أشاع كثيرون ممّن كانوا أصدقاء أنّي كئيب، وبالغوا في سرد الحكايات القصيرة عن كآبتي الفريدة، فقال أكثرهم مرحاً إنّي أتجنّب النظر إلى الرغيف الساخن حتى لا أضطرّ إلى شبه الضحك، وعبّر أحدهم عن قناعة بأنّي أخشى التمادي في الابتسام كي لا تظهر الفراغات الواسعة في أماكن الأضراس، أما الصديق السياسي فرأى في عبوسي دهاء، كي أتجنّب ضرائب بأثر رجعي على الضحك الزائد، وذهب الرابع إلى تأريخ آخر محاولة لي للضحك، وقدّرها بأنها تعود للعرض التلفزيوني الأول لـ العيال كبرت.. ومبالغات وخرافات كثيرة كنتُ أسمعها وأمرّرُ لساني نحو الضرس الأخير.
لكنّي ضحكت! صحيحٌ أنّي لا أذكر تاريخاً محدداً للواقعة النادرة، ولا سببها (ربّما كانت بلا سبب)، كما لا أملك أيّ وثيقة مصوّرة تثبتُ ادّعائي، إلا أنّه يبدو من غير الطبيعي أنّي لم أضحك ولو لمرّة واحدة طوال حياتي القصيرة.. ربّما ضحكتُ لطفلة سارحة على كتف أمّها في عيد صغير، ومن الممكن أنّي شاهدتُ مجذوباً يقذف صوت الرصاص من فمه ويتهيأ حرب شوارع، أو حاولتُ توريط امرأة سهلة وممتنعة بحبٍّ من الضروريّ أن يبدأ بالضحك، ومواقف أخرى قد تبدو متناقضة، فربّما أني في هزيمة شخصية أو جماعية حين كدتُ أن أبكي.. ضحكتْ.
وجهي كئيب، ويقطع الملح من البحر الميّت، لا أنكر، وفوق ذلك أهمل حلاقة ذقني فتزيد عتمته، وأحياناً يكون كرغيف مسّه الحرق. ليس هذا ذنبي، فقد حاولت بجهد كبير تجاوز المؤثر الجيني القديم، وتحدي أجواء البيئة التعيسة، فاستعنتُ بأفلام عادل إمام حين كان ريفياً ساذجاً يفقد ملابسه في روما، وبمسرحية لسعيد صالح وهو شاب طائش يذهب إلى المدرسة في ذكرى المولد النبويّ، وشاهدت عبد الحسين عبد الرضا في ورطته اللندنيّة، وكذلك كلّ التحولات الفكاهية لناصر القصبي، لكنّي لم أضحك، رغم أنّي اجتهدت بفكّ عضلات الوجه، ولما يئستُ استبدلت تذكرة السيرك بفيلم البؤساء.
لا صورة حلوة في خزائني، كلّ صوري الشخصية بالكاد تصلح للتجنيد العسكريّ الإجباري، وهناك صورة لافتة بوضعية القرفصاء يمكن أن توضع على غلاف الطبعة الشعبية لكتاب الاكتئاب مرض العصر، وإذا غضبتْ أمٌّ من عبث طفلها ونزقه، يرعوى إن وضعت أمام عينيه برواز صورة لي أثناء تخرجي في الجامعة، حين كنتُ أحدِّق ساخطاً على النظام العالمي الجديد. حملت الخطّابات صوري العابسة إلى الفتيات المقترحات للزواج، ولم أسألهنّ عن الردّ، كنتُ متأكداً أنّي لا أجيدُ الحياة السعيدة، ولن يسعدني الوقوف مبتسماً، بلا ضرورة، في صورة جماعية.
لم أضحك رغم أني صادفتُ أسباباً كثيرة للضحك، فقد فاز المنتخب الوطني على الجار الشرقي بعد خسارات كثيرة، وقالت الأرصاد الجوية إنّ انخفاضاً ملموساً سيطرأ على درجات الحرارة، ووعدت بطقس ربيعي يبعث على الإنجاب والتفاؤل، ورزقتْ جارتي بطفل بعد سبع بنات، وأسمته شحادة حسب التقليد، ورأيتُ ألعاباً نارية في وسط المدينة، ولم أسأل عن سبب الابتهاج العام، فقد فضّلتُ عدم الاندماج فيه، وأخذتُ جرعة زائدة من أغنيات عراقية محفوظة في مسجّلة سيارتي، واستمعت لبكاء داخلي على أحزان قديمة، بالغتُ بالعبوس، وانعقد الحاجبان.. كل هذا في زحام العيد الكبير في شارع السعادة.
.. صديق خامس فسّر حالتي، ووجدتُ أنّه اقترب من الحقيقة، فهذا الصديق النبيه قال إنّ لدي رغبة جادة بالضحك، وإني أملك كلّ أسبابه، وأسناني مكتملة من الضرس إلى الضرس، لكني أخشى الموت من الضحك.
اضحك.. من أجل الصورة!
أشاع كثيرون ممّن كانوا أصدقاء أنّي كئيب، وبالغوا في سرد الحكايات القصيرة عن كآبتي الفريدة، فقال أكثرهم مرحاً إنّي أتجنّب النظر إلى الرغيف الساخن حتى لا أضطرّ إلى شبه الضحك، وعبّر أحدهم عن قناعة بأنّي أخشى التمادي في الابتسام كي لا تظهر الفراغات الواسعة في أماكن الأضراس، أما الصديق السياسي فرأى في عبوسي دهاء، كي …
Source: alghad.com