الاستعداد النفسي للزواج: بداية عميقة وصادقة لنتيجة مُسلَّم بها بوعي

نحن نعيش في أيامٍ تحوَّل الزواج فيها إلى هاجسٍ يُؤرِّق معظم أفراد المجتمع، فقد بات هدفاً سامياً يتوق إليه الجميع، ومصدر أمانٍ وسعادةٍ وراحة، وارتبطت به كلُّ الأحلام والآمال والأهداف، حتَّى غدا الناس في حالة انتظارٍ قاتلةٍ له، وحالة تأجيلٍ للحياة برمَّتها ريثما يحلُّ عليهم ويُبارك حياتهم.

لقد أصبحنا أسرى أفكارٍ باليةٍ تُعزِّز من شكل الزواج وقشوره لا من جودته وجوهره، وتُقلِّل من شأن النفس البشرية المُكرَّمة والحرَّة والقوية، وتجعلها مقيدةً وسجينةً وضعيفة، وتجعل معيار السعادة أو التعاسة “رقم ميلادك”، وتجعل من الزواج قراراً نابعاً عن الخوف لا عن الحبِّ والقوَّة، وتحت تأثير عباراتٍ مثل: “يبدأ العد التنازلي بعد الثلاثين، فانتبه لنفسك”، أو “لقد قلَّت فرص الزواج الآن، فلماذا ترفع سقف طموحاتك إذاً؟”.

نحن نعيش ضمن مجتمعٍ ضربَ الأساسيات الجوهرية لبناء علاقة زواج ناجحةٍ بعرض الحائط، وأعطى الشكليات والثانويات الأهمية البالغة، وصدَّر النماذج السلبية للأزواج باحترافيةٍ عاليةٍ جداً، حتَّى أصبَحت النماذج الإيجابية للأزواج مجرَّد استثناءات أو حالات تمثيلٍ ونفاقٍ اجتماعي، وتحوَّل الزواج إلى مجرد صفقةٍ تُعقَد بين طرفين، وتقوم على الحظ الذي أولاه المجتمع المرتبة الأولى في الأسباب المُوجبة للاستحقاق، حتَّى أصبح الشمَّاعة التي تُعلَّق عليها إحباطات وخيبات أمل الجميع، فعوضاً عن اعتراف الشخص بوجود خطبٍ ما في أفكاره وقناعاته ووجوب سعيه إلى تزكية نفسه أولاً، ومن ثمَّ الانطلاق في الحياة؛ جعل من الحظ المحرِّك الأساسي لأمور حياته، وتبنَّى فكرة أنَّنا نمضي في الحياة بطريقةٍ عشوائيةٍ فوضوية.

لقد جعلتنا التشوّهات المجتمعية الكثيرة أمام نموذجين متطرّفين من الأشخاص، هما:

  • أشخاصٌ جعلوا الزواج هدفاً حقيقياً لحياتهم، وكرَّسوا كلَّ طاقتهم وتركيزهم عليه، حتَّى تحوَّل الأمر إلى هوسٍ وحاجةٍ ملحَّة.
  • أشخاصٌ رفضوا الزواج رفضاً قاطعاً، وأعلنوا سخطهم على أفكار المجتمع البالية، دون محاولةٍ منهم لإعادة النظر في قضية الزواج بمنأى عن المجتمع.

لكنَّ هدفنا من هذا المقال الوصول بك إلى حالة التوازن، بحيث يكون لديك مشاعر إيجابيةٌ عن الزواج، دون أن يتحوَّل إلى حالةٍ من الهوس والاحتياج السلبي.

أين تصب طاقتك؟ هل على الجسد، أم النفس؟

يميل معظم الأشخاص في المجتمع اليوم إلى صبِّ طاقاتهم على مظهرهم الخارجي، فتجدهم يُسارِعون إلى ارتداء أفضل العلامات التجارية، وقيادة أغلى السيارات، واقتناء العقارات في أرقى الأماكن السكنية؛ لكنَّهم لا يدركون أنَّ سعيهم هذا يساوي (2-3)% من الاستحقاق الحقيقي، إذ سيجذب الشخص الذي يسعى إلى تحسين مظهره الخارجي فقط، شخصاً من النمط ذاته؛ بحيث يشتركان في الأمور الخارجية، دون أن ينسجما في العمق؛ ذلك لأنَّهما لم يسعيا السعي النفسي المطلوب.

يُمثِّل السعي النفسي نحو 98% من استحقاق الشخص؛ لذلك ينبغي أن يكون العمل مُكثفاً في هذا الاتجاه، إذ على الشخص أن يغوص في ذاته ويكتشف أفكاره العميقة عن الزواج، وعن الطرف الثاني، وعن نفسه؛ ذلك لأنَّ من أهمِّ إجراءات التحضير النفسي للزواج: حالة تطهير النفس من جميع الأفكار المُعرقِلة له.

على سبيل المثال: على الأنثى أن تجلس مع ذاتها بهدوء وصدق ووضوح، وتسأل نفسها عن أفكارها عن الزواج، فإن وَجَدَتْ أنَّ لديها أفكاراً مثل: “الزواج مُتعِبٌ وفيه مسؤولياتٌ ضخمة ومُرهِقة، ويُقيّد الحرية؛ وتربية الأطفال مهمَّةٌ شاقة ومملَّة للغاية”؛ فعليها إذاً أن تُعِيد النظر في أفكارها السلبية التي تجعل استحقاقها لحالة الزواج السعيد بعيداً عنها، وأن تُعدِّل أفكارها من خلال استحضارها نماذج زواج ناجحة، بحيث تنتبه إلى أنَّ الزواج “مشاركةٌ حقيقيةٌ بين شخصين، ومشروعٌ مشترك يُفضِي إلى نتائج مبهرة، واستقرارٌ نفسي وروحي وجسدي”، وأنَّ التربية “مهمَّةٌ مقدَّسة وممتعة”.

من جهةٍ أخرى، على الأنثى أن تسأل نفسها عن أفكارها عن الرجل، فإن وجدت أنَّ لديها أفكاراً مثل: “الرجل أناني، واستغلالي، وغير ملتزم، وغير أهل للثقة، وغير صادق في مشاعره”، فهذا مؤشِّرٌ خطيرٌ يُنبئ بطبيعة الذكور الذين ستجذبهم إلى حياتها؛ لذلك عليها أن تُعِيد النظر في أفكارها عن الرجل، كأن تسأل نفسها عن مصدر هذه الأفكار السلبية، فقد يكون مصدرها وسائل الإعلام وما تسوِّقه من نماذج زواج فاشلة، أو من تجارب صديقاتها وشكواهم المُحبِطة؛ ثمَّ تسأل نفسها: “هل من المنطقي أن يكون جميع الرجال سلبيين؟”، بالتأكيد لا، إذ إنَّ حالة التعميم خاطئة تماماً، فهناك بالطبع رجالٌ أوفياء وملتزمون وناضجون.

على الأنثى أيضاً أن تسأل ذاتها عن نظرتها عن نفسها كزوجةٍ وأم، فمن الوارد أن يكون لديها أفكارٌ مثل: “أنا لا أصلح لأكون أمَّاً مثالية، وأخاف من أن أكون زوجة نكديَّةً أو غيورة”؛ لهذا عليها أن ترفع من حبِّها وتقديرها لذاتها، وتُذكِّر نفسها بإنجازاتها، وبأنَّها قادرةٌ على تطوير ذاتها وتجاوز أيِّ صفةٍ سلبية تملكها.

بالمقابل، على الرجل الراغب في الاستعداد للزواج أن يغوص في العمق ويسأل نفسه عن أفكاره عن الأنثى، وعن ذاته كزوجٍ وأب، وعن الزواج كمؤسسة.

هل تخاف من الزواج؟

اسأل نفسك: “هل ترغب في الزواج خوفاً من الوحدة؟ أم حبَّاً في المشاركة والاستقرار النفسي؟”، فلدوافعك للزواج دورٌ كبيرٌ في تحديد نموذج الشخص الذي ستجذبه إلى حياتك، فتخيَّل نموذج شريك الحياة الذي ستجذبه بينما تبث طاقة خوفٍ من الوحدة أو العنوسة.

واجِه مخاوفك، فقد يكون لديك خوفٌ من الزواج بحدِّ ذاته، أو من فشله، أو من سوء اختيارك لشريك الحياة.

عليك فهم قانونٍ هام، وهو: قانون “فصل السعي عن النتيجة”؛ فلا تقلق من نتيجة الزواج، واسعَ إلى تطهير عقلك من الأفكار السلبية، ومن ثمَّ سلِّم النتيجة إلى اللَّه، فهو مَن يرزقك.

اعلم أنّك خُلِقتَ لتكون سعيداً؛ لذلك لا تكن عبداً لكلام المجتمع، فمثلاً: يعدُّ الطلاق حلَّاً من الحلول في بعض الأحيان؛ لذا لا تستمر في علاقةٍ تستهلك طاقتك وروحك لمجرَّد خوفك من نظرة المجتمع عنك، واعلم أنَّ ذاتك وراحتك النفسية والجسدية أهمُّ من كلِّ بشر العالم.

هل الزواج حاجةٌ أم إضافة؟

اعلم أنَّ الكون لا يُعطِي محتاجاً، فإن أصرَّيت على شيءٍ ما -كالزواج مثلاً- ورغبت فيه بشدَّة، فلن تحصل عليه؛ ذلك لأنَّك باللاوعي قلت: “أنا فقير، وأنا بحاجة”؛ لذا ستبقى في حالة فقرٍ لأنَّك بثثت طاقة فقر.

عليك أن تشعر أنَّك مكتملٌ بذاتك، وغنيٌّ بما أنعم اللَّه عليك، وأنَّ كلَّ شيءٍ سيأتي إليك هو إضافةٌ جميلةٌ إلى حياتك؛ وعليك أن تصل إلى حالةٍ من المشاعر المُحايدة بخصوص الزواج، بحيث تكون في حالة رضا وتقبُّل لوضعك الحالي؛ ومن ثمَّ تسعى إلى كسر كلِّ الأفكار المُعرقلة للزواج في ذاتك، وتُسلِّم الأمر بعد ذلك إلى اللَّه، وتعيش حياتك بكلِّ لحظاتها بمتعةٍ وسعادة.

لا تنتظر الزواج، بل استمر في حياتك واكتشف شغفك ومتعتك، وسيتحقَّق لك الزواج في أثناء رحلتك.

مَن يجعل الزواج هدفاً له، يبقى كلّ حياته في حالة ألمٍ ومعاناة، فهو قد حجَّم أهدافه، وقلَّص من طموحاته وقدراته، وربط سعادته وقيمته بالزواج؛ في حين أنَّ الزواج ما هو إلَّا “وسيلة” جميلة للوصول إلى هدفٍ سامٍ، حيث يدرك الشخص الواعي أنَّ عليه السعي من أجل تحقيق قيمته في المجال الذي يحبُّه، والاستمتاع بالحياة بأقصى طاقته، وتقديم الخير والعطاء إلى الآخرين، وتطوير ذاته يومياً؛ بحيث يصل إلى النسخة الرائعة منه، ويصبُّ كلَّ هذا في تحقيق رسالته في الحياة، ويدرك أنَّ الزواج مرحلة من مراحل الحياة قد يعيشها وقد لا يعيشها، وستكون في حال اختبارها إضافة جميلة إلى حياته.

فترة الخطوبة ليست للنزهات:

في حال ظهور شخصٍ ما في حياتك وميلك إليه، وذلك بعد سعيك النفسي في موضوع الزواج وتسليمك الأمر إلى اللَّه؛ فعليك أن تأخذ خطوة جديَّةً لاكتشافه عن قرب، ومعرفة إمكانية نجاح ارتباطكما.

اعلم أنَّ فترة الخطوبة هامَّةٌ جداً لاكتشاف شخصيات كلٍّ من الطرفين، ويجب خلالها أن يكون التعامل صادقاً وواضحاً وطبيعياً، وبعيداً عن التكلُّف والمجاملات.

تعدُّ فترة الخطوبة اختباراً واقعياً لمدى سعيك النفسي من أجل التخلُّص من أفكارك المعرقلة للزواج؛ فمثلاً: إن شعرت بالتوتر أو الاستفزاز من الطرف الآخر، فاعلم أنَّ هناك بقايا أفكار سلبيةٍ عليك التخلُّص منها؛ أمَّا إن شعرتَ خلال سعيك إلى تطوير ذاتك وتطهيرها أنَّك تقترب أكثر من الطرف الآخر، فهذا مؤشِّرٌ إيجابي إلى كون العلاقة ناجحة؛ أمَّا إذا شعرت أنَّ الفجوة تكبر فيما بينكما مع تطوير ذاتك، فاعلم أنَّه ليس الشخص المناسب.

الخلاصة:

اعلم أنَّ التربية مهمَّةٌ نبيلة وسامية ومشتركةٌ بين الطرفين، ولا تحصر تفكيرك في أنَّ الزواج وإنجاب الأطفال هما مَن يُحدِّدا قيمتك في الحياة؛ إنَّما تتحدَّد قيمتك من سعيك إلى تطوير ذاتك يومياً، ومن يقينك الإيجابي باللَّه، ومن شغفك الذي تعمل على ممارسته وصقله، ومن قدرتك على تقبُّل الآخر، ومن نية الخير والسلام التي تزرعها في حياتك؛ واعلم أنَّ الزواج إضافةٌ جميلةٌ في الحياة، لكنَّه ليس الحياة بأسرها.

 

المصادر: 1، 2، 3

Source: Annajah.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *