د. حكم امهز
لا شك في أن حلف شمال الأطلسي يمر بأزمة كبيرة جدا على مستوى الامكانات والعلاقات بين أعضائه، وخير من عبر عن هذه الازمة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب الذي تهجم على الحلف، ووصفه بالمتقادم، وهدد ان لم تزد الدول الاعضاء ومنها الاوروبية مساهماتها في التمويل، ففانه سينسحب منه، بعد ان كان قال في حملاته الانتخابية ان الحلف قد عفا عليه الزمنز
هذا الامر رفع منسوب مخاوف اوروبا في ان تتخلى الولايات المحدة عن دورها في الدفاع عن الدول الاوروبية، بما يجعلها تواجه منفردة اي تهديد روسي او صيني.
في ذلك الوقت، تبنهت اوروبا الى ان الحليف الامريكي لا يمكن الاعتماد عليه، وبالتالي لا بد من الاعتماد على الذات، وسارع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عام 2019 الى الدعوة لتشكيل “جيش اوروبي حقيقي”، وبرر ماكرون مطلب المسارعة بتأسيس الجيش بالدفاع عن النفس في مواجهة الولايات المتحدة وروسيا والصين، وحذر انذاك من صعود قوى “سلطوية” وتسابقها بالتسلح على الحدود مع أوروبا.
الافتراح الفرنسي تلقفته بالدعم المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، الامر الذي اشعل غضب ترامب، وشن هجوما لاذعا على ماكرون. مع العلم ان هذا المقترح ليس جديدا، بل يطرح بين الفينة والأخرى منذ الحرب العالمية الثانية، مع كل خضة بين امريكا والدول الاعضاء في حلف شمال الأطلسي.
جديد الازمة اليوم، التحالف الامريكي البريطاني الاسترالي من خلف ظهر اوروبا” المغفّلة”، والذي ادى الى سحب صفقة غواصات تاريخية من يد فرنسا، لمصلحة استراليا، قيمتها تسعين مليار دولار.
الامر الذي استفز الاتحاد الاوروبي وسارع، مسؤول السياسة الخارجيّة فيه
لشجب التحالف، والاعتراف بان التحالف الجديد لم يبلغ او يتشاور مع اوروبا، مع ان اتفاقا كهذا يحتاج الى وقت لإعداده، مشيرا الى ان اجتماع وزراء خارجية ا لاتحاد في 18 تشرين الأول/أكتوبر في لوكسمبورغ، سيشكل فرصة لمناقشة تداعيات هذا التحالف، الا ان هذا الموقف لم يرق للفرنسيين المتضريين بشكل مباشر من هذا التحالف، فشنت باريس هجوما قاسيا جدا على اطراف التحالف، واعتبرت ذلك “طعنة في الظهر”، وسارعت الى سحب سفيرها من الولايات المتحدة واستراليا، وذهب وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان الى القول ان باريس تعتبر نفسها في أزمة مع الولايات المتحدة وأستراليا، مشيرا الى ان ما جرى سيؤثر على مستقبل حلف شمال الأطلسي، واصفا ما جرى بانها كانت ازدواجية وازدراء واكاذيب، والبريطانيين بالانتهازيين.
غير ان هذه الازمة بين فرنسا والامريكيين ليست جديدة، بل حدث شيء مماثل تقريبا بينهما في العام 1957. فقد اهتزت وحدة الناتو في وقت خلال فترة رئاسة شارل ديغول لفرنسا بعد ان احتج على الدور القوي الذي تقوم به الولايات المتحدة في المنظمة وما اعتبره علاقة خاصة بينها وبين بريطانيا.
وفي مذكرة أرسلها إلى نظيره الامريكي دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان في 17 أيلول/سبتمبر 1958، دعا إلى إنشاء مديرية ثلاثية الابعاد، تضع فرنسا على قدم المساواة مع امريكا وبريطانيا.
غير ان الرد لم يكن مرضيا لديغول، فبدأ ببناء قوة دفاع مستقلة لفرنسا وسحب أسطول بلاده من حلف شمال الأطلسي وحظر وضع أسلحة نووية أجنبية على أراضيها. فسحبت واشنطن 200 طائرة عسكرية من فرنسا
وردعت القواعد العسكرية الجوية لها، وفي العام 1966، تمت إزالة جميع القوات المسلحة الفرنسية من القيادة العسكرية للناتو، وطلب من جميع قوات الناتو مغادرة فرنسا.
وبقدر ما كان ديغول متشددا في اخراج قوات الناتو من فرنسا، نُقل عن وزير الخارجية الأمريكي دين روسك في حينه، أنه سأل ديغول ما إذا كان أمره يتضمن نقل “جثث الجنود الأمريكيين المدفونة في مقابر فرنسا؟”
ولم تعد باريس الى المشاركة الكاملة في الحلف عام 2009.
فهل سيعلم ماكرون ما فعله ديغول، ام سيرتضي لفرنسا هذه الوصمة لتبقى عارا مسجلا في تاريخ عهده؟
وهل ستؤدي هذه الازمة الى بدء تفكك حلف الناتو مع تصاعد الدعوات الاوروبية مجددا الى تشكيل جيش اوروبي حقيقي او قوة رد سريع كما تقترح المانيا؟
وفضلا عن فرنسا لوحدها، فان الاتحاد الاوروبي يرى انه تلقى لكمة قوية امريكية نتيجة “تهميش” دوره في عملية الانسحاب السريعة من افغانستان.
لذا قرر وزراء الدفاع فيها الخمميس الماضي، بحث مقترح لتشكيل قوة عسكرية أوروبية للرد السريع، ليتم اللجوء إليها في الأزمات بعديد عناصر يصل الى خمسة آلاف. وسبق أن شكل الاتحاد الأوروبي في 2007 نظاما يسمى بالتجمعات التكتيكية، ولكنه لم يتم استخدامها أبدا لأنها تتطلب إجماعا من الدول الأعضاء لكي يتم تفعيلها.
ويرى البعض أن دول الاتحاد اضطرت للخضوع لشروط واشنطن لتنسيق عملية الإجلاء من افغانستان.
وعبر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بعد اجتماع وزير الدفاع في سلوفينيا بالقول، “لقد أظهرت أفغانستان أنّ هناك ثمنا لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي، والسبيل الوحيد للمضي قدما هو توحيد قواتنا وتعزيز ليس فقط قدرتنا ولكن أيضا إرادتنا للتحرك”.
وتابع “إذا أردنا أن نكون قادرين على التصرف بشكل مستقل وألا نعتمد على الخيارات التي يتخذها الآخرون( في اشارة الى القرارات الامريكية)، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أصدقاءنا وحلفاءنا، فعلينا إذاً أن نطور قدراتنا الخاصة”.
واذا ما لحظنا التقهقر الامريكي على مستوى القوة وتراجع النفوذ دوليا، فضلا عن الانحياز اخيرا لمصلحة امريكا اولا ولو على حساب الحلفاء والمصداقية، فاننا ندرك ان حلف شمال الاطلسي الذي تقوده بشكل اساس الولايات المتحدة، سيتقهقر معها حتما، وسنكون امام انشاء تكتلات وتحالفات عسكرية دولية جديدة، متفرعة من هذا الحلف. والامر مرهون بالوقت فقط لا اكثر….
علاقات دولية- لبنان
Source: Raialyoum.com