الإنسان في كبد

إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها, منذ بدأ يخلّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة..هكذا قدّر الخالق وأخبر ...

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم, علّمه البيان, أنشأه من ضعف وينتهي أمره إلى الضعف, وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له قدّر للإنسان حياته وكتب نصيبه وكفاحه وهو العليم الخبير. وأشهد أن محمدا عبده رسوله أنموذج الكادحين وسيّد المفلحين, صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى سائر النبيّين والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(الإنسان في كبد) حقيقة قرآنيّة وواقع بشري..إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها, منذ بدأ يخلّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة..هكذا قدّر الخالق وأخبر “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كبَدٍ” (سورة البلد: 4) أن الخلية الأولى لا تستقرّ في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب ليتوفر لنفسها –وبإذن ربّها- الظروف الملائمة للحياة وما تزال كذلك حتّى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض حتى إلى جانب الأمّ ما تذوق, وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط ودُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم, بل ربما اختنق بعض الأجنّة فانتهت حياته بنصب الولادة واختناق المولود. وحين يخرج الجنين للحياة يبدأ الجهد الأشقّ, حيث يتنفس هواءً لا عهد له به, ويفتح رئته لأول مرّة ليشهق ويزفر ويستهل المولود صارخا صرخة النزول الأول في الحياة الجديدة..وتبدأ دورة هضمية ودموية في العمل على غير عادة ويعاني المولود الجديد من كبد إخراج الفضلات حتّى تُرُوِّض أمعاءه على هذا العمل الجديد..وفي هذه المرحلة يكثر الصراخ والعويل حتى وأن قلّب الجنين ذات اليمين وذات الشمال.
وكل خطوة بعد ذلك فيها كبد..فهو يعاني ما يعاني حين يهمّ بالحبو..وأشدّ من ذلك معاناة حين يستعدّ للوقوف والمشي..فهو خائف وجل وهو يقوم ويسقط ويبكي أكثر مما يضحك..وعند بروز الأسنان كبد..هذا فضلا عن كبد الأمراض المعترضة والآفات المصاحبة للنشأة. ويستمرّ الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان فهو يكابد حين يتعلم ويكابد حين يفكر..وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب. ثم يكبر ويشتدّ عوده وتبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد, ولئن اختلفت الطرق وتنوّعت المشاق فالكلّ في كبد. هذا يكدح بعضلاته, وهذا يكدح بفكره, والفرق هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها. هذا يكدح في سبيل الله وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزوه, وصدق الله “إن سَعْيَكمْ لَشَتَّى” (سورة الليل: 4) لا يفارق الكبدُ الإنسانَ في أطوار حياته كلها..كبد وكدح في مرحلة الشباب..وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم..إنه (الكدح) للغنيّ والفقير والذكر والأنثى والسيّد والمسود..وكلّ يعايش نوعا من الكبد. فالفقير الذي يكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة الحوز أوهمّ الدين وغلبته وقهر الرجال ومطاردتهم قد لا يظنّ أن غيره في كبد. بينما ترى الغنيّ يكابد في تجارته ويفكر في مكاسبه وخسائره..وربما نام الفقير وهو يقظان وأكل الفقير أو نكح أكثر من الغنيّ.. إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وأن كانوا في أبراج عاجيه وقصور وخدم وحشم. فا للمسؤوليّة كبدها..وللزعامة والرئاسة ضريبتها..وللأمانات والمسؤوليّة حمالتها. والكبد لا يعفى منه العلماء وأن وصلوا إلى مراتب عليّة في العلم والمعرفة..وهل حصلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلّا على جسور من التعب والكبد والسهر؟ أن نصب العالم كامن في مسؤولياته..فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كلّ ذلك فيه كبد ونصب..والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وخشية العلماء لربّهم كل ذلك لا يتأتّى دون نصب وكبد وجدّ ومجاهدة. أين من يسلم من الكبد وأن تفاوت أنواع الكبد؟ لا إله إلا الله قدّر أن يعمّر الكون بالكبد, وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّك كادِحٌ إلى رَبِّك كدْحًا فَمُلَاقِيهِ}سورة الإنشقاق6

لا يكفي أن نعلم كبد الحياة, وشمولها لبني الإنسان, ولكن المهمّ كيف نتعامل مع هذا الكبد؟ وكيف نستفيد من هذا الكبد, وما نهاية الكبد وثمرته؟ وكيف نخفّف من مكابد الحياة ومشاقها؟ أن المسلم يختلف عن غيره في نوع الكبد وغايته..فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه ما دام يعبد الله ويخشاه؟ فما يصيبه من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غمّ ولا حزن, حتّى الشوكة يشاكها إلّا كفر الله بها من خطاياه. والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات, إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربّه, مطمئنّ أنه سيجازي على جهده وعمله..ومن هنا فهو يستحسن من المكابد ما يرفع درجاته, ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء. أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة.ولكن نصبه يستمرّ بعد الممات, فالنهاية مؤلمة والشقاء مستمرّ ولعذاب الآخرة أشقّ. المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة وحسبك بهما معينا والله يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إن اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (سورة البقرة: 153) ومساكين هم الذين يجزعون ولا يصبرون “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ” (سورة الماعون: 4-5) وغير المسلم يتضجر ويقلق, ثم يعود للقلق والنصب أن لم تقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق “وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكرِمٍ” (سورة الحـج: 18) ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد, فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم, سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة, وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانا مبينا.

والاستغفار يخفّف الكبد ويعين على مشاقّ الحياة ويفتح بابا للرزق, وفي الحديث {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا ومن كلّ ضيق مخرجا ورزق من حيث لا يحتسب} “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكم مِّدْرَارًا. وَيُمْدِدْكمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكمْ أَنْهَارًا” (سورة نوح: 10-12) ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصوّر المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة ومشا قها أن فيه من هو أشدّ منه قلقا وضيقا, ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبقه وفُضِّل عليه, فهذا يخفّف من آلامه الدنيويّة وهذا يزيد في سعيه للآخرة. تحتاج الحياة إلى جدّ وحزم وعزم وصدق, وتحتاج مع ذلك إلى أناة ورفق وعدم التعجل وطموحات وآمال وفأل حسن-سيما حين تشتبه الأمور, وتدلهم الخطوب وتنتشر الفتن, وحتّى لا يقع الإنسان ضحية للهوى أو الاستعجال أو العجز والكسل يحتاج إلى هذه الموازنات كلها..ولا يستغني عن دعاء ربّه وتوفيقه له وعونه, وإذا لم يكن عليه عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده ولابد من العفو والصفح والمسامحة والتجاوز. فالخطأ وارد والمسامحة خلق فاضل, والصفح والعفو من أخلاق العظماء. ولابد أن يحصل الخطأ منك أو عليك, وربما نالك من خطأ الأقربين ما يحتاج منك إلى جميل العفو وكريم الصفح وفي التنزيل “وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (سورة التغابن: 14).
يا أيها القلقون الكابدون استأنسوا بذكر الله على آلام المكابدة, فطالما خاضت ألسنتكم بكل شيء إلّا الذكر وبذكر الله تطمئنّ القلوب, كم يفرّج ذكر الله من كربة ويزيل من غمة, وويل للقاسية قلوبهم, ومساكين من شحّت عليهم ألسنتهم عن ذكر الله, وقلب الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميّت “فَاذْكرُونِي أَذْكرْكمْ” (سورة البقرة: 152). وفي القرآن شفاء لما في الصدور, ونور للقلوب, ولا غرابة أن تكثر هموم الهاجرين لكتاب الله, إنه القرآن هداية وبصائر, ورحمة وذكر, فليكن لك من كتاب الله نصيب, فهو نعيم الأنيس في الوحشة, والرفيق في الخلوة, والصاحب في الغربة. أيها المسلم, كيف يزيد قلقك وأنت تؤمن بقضاء الله وقدره, فما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وكيف تضجر ورزقك وأجلك مسطوران في الكتاب – ألا فاعمل فيما يفنى لما يبقى, واصرف همّك للآخرة فهي المستحقّة للعناء, إذ هي دار البقاء. يا أيها العقلاء والاستخارة والاستشارة تخففان من القلق, وهما سبيلان للراحة وحسن المنقلب..إنك تستخير الله العليم الخبير في أمور لا تدري ما نهايتها..وتسلّم الأمر لله في تقدير ما ينفعك في الدنيا والآخرة..أليس ذلك سبيل للراحة والاطمئنان؟ وأنت في الاستشارة تستفيد من عقول الآخرين ولا تُحرم تجارب المجرّبين, وإذا تشابهت ظروف الحياة كان لأهل التجربة رأيهم, وخليق بالعامل أن يستفيد منهم..أنها هدايا بلا ثمن, مكاسب تخفف من المكابد والقلق.

ومع ذلك فالدنيا مركب للسهل والصعب, وميدان للسرور والحزن, وينقلب أصحابها بين الصحّة والسقم, والشباب والهرم, والفقر والغنى, ومن سرّه زمن ساءته أزمان, لا بد من ترويض النفس على إقبال الدنيا بالشكر وإدبارها بالصبر, لا بد من توقع المفاجئات ولابد من الصبر واليقين عند الصدمات.. إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه..ألا فليكن كدحك في مرضات الله, وليكن نصيبك في هذه الدار سبيلا لراحتك يوم تلقى الله.. ألا كم من مغرور وغرّته هذه الحياة فألقته المنايا في مهاوي الردى. وفكر وقدّر فإذا بالروح تبلغ الحلقوم فندم على التفريط ولكن هيهات من التعويض! ألا أن سعيكم لشتّى فانظر أيها العاقل في نوع سعيك, وهل أنت ممن يزرع الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المكر, ويعين على نوائب الحقّ, أم أن سعيك إفساد في الأرض, وظلم للخلق, ونسيان للخالق, ألا فاعلم أن سرّك ونجواك, وظاهرك وباطنك لا يخفى على الله منه شيء “يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى” (سورة طـه: 7) “وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كتَابٍ مُّبِينٍ” (سورة النمل: 75) يا ابن آدم ومهما ابتلاك الله بشيء من رزايا الدهر ومصائب الزمان, فلا تظنّ بربك الظنون السيّئة..فلعلّ الله أراد بك خيرا وأنت لا تشعر, ولعلّ حسناتك قصرت بك عن منزلة عليّة أرادها الله لك فبلغك إيّاها بهذه المصائب. ألا فاصبر واحتسب وفي الحديث “من يرد الله به خيراً يصب منه” رواه البخاري وهذا ابن مسعود _رضي الله عنه_ يدخل على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهو يوعك, فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا, قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم, فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل, ذلك كذلك, ما من مسلم يصيبه أذى-شوكة فما فوقها- إلا كفر الله بها سيّئاته وحطّت عنه ذنوبه كما تحطّ الشجرة ورقها}متفق عليه هكذا يعلّمنا نبيّنا أجر المصائب وعواقب الأذى.. أللهم لا تحرمنا أجرك, وارزقنا الصبر واليقين على أقدارك واجعلنا من سعادة الدنيا إلى سعادة الآخرة, ولا تجعلنا من الخاسرين…

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *