كان العام العاشر للبعثة عاما ثقيلا، خيم فيه الحزن على بيت النبوة، وألقى بظلاله على جنباته حتى عُرِف في التاريخ بعام الحزن، ففي هذا العام مات أبو طالب؛ ففقد النبي صلى الله عليه وسلم الظهير أو النصير الخارجي الذي كان يحوطه ويرعاه، ويدفع عنه أذى المشركين، فلا يتجرأ أحد أن يصل إليه بأذى.. ولكنهم بموت أبي طالب امتدت ألسنتهم وأيديهم بالأذى إليه، ونالوا منه ما لم يكونوا ينالونه من قبل.
وبعده وفاة أبي طالب بقليل توفيت زوجه خديجة، الظهير والنصير الداخلي، التي كانت تمسح عنه الأسى، وتخفف عنه ما يناله من أذى، وتزيح عنه الهموم والغموم.. ماتت فكانت تلك مصيبة أخرى.
اشتد أذى المشركين عليه وعلى أصحابه، وزاد عنادهم؛ وتسلط عليه سفهاؤهم، وناله ما لم ينله من قبل؛ فخرج إلى ثقيف يبحث عن نصير يمنعه ليبلغ رسالة الله، لعله يجد قلوبا أطيب وعقولا أرجح، تقبل دعوة الله، أو يؤونه حتى يبلغ رسالة الله، ويكونون قاعدة للانطلاق للدعوة للعالمين.. لكنه لما أتاهم ودعاهم إلى الله، إذا بهم أجساد بلا أرواح، وأدمغة بلا عقول، وقلوب أقسى من جلاميد الصخر، وجدهم أشد إسفافا وعنفا، قلوب قاسية، ونفوس خاوية، وعقول متحجرة، ألسنة فاحشة، وسفاهة لا حد لها، حتى سمع منهم ما لم يسمعه من قريش ونالوا منه ما لم ينله منه سفهاء قريش.. أغروا به سفهاءهم فجعلوا يسبونه ويرمونه بالحجارة؛ حتى خرج من عندهم في أشد حالات الأسى والألم، يهيم على وجهه ويشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته فدعا بهذه الدعوات (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس).
فكانت الإجابة مباشرة بإرسال ملك الجبال يعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين، فلا كانوا ولا وجدوا، فأبى وقال بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله.
رحلة التكريم
ثم أراد الله سبحانه أن يسليه، ويسري عنه، ويطيب خاطره، ويضمد جراحه، ويخفف عنه ما لقيه في رحلة ثقيف من الأذى، ويؤكد له أن السماء لم تتخل عنه، فاستدعاه في رحلة العجائب، رحلة الإسراء والمعراج.
فكانت رحلة تعزية وتسلية لرسول الله بعد فقد عمه وزوجته نصيريه في الأرض.. وكانت تثبيتا لقلبه، ومواساة بعد عشر سنين متواصلة من المشاق والعنت والجهاد ومالقيه من المشركين فيها.
يا ليلة الإسراء أنت عظيمة .. كم فيك من عبر وفيك معاني
فجع النبي بزوجه وبــعمه .. .. وأذيق بعــدهما عظيمَ هوان
فمضى حزينا صابرا لا يشتكي .. والله مطــلعٌ عليه وحاني
فأراد إكــرام الرسول برحلة .. ليزيل ما كان الحبيب يعاني
سبحان من أسرى به من بيته..ليلا إلى الأقصى خلال ثواني
فما هو الإسراء والمعراج؟
أما الإسراء: فهو رحلة أرضية تمت بقدرة الله عز وجل انتقل فيها النبي صلى الله عليه وسلم برفقة جبريل من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، حيث جمع الله له جميع الأنبياء فصلى بهم إماما.. ثم من هناك بدأت رحلة المعراج.. فما هو المعراج؟
المعراج: رحلة سماوية تمت بقدرة الله عز وجل، عرج فيها برسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه جبريل من المسجد الأقصى ببيت المقدس إلى السماوات العلا، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم حيث شاء الله من العلى، حيث قربه الله إليه فكان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى إليه ربه ما أوحى، وأراه من آياته الكبرى، ما كذب الفؤاد ما رأى، وما زاغ البصر وما طغى.. وهناك فرض الله عليه الصلوات الخمس.. ثم عاد صلى الله عليه وسلم في نفس الليلة إلى مكة قبل أن يبرد فراشه، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
الإسراء في القرآن والسنة
رحلة الإسراء آية من آيات الله الباهرة، ودلالة على قدرة الله القاهرة، ومعجزة محيرة لعقول الإنس لأنها قاصرة؛ وعلامة من علامات النبوة ظاهرة؛ ولذلك ذكرها الله سبحانه وأثبتها في كتابه في سورة كاملة سماها باسم الإسراء، وبدأها بالتسبيح والتقديس والتنزيه لذاته حتى يدلل على أنه أمر هائل لا يستطيعه إلا الملك سبحانه.. وحتى لا يكون أمام أحد عذر للتكذيب، إذ لا يحل لأحد أن يكذب بها أو أن ينكرها بعد أن ذكرها الله في قرآنه فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء:1).
والمعراج ذكره الله تعالى في كتابه أيضا سورة النجم، وإن لم يذكره باسمه إلا أنه أشار إليه إشارة واضحة، ودل عليه دلالة ظاهرة فقال: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم:12ـ18).
وقد اتفق عامة المفسرين على أن الآيات تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفوا فيمن رآه النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو الله سبحانه، أو هو جبريل، وجمهورهم على أنه رأى جبريل للمرة الثانية على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، بعد أن كانت الأولى في مكة، وأن هذه الرؤية الثانية كانت في السماء عند سدرة المنتهى، وهذا دليل قاطع على المعراج.
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في سنته ما حدث له في الإسراء والمعراج جملة وتفصيلا، وروى عنه ذلك أئمة الصحابة، وذكره المحدثون والأئمة الحفاظ في كتبهم الصحاح منها كالبخاري ومسلم، وكتب السنن، والمسانيد، وغيرها.. وقد روى أحاديث الإسراء والمعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين صحابيا عدهم الإمام السيوطي واحدا واحدا وسماهم بأسمائهم، وذكر الإمام أبو الخطاب ابن دحية أن أحاديث الإسراء بلغت حد التواتر. الذي يفيد العلم اليقين القطعي الذي يوجب الإيمان به، ولا يحل لأحد إنكاره ولا لمسلم أن يرده، هذا مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم.
يقظة بالروح والجسد جميعا:
الإسراء والمعراج وقعا جميعا في ليلة واحدة، في اليقظة لا في المنام، وبجسده وروحه جميعا صلى الله عليه وسلم.. وعلى هذا جمهور العلماء سلفا وخلفا. وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ}، وهو الحق الذي لا مرية فيه، كما يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري: “إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء الحديث والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل”.
والإيمان بهذا من المهمات؛ ولذا ذكره أهل السنة في كتب العقيدة، كما قال الإمام الطحاوي: “والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى”.
ولهذا قال الإمام الطبري: “ولا معنى لقول من قال: أُسْرِيَ بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكراً عندهم ـ ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم ـ أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل “.
وهذا الذي ذكره الإمام الطبري هو عين الحق؛ لأنني لو قلت لك: إنني رأيت في المنام أنني ذهبت إلى أمريكا وزرت تمثال الحرية، ثم ذهبت إلى فرنسا وتجولت بها ورأيت برج إيفل، ثم ذهبت إلى إيطاليا وزرتها وزرت برج بيزا المائل العجيب، ثم بعد كل هذا ذهبت إلى الحرم فاعتمرت عمرة، وزرت البيت وطفت به.. كل هذا في منامي فهل ينكر ذلك علي أحد؟. لا.. أبدا.
ولو أن أحدا من الناس زعمه ما استطاع أحد أن ينكره عليه؛ لأن المنام شيئ واليقظة شيئ آخر، وكل الناس يرى في منامه العجائب.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر قريشا أنه رأى ذلك في منامه لما عارضوه، فلماذا صفق المشركون وصفروا وفعلوا ما فعلوا، لأنه قال ذهبت بنفسي وروحي وجسدي، فاستعظموه وأنكروه.
إن كان قال فقد صدق
رجع النبي صلى من هذه الرحلة العجبية، وقد انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، ولكنه أهمه كيف سيخبر قريشا بما حدث وهو أمر لا تكاد تقبله قلوبهم وعقولهم حينذاك؟
قابله أبو جهل ورأى حاله، فسأله، فأخبره بما حدث، فقال أبو جهل: “لو جمعت الناس تخبرهم بهذا؟” قال: نعم، وظنها أبو جهل فرصة، فجمع الناس وقال اسمعوا ما يقول، فقص عليهم النبي ما حدث وما رأى، فجعلوا يصفقون ويصفرون ويضحكون ويستهزؤون، ولم يتحمل بعض ضعاف الإيمان، وحديثي الإسلام الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم، فارتد بعضهم..
وظن بعض المشركين أنها الفرصة القاصمة التي لا تعوض، فأسرعوا إلى أبي بكر وهو أكبر المصدقين؛ لأنه إذا وقع وقع الكل..
هل سمعت ما يزعم صاحبك؟ ماذا يقول؟ قالوا: يزعم أنه أسري به إلى المسجد الأقصى وعاد في نفس الليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا!!.. وظنوا أنه سيكذبهم أو يكذبه.. لكنه قال قولته الشهيرة: أهو قال؟ قالوا: نعم. قال: إن كان قال فقد صدق.. إني لأصدقه فيما هو أعظم من ذلك، أصدقه في أمر الوحي يأتيه في أي لحظة من ليل أو نهار. فسمي من يومها الصديق. وحق له.
بعض الناس يظن أن أبا بكر كان درويشا، أو على أحسن تقدير مؤمن يصدق كل ما يقال له ـ وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.. لكن الحقيقة أن رد أبي بكر كان قمة العقل والدلالة العقلية مع الدلالة الإيمانية.. إنه يقول لهم بكل بساطة: إن الله تبارك وتعالى الذي يقدر أن ينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض في لحظة، ما الذي يمنعه أن يعرج بعبد من الأرض إلى السماء العلا في لحظة؟
إن المسألة متعلقة بقدرة الله وليس بقدرة البشر، فرسول الله لم يقل ذهبت، وإنما قال أسري بي.. فالذي فعل هو الله الذي لا يعجزه شيء، والقادر على كل شيء، إنما أمره إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
وهذا الذي فعله كفار قريش هو عين ما يفعله المنكرون والملحدون والزنادقة في كل زمان.. يتخذون من هذه المعجزة الباهرة تكأة للتشكيك في الإسلام، والطعن في القرآن، وفي رد سنة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام، وتشكيك ضعاف الإيمان، وهؤلاء أجهل الخلق بقدرة الله التي لا حدود لها..
وواجب المسلم عندما يسمع هؤلاء الكذبة والأفاكين أن يرد عليهم برد أبي بكر رضي الله عنه ويقول بأعلى صوته: إن كان قال فقد صدق.