اقترب كأنّك بحر… ابتعد كأنّك سفينة

-1- خلق الله الحرب على هيئة المطر بروق ورعود ثمّ مطر ولكنّ الحرب تخرج عن النصّ أحيانًا كأن تمطر القنابل من دون إنذار إنذار سريع حتى لو قبل دقائق معدودات تتيح للعجوز أن تدخل الدوابّ إلى الحظيرة وللـ»ــدكّانجيّ» أن يلمّ السكّر والضوء ثم يقفل الباب يا ربّ ماذا يجري؟ لو أنّك صنعت حربنا على هيئة […]

اقترب كأنّك بحر… ابتعد كأنّك سفينة

[wpcc-script type=”251d89e4f21c37cf4c8b15bc-text/javascript”]

-1-

خلق الله الحرب
على هيئة المطر
بروق
ورعود
ثمّ مطر
ولكنّ الحرب
تخرج عن النصّ أحيانًا
كأن
تمطر القنابل من دون إنذار
إنذار سريع
حتى لو قبل دقائق معدودات
تتيح للعجوز
أن تدخل الدوابّ إلى الحظيرة
وللـ»ــدكّانجيّ»
أن يلمّ السكّر والضوء
ثم يقفل الباب
يا ربّ
ماذا يجري؟
لو أنّك صنعت حربنا
على هيئة الثلج؟
نستسلم فجأةً للبياض
البياض الذي يسبقه دفءٌ غامض
الثكنات بيضاء
الطائرات الجاثمة
بيضاء
الأخبار العاجلة
بشريط أبيض
أبيض
حرب بيضاء
تذيقنا البرد
والسكينة
والصمت
والأمل
والخوف
كلّما هبط «مرهم الله»
وأنعش الجرح الأبدي
وطرد جميع الأوان
في الحرب
الحرب التي «انحسبت علينا»
مرّت النياشين قرب المقبرة
مرّ منتصرون بأصابع مبتورة
مرّ نازحون بغابات وقطّاع طرق
مرّت ميليشيات برايات ملوّنة
ألوان
تحك جلد الجغرافيا
بـ»خفّافات»
لا تعدو في ملاعب الكرة
بـ «أساطير»
يرطنُ بها الغرباء
لو كانت الحرب بيضاء
بيضاء يا إلهي
لما عثرت الذئاب الرماديّة
على الخراف
لما عرفت الطائرة
أين يقع البيت.

-2-

باب بيتنا هناك
الجرح الأبدي
الذي سال منه الطحين والملح
ظلّ ينزف وينزف
سال أبي ونحن صغار
ثمّ سلنا وراءه
واحدًا واحدًا
وحدها أمّي هناك
تضمّد جرح الدار
تفتحه في الصباح للشمس
وفي المساء توقد روحها
وتغلقه
كي ننام.

-3-

كان جدّي بيتًا واحدًا
بيتًا كبيرًا
يقصده الفقراء والمجاذيب
وأصدقاؤه الهاربون من الجندرمة
قبل خمسين سنة
تناثر الأبناء في خمس قرى
صار جدّي خمس أصابع
ظلّت في كفٍّ واحدة
قبل ثلاثين سنة
تزوّجنا نحن الأحفاد
صرنا 30 بيتًا
ولكنّنا ننتمي إلى شهرٍ واحد
والآن
هاجر أولادنا إلى دول كثيرة
وصار جدّي قصيدة
بمئة بيت
تمامًا مثل معلّقة من الشعر الجاهلي
أو خرزٍ قديم
في «مسباح» الصوفيّ
أمّي تقول لي
سيختارون منكم عشرة أبيات
في قصيدة
فلا تكونوا غامضين
كي لا يشتمكم الطلّاب
ولكن
ما جدوى كلّ هذا يا جدّي؟
إذا سمّعوا لي
فسأقرأ ذلك البيت القديم وحسب
البيت القديم
بالباب
والنوافذ
والحوش
البيت الذي سمّيته
بيت القصيد.

-4-

حيث ينمو العشب
ثمة عظامٌ في الأعماق
عظام موتى، لصوص، عابري سبيل، قوّادين، رعاة، جنود
أطفال، أحصنة، ذئاب، فاتحين، ملوك هاربين، نساء صغيرات
طيور «كما طارت وقعت».
في الصحراء لا يموت أحد.
قال جدّي
في الصحراء لا يحيا أحد.
قالت «حبّابتي».
أنظر بخوف إلى نبتة شوكية
يسمونها «القندريس»
وأرى ذئبًا عائدًا إلى الحياة
أمدّ يدي برفق
فتعضّني الوردة الشرسة
هل قال الفرزدق «وأطلسَ عسّالٍ»
وهو يمدّ يده إلى شوكة؟
في ذلك الربيع
تمدّدت على بساط العشب
«الحرفيش» والخبّازى، والدردار، والسُّعد
تمدّدت بين يدي موتى
جنود قبل 2000 عام
ماتوا بالطاعون
نساء قبل 500 عام فاجأتهنّ صاعقة
خراف راعٍ مسكين
ذبحت دفعة واحدة كرمى لملكٍ عابر
ونظرت إلى الدردار برفق.
حين تطير الشرارات البيضاء
(كسّار الزبادي) كما يقول الشّوام
أعرف أن طائرًا ما
مات قبل مئات الأعوام
بسهمٍ طائش
أنظر إلى السوريين
المتناثرين في المنفى
وأقول:
بعد سنين
ستجّزنا «حشّاشات» عشب غريبة
بأيدي سائقين أفارقة
لا أريد أن أكون عشبًا بعد الموت
هذه أمنية شعراء سابقين
أريد أن ينمو العشب فوق عظامي
وحين يمرّ جديٌ صغير
سيدغدغ ساعدي برفق
كي أنفضها بهدوء
وأرى المطر
مات جدّي
وأقام فوق تلّ
في نيسان ينمو عشبٌ
فتعرف «حبّابتي»
أنّه اشتهى أن تطبخ له الخبّازى

-5-

لا تبحث عن السبب
حين تجد غيمة
تظلُّكَ في الصيف
خذ أغنامك إلى الحقل
وارفع يديك عاليًا
لتكونا أوّل من يستقبل المطر

-6-

نحن الذين هبطنا الجبل
حملنا في جيوبنا حجارة
كنا نحذف بها الماعز
وبنينا بها بيوتا
وحكايات
عن الشمس التي ضاعت
في ليل المدينة

-7-

لسْتُ حزينًا
ولستُ خائفًا
كما أنّني لست فرحًا
شيءٌ ما يحدثُ بعدَ الحزن
يحدث
بعد الشعور عمومًا
كأنّي أرى ما سيحدث
منذ ألف سنة
أراهُ مثل مدمني المسلسلات الطويلة
كأنّ الولد الذي ضاع في السوق
سيعود في في الحلقة الألف
قبل أن تغادر شهرزاد
الشعوب ذاتها
تتنزّه في التاريخ
المرأة الحزينة ذاتها
في سوق نخاسة جديد

الشعوب
التي
تشوي
الذرة
في
كلّ
ربيع
لا تقل: «ثمّ جاء الملح»
الملح يأتي آخِر الأمر
هذا ما تقوله الأمّهات
وهنّ يقلّبن طبيخًا متقشّفًا
لا
يحتمل
الملح
فظاظة
النار
حتّى كأنّ الأمرَ
لا يعنيني
فأهرب إلى مباراة كرة
وأنظر إلى العشب المشوّه
عند منطقة الجزاء
وإلى الصبيّةِ المراهقة
تحمل علمًا ملوّنًا
أو أنتظر الدقائق الأخيرة
بقلبٍ واجف
كمدرّبٍ ينتظر نقطة واحدة
لينجو من السقوط
ولكنّني أسقط
وأعود إلى الساعة في يدي
والشمس التي تغادر النافذة
لا خائفًا
لا حزينًا
ولا «فرحان»
حتّى إنّ ورقات الخسّ
جانب جهازي
لا تعنيني أبدًا.

-8-

لا أدري من صنع هذا الدرب؟
أقدام مَن؟
ربّما وأنا أفكّر بسردية الأقدام
في الشتاء والصيف
نسيت قبائل النمل التي تحصد العشب
في تلك البقعة البعيدة
أو قائد الدبابة
التي مرّت من هنا
أو دبيب العشب خلف المطر
لا أدري
في الصباح وأنا أركض في الدرب ذاته
خلف الريح الصغيرة
كنت أظنّ أن القرى تمدّ بينها الدروب
كحبال الغسيل بين جدارين
ثم تنشر بينها الماعز
والفتيات الباحثات عن الكعّوب
في الشتاء
يقول لي الدرب إنّ الشعراء لا يعرفونني جيدًا
ويتغنّون بي
أنا جرح الجغرافيا المديد
الجرح الذي لم يلتئم
لا المتنبّي
ولا دون كيشوت
يعرفان أن الدرب وشى بهما
حين غنّيا طويلًا هنا
ووصل طرف الأغنية
أجيالًا على بعد 1000 سنة
كان الدرب مثل سلك تلفون قديم
وشى بكلّ شيء
الدرب الذي أنظر إليه
حين يركض الصباح
في ثياب الرياضة
أو يفلت الطفل من أبيه الغاضب
فأقول: الدرب دليل
لكنّي حين أرى الدبّابات
تمشي في الحروب
أسحب تعريفي بهدوء
فكيف أسير على درب
تثغو فيه الطلقات
الطلقات التي لن تكون عشبًا.

٭ شاعر سوري

*الصورة للفوتوغرافي السوري عبود حمام.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *