استغلال الآخرين لنا: ما هو؟ وما أسبابه؟ وما هي طرائق علاجه؟

يتقرّب إليك ويبادلك الحديث الممتع، يُهاتفكَ يومياً، يُبين لك حبه واحترامه ومودته، وتبدأ المصالح بعد ذلك بالظهور؛ ليطلب منك مساعدته في العمل، أو مساعدته ماديّاً، أو الوقوف إلى جانبه لمعالجة حالةٍ نفسيّة يمرُّ بها؛ ولأنّك تَعُدّه أخاً وصديقاً، تستجيب لطلبه برحابة صدر. يتكرر هذا الموقف كثيراً، وتبقى استجابتك نفسها، وتستمر في معاملتك له بمنتهى الطيبة والإحسان والنيّة الإيجابية. وتمرُّ الأيام، وتنقلب المواقف، فهذه المرّة أنتَ من يحتاج إليه؛ لكنّه يتملّص من المساعدة. كيف تحمي نفسك من هؤلاء المستغلين؟

Share your love

وتمرُّ الأيام، وتنقلب المواقف، فهذه المرّة أنتَ من يحتاج إليه؛ لكنّه يتملّص من المساعدة، ويضع أمامك العشرات من الحجج الواهيّة، قائلاً: “لا أستطيع المساعدة”، علماً أنّه قادرٌ على إعانتك وبأيسر الطرق، أمّا أنتَ فقد حرمتَ نفسك الكثير من أجل مساعدته وتيسير أموره.

فتلومَ نفسك بعدها، مُتسائلاً: “أين يكمن الخطأ؟ كيف لم أكتشف أنّه شخصٌ استغلاليّ؟ ولماذا كنتُ في منتهى السّذاجة معه؟ ولماذا لم أكن قادراً على قول “لا” لطلباته؟ حتّى وإن كانت على حساب راحتي وسعادتي”.

كم نصادف في حياتنا أشخاصاً مُبَرمَجين على الأخذ فقط، يمتصّون طاقتنا الروحيّة والنفسيّة والماديّة، ويطلبون المزيد في كلّ مرّة، ويتخلّون عنّا عند أول مطبٍّ يعترض طريقنا؟

كم مرّةً سَأَلْتَ نفسك: “كيف أحمي نفسي من الأشخاص المُستغلين؟”.

كم من المرّات تساءَلت عن دور ثقافة المجتمع في تعزيز الأشخاص المُستغلين في حياتك؟ وهل أصبحنا في وسطٍ مجتمعيٍّ يرى استغلال الآخر “شطارةً ومهارة”؟ وهل هناك تشوّهٌ في مفاهيمنا حول التضحية والإيثار؟

سنجد الإجابة عن كلِّ هذه الأسئلة في هذا المقال.

1. ما هو الاستغلال؟

يتمّثل الاستغلال في العلاقة غير المتوازنة بين الطّرفين، بحيث يكون أحدهما مستفيداً والآخر غير مستفيد.

ويوجد نوعان من الاستغلال:

  • الاستغلالٌ الإيجابيٌّ: ويعني الاستفادة من كلّ ما هو مُسخَّرٌ لنا من مادياتٍ على وجه الأرض، ما عدا الإنسان.
  • الاستغلال السلبيّ: أمّا الاستفادة من إنسانٍ ما، دون تقديم فائدةٍ له؛ يسمّى استغلالاً سلبياً؛ لأنّ الفائدة في العلاقات الإنسانية يجب أن تكون متبادلة.

2. أسباب الاستغلال:

2. 1. علاقة “خسارة-ربح” (Lose-Win):

إنّ شكل العلاقات المثاليّة بين البشر هو “ربح – ربح” (Win-Win)؛ أي أنّ الطرفين مستفيدين.

يكون الإنسان غير الواثق بنفسه عرضةً لتبنّي نمط (خسارة – ربح) في علاقاته الأسرية والاجتماعية؛ أي أنّه يقوم بفعل أشياء إيجابية للآخرين، بهدف أن يحصل منهم على المديح أو الإطراء، ممّا يشعره بقيمته، فهو يشتري قيمته من الآخرين.

يستمدّ الإنسان مهزوز الثقة بنفسه، ثقته من الآخرين؛ فتراه يلهث لإرضائهم على حساب نفسه، مُتبنّياً نظرية “أنا لستُ مُهمّاً، ما يهمُّ هو الآخرون”. تجعله القناعة بهذه النظرية إنساناً ضعيفاً، وتحوّله إلى ضحيةٍ للاستغلال، فيجذب إلى حياته المئات من الاستغلاليين الذين يتغذّون على طاقته وراحته.

عندما يسمع الإنسان في بداية الأمر عبارات الحب والإعجاب من الآخرين، تنتابه البهجة والسعادة، لكن ما يلبث أن يتحوّل هذا الأمر إلى عبءٍ كبيرٍ عندما تُستهلك طاقته، ويُصبِح غير قادرٍ على العطاء، فينظر من حوله، فلا يجد أيّاً من أولئك الذين ساعدهم وضحّى لأجلهم، فهم اعتادوا على الأخذ وليس العطاء، فتكون النتيجة بعد ذلك انهيار حياته غير مدركٍ أنّ الخطأ يكمن فيه هو.

2. 2. الخلط بين الحقّ والإيثار:

يقع الكثير من الناس ضحايا للاستغلال؛ وذلك بسبب تشوّه الموروثات المجتمعيٍة، فقد بُرمجنا على أنّ مَن يتمسّك بحقه ويدافع عنه يكون شخصاً أنانياً وسلبياً، وأنّ مَن يُفضِّل الآخرين على نفسه يكون شخصاً إيجابياً.

على سبيل المثال: إن كنت تملك زجاجةَ ماء، يعني أنّ هذه الزجاجة من حقّك؛ وكان هناك شخصٌ آخر، قد استهلك ما لديه من ماء، يطلب منك أن يشرب من زجاجتك. في هذه الحالة، من حقّك أن ترفض ذلك، وفي حال سماحكَ له بالشرب ستكون قد قدّمت إليه إيثاراً وقيمةً عاليةً وراقيةً جداً.

إنّ الخلط الحاصل في مجتمعنا بين مفهومي الإيثار والأنانية أدّى إلى فوضى في المنظومة المجتمعية، فقد اعتبِرَت حالة الإيثار هي الأصل، في حين اعتُبِرَ أنّ حالة التّمسك بالحق وعدم التنازل عنه أنانيّة وسلبيّة.

نحن لم نعتد على جعل ذاتنا في المرتبة الأولى، فعلى سبيل المثال: إن كنتَ تدرس وكنتَ مُنهمكاً في حلّ مسائل رياضيّةٍ مُعقّدة، وفجأةً رنّ جرس الباب، وفتحت لترى صديقك آتٍ لزيارتك دون سابق إنذار. في هذه الحالة، يُعدّ اعتذارك عن استقباله بطريقةٍ مهذّبةٍ وراقيّةٍ حقّك الطبيعي، فأنت ببساطةٍ غير مستعدٍّ لهذه الزيارة ولديك أعمال هامّة أخرى لتقوم بها، وقد خصّصت لها هذا الوقت تحديداً.

وفي حال استقبالكَ له، فستجلس معه وأنت تشعر بعدم الراحة والسعادة؛ لأنّ تفكيرك سيكون في دراستك. وفي هذه الحالة، ستكون ظالماً لنفسك، وستكون مُخالفاً لتعاليم اللّه الذي أمرنا أن نبدأ بأنفسنا، وأن نشحنها بالسّعادة والراحة، ثمّ نعطي الآخر.

إنّ ظلمنا لأنفسنا وتفضيلنا الآخرين عليها، سينعكس سلباً على كلّ جوانب حياتنا، وسيخيم الظلم عليها، وتعمّ الفوضى أرجاءها.

الإنسان المُكتمِل هو الإنسان الذي يهتمّ بحقوقه وحرّيته، ولا يأبه بكلام الآخرين أو نظرتهم إليه. وذلك يكون ضمن ما فرضه الله، مع مراعاة مصالح الآخرين، بحيث أنّ ما يقوم به لا يضرّ بهم.

2. 3. الخلط بين الإيثار والتضحية:

كثيراً ما نسمع هذه العبارة: “إنّني أُضحِّي من أجلكم، لقد آثرتكم على نفسي”، إلّا أنّ هنالك فارقاً شاسعاً بين التضحية والإيثار؛ فالتضحية هي: عطاء الآخرين مع انتظار المقابل منهم (قد يكون المقابل مديحاً أو تقديراً أو أفعالاً إيجابية)، وتكون مركزية التضحيّة هي الأنا. أمّا الإيثار فهو: إعطاء الآخرين دون انتظار مقابل منهم.

المعيار الفاصل بين التضحية والإيثار هو استجابة الشخص في حال عدم حصوله على مقابل؛ فإن استشاط غضباً، فهذا يعني أنّ عمله تضحية؛ أمّا إن بقي هادئاً ومستقراً، فهذا يعني أنّ عمله إيثارٌ.

يتبنّى الشخص المُضحِّي علاقة (خسارة – ربح)؛ أي أنّ ما يهمّه هو إرضاء الآخرين على حساب راحته وسعادته. لكنّه يصل مع مرور الوقت إلى مرحلة شحّ الطاقة، دون أن ينال ما ينتظره من مقابل، الأمر الذي سيجعله يتحوّل مُتّخذاً مساراً سلبياً أكثر سوءاً، كأن يتحوّل إلى علاقة (ربح – خسارة)؛ أي أنّ ما يهمّه في الحياة هو إرضاء ذاته بغض النظر عن الآخرين؛ وإن سبّب الأذى لهم، وهذا ما يسمّى بالأنانية.

إنّ من يعاني من الأنانية ستتحوّل حياته إلى جحيم، وسَيُبعِد الجميع من حوله، وقد تتطوّر هذه الحالة السّلبية إلى درجة تبنّيه علاقة (خسارة – خسارة)، وهي حالة تسبق الانتحار، حيث يعتقد الشخص أنّه خاسرٌ لكلّ شيء، فلا يهتمّ بما يفعل من أمور سلبية تجلب المشكلات إليه وإلى مَن حوله.

2. 4. أخطاء في التربية:

تعتمد غالبية النساء على أساليب خاطئةٍ في التربية، حيث ينسينَ أنفسهنَّ مقابل تلبية جميع متطلّبات أولادهنّ، فيكبر الأطفال وهم مؤمنون بأنّ والدتهم ليس لها أيّ حقوق، وأنّها مُسَخَّرةٌ لخدمتهم فقط؛ فيعتادون على الأخذ دون العطاء، متحوّلين إلى أشخاصٍ أنانيين تصرّفاتهم غايةٌ في السّلبية. فإن مرضت والدتهم، فلن يكون لديهم الصبر للبقاء بقربها والاعتناء بها، وعوضاً عن ذلك، سيضعونها في دارٍ للعجزة.

فعلى الأمّهات الوعي لهذه الجزئيّة، وتلافي الأخطاء في التربية، وتعويد أولادهنَّ أنّهم شركاء فعليون في كلّ شيء: يأخذون ويعطون. هكذا هو قانون الحياة.

وعليهنّ الاعتناء بأنفسهنّ أولاً، ومن ثم بأولادهنّ؛ تبعاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [سورة المائدة: الآية 105].

من جهةٍ أخرى، من الممكن أن يكون الأبناء ضحيّةً للآباء؛ حيث يتبنّى بعض الأبناء سياسة الطاعة المطلقة، ويفهمون الطاعة على أنّها تفضيل أهلهم على أنفسهم، وهذه السياسة تُرتّب عليهم تفاصيل مُرهقة؛ ففي حال رفضهم طلبَ الأهل في مرة من المرات، فسيُجابَه هذا الرفض باستنكارٍ رهيبٍ من قبل الأهل الذين اعتادوا على تضحية أبنائهم.

إذاً فالحلّ المناسب لكلّ العلاقات الأسرية والاجتماعية، أن يتبنّى الإنسان علاقة (ربح – ربح)؛ أي أن يستفيد ويفيد، وبالتالي تصبح العلاقات أكثر استقراراً ورقياً.

3. علاج الاستغلال:

3. 1. اعلم أنّكَ أنتَ السبب:

عند وقوعك في حالة استغلال، عليك أن تتأكّد أنّك السبب فيها؛ لأنّ إدراكك لهذه الجزئية، سيجعلك قادراً على حلّ المشكلة. فالمُستغِل لا يستغل إنساناً، إلّا إذا كان هذا الإنسان مُهيّئاً نفسياً للاستغلال.

3. 2. التحوّل إلى علاقة (ربح- ربح):

عليك أن تتبنّى علاقة (ربح- ربح)؛ أي أنّ كلا الطرفين مُستفيدين، على أن تكون أنتَ المستفيد الأول. وتأكّد أنّه لا يوجد استفادةٌ من دون إنفاق؛ قال تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [سورة آل عمران: الآية 92]، والإنفاق هنا لا يعني إنفاقاً مادياً فقط، بل إنفاقاً عاطفياً وروحياً وجسدياً وعلمياً.

عندما تتحوّل إلى هذا النمط من العلاقة، ستواجه الكثير من التعليقات السلبية، فلقد اعتاد الآخرون أن تكون شخصاً مُضَحِّياً، لذلك عليك أن تحافظ على هدوئك وصبرك، ريثما تمرّ هذه المرحلة ويعتادون على نمط علاقاتك الجديد.

3. 3. التمسّك بصورتنا الأصلية:

لكلٍّ منّا صورةٌ أصليةٌ تدلّ على الذات الحقيقية (الفطرة)، وهي تُعبِّر عن نظرة الله إلينا. في المقابل، لكلٍّ منّا صورةٌ مُزيّفة (تدعى الأنا)، مثل: الهندام والشكل والبريستيج والمال، تُعبّر عن نظرة الناس إلينا.

إنّ ما يهمّ حقيقةً هو نظرة الله إلينا، وليس نظرة الناس. فإذا تبنّيتَ أوامر الله؛ بألّا تظلم نفسك، وأن تهتمّ بحقوقك وحريّاتك أولاً؛ عندها ستكون تصرفاتك مبنيّة على هذه القناعة، ولن تعود نظرة المجتمع هامّة بالنسبة إليك. قال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة التوبة: الآية 13].

الخلاصة:

علينا أن نعلم أنّنا مَن يجذب المُستَّغلين إلى حياتنا، وأنّ في استطاعتنا إبعادهم عنها؛ بأن نتبنّى الحلول الوسطى والمعتدلة في علاقاتنا، أي نمط (ربح – ربح)، فهل هنالك أحق من ذاتنا الإنسانية بالاهتمام والإحسان والمعروف؟

آن أوان نفض الغبار عن موروثاتنا المجتمعية؛ كي نصل إلى حالة متوازنة، نستطيع من خلالها أن نعي حدود تضحياتنا، وأن نقرّر بإرادتنا متى نُؤثِر الآخرين على أنفسنا.

وبهذا نصل إلى السعادة الحقيقية في حياتنا.

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!