. فَرُحتُ أتردّد عليه بين الحين والآخر؛ أستمع إليه، وأتعلّم منه. حينما كنت أجلس معه، أشعرُ وكأنِّيَ أُبحِرُ في محيطٍ من الثقافة والمعرفة؛ فلم أملّ يوماً من الاستماع إلى حديثه.

رحم الله عمي أبو رازق، وطيّب ثراه. وأرجو من الله أن يرزقني وأولاديَ ذات الشغف الذي امْتَلَكَهُ هذا الرجل.

لعلَّكَ سائلٌ إيَّايَ السؤاليين التاليين: لماذا أروي لك هذه القصة؟ وما العبرة منها؟

أخبرتك هذه القصة لكي تبدأ… ابدأ فحسب…. إذ يوجد حولك العديد من الدوافع والمحفّزات التي تجعلك تبدأ بأيّ شيءٍ تريده. فقط افتح عينيك وانظر إلى محيطك؛ لتجد ألف طريقةٍ توصلك إلى هدفك.

وأنت تقرأ تلك الأسطر السابقة، قد ينشأ في داخلك صراعٌ أُسَمِّيْهِ “صراع البدايات”، وهو السؤال المحيّر الذي يخطر ببال كلّ من يريد تحقيق حلمه وهدفه… من أين أبدأ؟

  • ابدأ الآن، وانفض عنك كلّ مخاوفك.. وابدأ.
  • ابدأ حيث أنت، إن كنت في مكان عملك؛ فابدأ بتحقيق ما تصبو إليه من هذا العمل، وإن كنت في متجرك، فابدأ بما تريد أن تحققه من تجارتك.
  • ابدأ بما لديك، لا تنتظر شيئاً من أحد، وابدأ حتى ولو بالقليل المتاح.
  • ابدأ مع كل مخاوفك، فكلّ فشلٍ يقابله نفس النسبة من النجاح.
  • ابدأ بالتحرّك نحو هدفك، ولا تخش ارتكاب الأخطاء فهذا أمرٌ طبيعيٌّ ومتوقع؛ فمن المعلوم أنّ أفضل طرائق التعلّم، هو التعلّم “بالتجربة والخطأ”.
  • ابدأ صغيراً، فَحَسَبَ نظريّة التطور التاريخي: “لا يمكن للصغير أن يبق صغيراً، فلابدَّ من أن يكبر”.

في هذا العالم الكبير، من الممكن أن تكون كلّ لحظةٍ هي لحظة ولادةٍ جديدة. فتذكر أنّ أول قطرة ماءٍ في هذا الكون كانت عبارة عن اتحاد ذرة أوكسيجين بذرتي هيدروجين. وكلّ نارٍ في هذا الكون منذ بدءِ الخليقة وحتى يومنا هذا؛ قد بدأت بشرارة صغيرة.

وكما قالت ﻓﺮﺍﻧﺴﻮﺍﺯ ﺳﺎﻏﺎﻥ:ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ وﺃﻧﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺃﻥ تقع في الحب، وتستطيع وﺃﻧﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻴﻦ ﺃﻥ تقع في الحب؛ فهنالك ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻣﻨﺎﺳﺒﺔٌ ﻻﺷﺘﻌﺎﻝ ﺍﻟﺒﺮﻕ”.

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!