الاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم الأفواه، وقطع الألسن، فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه وبطريقة معينة لا تتغير.. بل ينطلق الاستبداد أحيانًا ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل أنفاسه وزفراته..!
إذا كان هذا هو معنى الاستبداد، فهل يمكن أن يتجرأ أحد على وصف الدعاة بذلك..؟!
معاذ الله! فليس هذا حكمًا عامًا يتساوى فيه جميع الدعاة، ولكن البعض قد يأخذ بنصيب وافر أحيانًا من هذه الصفة، وهذه الشريحة الدعوية لا ينبغي إغفالها أو تجاهلها.
**ممارسة خطيرة***
والاستبداد الدعوي – إن صحَّ التعبير – ممارسة تربوية ذات أبعاد خطيرة، تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقات؛ لذا كان لزامًا علينا أن نسلط الضوء عليها بجرأة، لعلاجها والتخلص منها.
وذكر الحقيقة كاملة قد يتبعها مرارة وحزن، ولكنها تنتهي بالسعادة، وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية: “المؤمن للمؤمن كاليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، ما نحمد معه ذلك التخشين”.
أرأيت إلى ذلك المربي الذي لا يُحب أن يسمع رأيًّا غير رأيه، ولا يرضى باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلم؛ فمَن حوله سكوت، وإذا أشار فالناس له تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الخير والشر..!!
مفهوم الشورى عنده: إخبار الآخرين بما يرى، فإن وافقوه فبها ونعمت، وإن خالفوه فالشورى مُعلمة لا ملزمة.
إذا نظر إلى وجه مريده طأطأ المريد رأسه حياءً وخجلاً، واحمرَّ وجهه وفرقع أصابعه؛ حتى إذا اشتد عوده، واستوى ساقه، أصبح بارعًا في اجترار الأفكار، وترديد الكلمات، لا يباريه أحد في فن التقليد، ليس له عقل يفكر، فقد ضمر وتآكل مع طول العجز، واستفحال المرض، أقرب الأمثال إلى عقله: (من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا)، ولماذا يفكر ويجهد ذهنه، ويضيع وقته وبين يديه شيخه الجهبذ الذي أبصر الحقائق، وأدرك الأمور، وانكشفت له المعضلات…؟!
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد الدعوي..؟!
أرأيت إلى طالب العلم الذي يظن أن رأيه هو عين الحق الذي لا حق غيره، ولا حق لأحد أن يخالفه أو يعترض عليه، اجتهاده قاطع لكل اختلاف، ورأيه جامع لكل خير، فهو البحر الذي تجتمع عنده الأنهر، والوادي الذي تصبُّ فيه الشُّعَب..!
إذا خالفه أحد ضاق صدره، واضطربت نفسه، وتزلزت قدماه، وإذا أفاق من هول الصدمة، سلَّ سيوفه مستعدًا للمبارزة والطعان، دون أن ينظر أحقٌّ هو أم باطل.
كل مخالف له مبطل..مهما كان دليله..!
وكل معارض له مفسد.. مهما كان حجته..!
همُّه أن يتلقى عنه الأتباع، ومراده أن يستمع له الناس، كل تقليد مذموم إلا تقليده..! أحكامه صارمة قاطعة، لا تقبل المناقشة أو المحاورة، ومن لم يقبل هذه الأفكار فلينطح برأسه الجدار..!
@جلوا صارمًا، وتلوا باطلاً.. … ..وقالوا صدقنا؟ فقلنا: نعم!@@
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد العلمي..؟!
أرأيتم كيف تُوأد الأفكار، وتُخنق الأصوات، وتُحطَّم ملكات الإبداع والإنتاج، ويُربَّى الخانعون..؟! أخزى الله الاستبداد، فكم قتل من الطاقات، وكم قطع من طرقٍ للتصحيح والتغيير..!
**أدب الخلاف عند السلف***
كان السلف الصالح والأئمة الأخيار يختلفون فيقول قائلهم: “جائز ما قلتَ أنت، وجائز ما قلتُ أنا، وكلانا نجم يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا”. ويقول الآخر: “ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة؟”.
أما نحن إذا اختلفنا فلسان حالنا: (ما أريكم إلا ما أرى)[غافر:29].
إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم؛ يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصحيحها أو على الأقل تخفيفها؛ ولهذا فنحن نحتاج إلى ترويض ومتابعة لكي نتعلم كيف نقدّر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين، والمنهج الشرعي يقتضي أن نقطع في الأمور القطعية التي قطع بها السلف الصالح، وأما المسائل الاجتهادية في فروع العلم سواء في الفقهيات، أو في فروع العمل الدعوي المتجددة، فالأمر فيها واسع ولله الحمد والمنة، والاختلاف فيها أمر وارد لم يسلم منه جيل الصحابة رضي الله عنهم، وما وسعهم يسعنا، وما قد يكون واضحًا عندك قد لا يكون كذلك عند غيرك، وما يتبين لك صوابه الآن قد يتبين لك خطؤه غدًا، لأمر ينقدح في ذهنك، ولهذا تواتر عن علمائنا وأئمتنا أنهم يقولون في المسألة الفرعية الواحدة قولاً، ثم يقولون بخلافه بعد ذلك.
وهاهو ذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يريد أن يحمل الناس على كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، ويوحدهم على رأي، فيقول له الإمام مالك: “لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من قِبَل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإنَّ ردهم عمَّا اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم”. قال الحافظ ابن عبد البر القرطبي: “وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم”.
ورحم الله الإمام الشاطبي، حيث يقول: “فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النُظَّار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات؛ فلذلك لا يضر هذا الاختلاف”.
إن الاستبداد خصلة لا يعجز عنها أحد في الغالب، وهو دليل على العجز والضعف. ولكن فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، واتساع الصدر للرأي المخالف، منزلة لا يرقى إليها إلا عباد الله المخلصون.
ــــــــــــــــــــ
* “في البناء الدعوي” .. بتصرف يسير