وهذا محض افتراء ظاهر على الإسلام، فما من دين ولا مذهب في الحياة دفع الإنسان إلى العلم كما دفعه إليه الإسلام، إنه دفع الإنسان كلِّ الإنسان بشطريه الذكر و الأنثى إلى مجالات العلم المختلفة، وإلى ميادين المعرفة والبحث عن الحقائق، بكل قوة، إعلانًا منه أن الطريق الصحيح إلى معرفة الله والإيمان به، والاستسلام لشرائعه إنما هو طريق العلم.
أليس في الآيات التي بدأ الله بها الوحي لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم إعلان قوي لهذه الحقيقة؟
إن أول ما بدئ به من الوحي قول الله تعالى لرسوله محمد في سورة العلق: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5].
إنه لأمر بالقراءة باسم الرب الخالق، الذي خلق الإنسان كل الإنسان بشطريه الذكر والأنثى من علق ، وفي هذا إشارة إلى أن المخلوقات هي مجالات المعرفة التي تأخذ بيد الإنسان إلى معرفة الله، والبحث فيما خلق الله هو السبيل الأقرب والأقوم لطلاب المعرفة ومتتبعي الحقائق، أين كانوا وفي أي منهج علمي سلكوا.
ولقد بدأ الوحي بالأمر بالقراءة لأنها أهم وسائل تثبيت المعارف، ومتابعة حلقاتها، والقراءة إنما تكون بعد الكتابة، ومن أجل ذلك أظهر الله منَّته على عباده إذ علّم بالقلم، أداة الكتابة الكبرى، فعلَّم الإنسان كلَّ الإنسان بشطريه الذكر والأنثى ما لم يعلم.
وهذه الدعوة التي دعا الله بها الإنسان إلى العلم، منذ اللحظات الأولى التي بدأ بها إنزال تعاليم الإسلام، أكبر برهان يدل على التسوية التامة بين شطري الإنسان الذكر والأنثى، في ميدان دعوتهما إلى العلم والمعرفة، والتأمل فيما خلق الله، والدعوة إلى استخدام الوسيلتين المترابطتين ببعضهما، وهما القراءة والكتابة.
ولما كان العلم هو الطريق إلى معرفة الله والإيمان به، والطريق إلى معرفة الأحكام الدينية التي يكلفها الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، كان من المتحتم على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ما يهديه إلى هذه الأمور المسؤول عنها مسؤولية شخصية أمام الله.
فالإنسان كل الإنسان ذكره وأنثاه مبتلىً في هذه الحياة الدنيا، ومسؤول عن تصرفاته الإدارية كلها مسؤولية تامة، مادام متمتعًا بأهلية التكليف، وهي العقل والإرادة والاستطاعة.
ومسؤولية الإنسان عن تصرفاته تستلزم تكليفه ما يعرف به الحق والباطل، والخير والشر، والنفع والضر، والقبح والجمال، وحدود مسؤوليته أمام الله.
وقد حرص الإسلام كل الحرص على تعليم المرأة ما تكون به عنصر صلاح وإصلاح، في مجتمع إسلامي متطور إلى الكمال، متقدم إلى القوة والمجد، آمن مطمئن سعيد.
ولتحقيق هذا الهدف حرص على اشتراكها في المجامع الإسلامية العامة الكبرى منها والصغرى، فرغب بأن تحضر صلاة الجماعة، وأن تشهد صلاة الجمعة وخطبتها، وأن تشهد صلاة العيد وخطبتها وإن كانت في حالة العذر المانع لها من أداة الصلاة، وأمرها بالحج والعمرة، وحثها على حضور مجال العلم، وخاطب الله النساء بمثل ما خاطب به الرجال، وجعلهنَّ مندرجات في عموم خطاب الرجال في معظم الأحوال، حرصًا على تعليمهن وتثقيفهنَّ وتعريفهنَّ أمور دينهنَّ، ومشاركتهنَّ في القضايا العامة للمسلمين.
ونظرة إلى واقع الحياة تبدي لنا أهمية صلاح المرأة علمًا وخلقًا وسلوكًا داخل أسرتها، ثم في المجتمع الكبير، فبمقدار صلاح المرأة في الأسرة سيكون غالبًا صلاح النشء، والذرية فيها، وبمقدار فسادها يكون غالبًا فسادهم.
يضاف إلى ذلك ما لها من تأثير بالغ على الرجل، زوجًا كان أو أبًا أو أخًا، وأهمية صلاح المرأة لصلاح الأسرة أكثر من أهمية صلاح الرجل لصلاحها؛ لأن المرأة تستطيع أن تكون ذات أثر فعال مرشد أو مفسد، في تكوين أخلاق الأطفال الصغار وطبائعهم وعاداتهم أكثر من الرجل بكثير، وذلك لعدة أسباب:
1- منها ما وهبها الله تعالى غالبًا من عاطفة متدفقة، ولين في الطبع، وقابلية للاندماج والمشاركة في أمور الصغار على مقدار طبائعهم ونفوسهم، مما له أثر كبير في اكتساب حبهم وإحراز ثقتهم، حتى يتخذوها قدوة لهم في أقوالها وأعمالها وأخلاقها وسائر تصرفاتها.
2- ومنها واقع حال ملازمتها لأطفالها في أكثر أوقات نشأتهم، وهم ما يزالون بعد فطرة نقية، وعجينة لينة، قابلة للتكيف بالتقليد، أو بالعادة
ولما كان للمرأة كل هذا الأثر في تربية الطفولة داخل أسرتها أو خارجها، كان لابد من العناية بتكوينها تكوينًا راقيًا، والعمل على جعلها قدوة صالحة وأسوة حسنة، وذلك لا يتم إلا بتعليمها ما تكون به المربية الفاضلة، وتربيتها تربية إسلامية حسنة، والاستفادة مما وهبها الله من عاطفة رقيقة، لملء قلبها ونفسها بالإيمان والخير، حتى تغذي بهما الجيل الذي تتولى تنشئته وتربيته.
ولذلك كثيرًا ما نلاحظ أولادًا فاضلين مهذبين ثم نبحث عن سر الأمر فنعلم أن لهم أمًّا مربية فاضلة، تقية مهذبة، وإن لم يكن أبوهم على مثل ذلك، ونلاحظ أيضًا أولادًا فاسدين منحرفين، ثم نبحث عن سر الأمر فنعلم أن لهم أمًّا فاسدة، وقد يكون أبوهم صالحًا فاضلاً.
فلا عجب بعد هذه الموجبات لإصلاح المرأة علمًا وعملاً وخلقًا، حتى تكون مربية فاضلة، أن نجد الإسلام يحرص على تعليم المرأة، وأن يخصص الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء أيامًا يجتمعن فيها، ويعلمهنَّ مما علمه الله، إضافة إلى الأيام التي يحضرن فيها مع الرجال، ليتزودون من العلم ما يخصهنَّ، ويتعلق بشؤونهنَّ، مما ينفردن به عن الرجال، بمقتضى تكوينهنَّ الجسدي والنفسي، إذ بلغت عندهنَّ الجرأة الأدبية الطيبة أن يطلبن ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستجاب لهنَّ صلوات الله عليه.
يروي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: “جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله. قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمهنَّ مما علمه الله. ثم قال: “ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابًا من النار، قالت امرأة: واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنين”.
فهذه امرأة من الصحابيات تأتي الرسول صلوات الله عليه بجرأة أدبية مشكورة وتخاطبه برباطة جأشٍ فتقول له: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله.
وذلك لأن الرجال كانوا يحتلون مكان المقدمة من مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، فتوجه إليهم أكثر كلماته وعظاته وبياناته، ولئن كان الإسلام في دعوته وأحكامه وتكاليفه ومواعظه يتناول الرجال والنساء على السواء، فإن بعض مسائله وأحكامه خاص بالرجال، وبعضها خاص بالنساء.
أما الرجال فينالون حظهم من التعرف على ما يخصهم، إذ ليس بينهم وبين الرسول حجاب، ولديهم من الجرأة ما يسألون عن كل أمر من أمور دينهم، فهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك أينما حلوا وأينما ارتحلوا، لكن النساء لا يستطعن دائمًا أن يسألن عمَّا يخصهنَّ من أمور الدين، ويحللن به مشكلاتهنَّ، ولئن كنَّ يحضرن مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجال من دون اختلاط فإنهن ربما يستحيين أمام الرجال أن يسألن عنها.
لذلك كان تعليمهنَّ ما يخصهنَّ وحل مشكلاتهنَّ، لابد فيه من تخصيص مجالس لهنَّ تعالج فيها أمورهنَّ، وتوجه لهنَّ فيها الأحكام والمواعظ بحسب خصائصهنَّ النفسية والفكرية والخلقية والاجتماعية، وبحسب مسؤوليتهنَّ في الحياة، داخل أسرتهنَّ وخارجها، ولكل هذه الأمور طالبت هذه المرأة بتخصيص أيام للنساء يتلقين فيها ما يخصهنَّ من معارف دينية، ومن أجل ذلك استجاب لها الرسول صلوات الله عليه.
وهذا هو الحل الذي يتم فيه تعليم النساء، وإخراجهنَّ من ظلمات الجهل إلى النور المعرفة، حتى يؤدين رسالتهنَّ في الحياة على أحسن وجه وأفضله، وحتى يحملن مسؤوليتهنَّ كما يجب أن يحملنها، مع المحافظة على عفافهنَّ وأخلاقهنَّ، وعدم قذفهنَّ إلى مجتمع مختلط تسرع إليه مفاسد المجتمعات المختلطة، وتشب فيه نيران الشهوات العارمة، التي تنتشر معها المعاصي والآثام ومفاسد كثيرة أخرى.
لأن العلم الصحيح هو الوسيلة الأولى التي لا بد منها لإصلاح كل مجتمع، رجاله ونسائه، كباره وصغاره.
ولما كانت النساء المسلمات في الصدر الإسلامي الأول متلهفات لمعرفة أمور دينهنَّ، وتبين مشكلاتهنَّ الخاصة، فقد تبادرن إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة بهنَّ، فاجتمعن، وأتاهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في المواعيد المحددة، فعلمهنَّ مما علمه الله، وبيَّن لهنَّ ما بيَّن، وسألنه عن مسائل وأجابهنَّ صلوات الله عليه.
ولما كان في صحابيات الأنصار جريئات في السؤال عمَّا يتعلق بأحوال النساء وخصائصهنَّ، أثنت عائشة أم المؤمنين عليهن بقولها : “رحم الله نساء الأنصار، لا يمنعهنَّ حياؤهنَّ أن يسألن عن أمور دينهن”.
وعلى هذا المستوى الرفيع كانت سياسة الإسلام التعليمية للنساء، فهل بعد تبيان هذه الحقائق كلام يضلل به أعداء الإسلام الناس في موضوع تعليم المرأة، إذ يحاولون أن يصوروا الإسلام بغير صورته الحقيقة؟ وهل بعد هذه التسوية التامة بين الرجال والنساء في طريقي العلم والعمل يظل رغاء المشوهين لصورة الإسلام الرائعة يؤذي الأسماع بما تنفر منه الطباع؟
من كتاب ” أجنحة المكر الثلاثة “