إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأبرار، الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا وإذا حضروا لم يُعرفوا، مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة، فاحرص على طاعة الله، فإن ظهر أمرك واشتهر حالك فعش حياة العبودية لربك، واصرف هذا الظهور فيما يقربك من مولاك، وإلا فكن واحدا من هؤلاء الأفاضل، واعلم أن الله سبحانه مطلع ورقيب، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه…{ يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد } المجادلة: 6
حدير وما أدراكم ما حديرsize=3>
أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة رواية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث جيشا فيهم رجل يقال له: حدير وكانت تلك السنة قد أصابتهم سَنَة [ شدة ] من قلة الطعام، فزودهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونسي أن يزود حديراً، فخرج حديرٌ صابراً محتسباً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب’ فهو يرددها وهو في آخر الركب.
قال: فجاء جبريل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديراً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب. قال: فكلامه ذلك له نور يوم القيامة ما بين السماء والأرض، فابعث إليه بزاد.
قال: فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلا فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك وإن ربي تبارك وتعالى أرسل إليّ جبريل يذكرني بك، فذكره جبريل وأعلمه مكانك.
قال: فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب.
قال: فدنا منه ثم قال له: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ورحمة الله وقد أرسلني إليك بزاد معي ويقول:إني نسيتك فأرسل إلي جبريل من السماء يذكرني قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: الحمد لله رب العالمين ذكرني ربي من فوق سبع سماوات ومن فوق عرشه ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك.
قال فحفظ ما قال ورجع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره بما سمع منه حين أتاه وبما قال حين أخبره، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نوراً ساطعا ما بين السماء والأرض”.
نسي التاريخ حديرا ونسي أن يحفظ لنا اسم أبيه وأمه، ومن أي قبيلة هو؟ وفي أي عام ولد؟ وفي أي عام مات؟ وكيف مات؟ لكن ربه لم ينسه، ذلك بأن ربك لا ينسى أولياءه المتقين وإن نساهم الناس، ويعرف أولياءه الصالحين وإن جهلهم الناس:{ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } الرعد:9
size=3>
عمير بن سعد نسيج وحده
size=3>ابن شهيد بن قيس بن النعمان بن عمرو, الأنصاري الأوسي, العبد الصالح الأمير, صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
روى ابن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة , عن عبد الرحمن بن عمير بن سعد , قال لي ابن عمر : ما كان من المسلمين رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من أبيك .
وروى هشام, عن ابن سيرين: كان عمير بن سعد يعجب عمر ; فكان من عجبه به يسميه: نسيج وحده.
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الملك بن هارون بن عنترة: حدثنا أبي, عن جدي: أن عمير بن سعد, بعثه عمر على حمص ; فمكث حولا لا يأتيه خبره. فكتب إليه: أقبل بما جبيت من الفيء. فأخذ جرابه وقصعته, وعلق إداوته, وأخذ عنزته, وأقبل راجلا. فدخل المدينة, وقد شحب, واغبر, وطال شعره. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: ما شأنك ؟ قال: ألست صحيح البدن, معي الدنيا ! فظن عمر أنه جاء بمال, فقال: جئت تمشي ؟ قال نعم. قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة ؟ قال: ما فعلوا, ولا سألتهم. قال: بئس المسلمون ! قال: يا عمر, إن الله قد نهاك عن الغيبة. فقال: ما صنعت ؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه, ولو نالك منه شيء, لأتيتك به. قال: جددوا لعمير عهدا. قال: لا عملت لك ولا لأحد.
وذهب إلى منزله على أميال من المدينة. فبعث عمر رجلا بمائة دينار, وقال: انزل بعمير كأنك ضيف, فإن رأيت أثر شيء فأقبل ، وإن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة. فانطلق, فرآه يفلي قميصه. فسلم. فقال له عمير: انزل. فنزل. فساءله, وقال: كيف أمير المؤمنين ؟ قال: ضرب ابنا له على فاحشة, فمات .
فنزل به ثلاثا, ليس إلا قرص شعير يخصونه به, ويطوون. ثم قال: إنك قد أجعتنا. فأخرج الدنانير, فدفعها إليه. فصاح, وقال: لا حاجة لي بها, ردها عليه. قالت المرأة: إن احتجت إليها, وإلا ضعها مواضعها. فقال: ما لي شيء أجعلها فيه. فشقت المرأة من درعها, فأعطته خرقة, فجعلها فيها ، ثم خرج يقسمها بين أبناء الشهداء.
وأتى الرجل عمر ; فقال: ما فعل بالذهب ؟ قال: لا أدري. فكتب إليه عمر يطلبه. فجاء, فقال: ما صنعت الدنانير ؟ قال: وما سؤالك ؟ قدمتها لنفسي. فأمر له بطعام وثوبين. فقال: لا حاجة لي في الطعام ; وأما الثوبان, فإن أم فلان عارية. فأخذهما, ورجع.
فلم يلبث أن مات… وذكر سائر القصة.
ويقال: زهاد الأنصار ثلاثة: أبو الدرداء, وشداد بن أوس, وعمير بن سعد.
أولئك أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا أنقى هذه الأمة قلوبا، وأكثرها علما، وأقلها تكلفا، أولئك هم الأتقياء الأخفياء علت همتهم فلم تتلاعب بهم الدنيا، ولا تطلعوا لمال أو منصب أو جاه، لقد كانت حياتهم ترجمة لمعاني الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – نبياً، لسان حالهم ومقالهم { وعجلت إليك رب لترضى } طه: 84 عاشوا بالإسلام وللإسلام، مشوا بأرجلهم على الأرض وقلوبهم معلقة بخالق الأرض والسماوات.
اللهم إنا نحبهم فارض عنهم واحشرنا في زمرتهم يوم القيامة.