الباحثة التونسية ابتسام الوسلاتي: جماعة تحت السور علامة فارقة في تاريخ الثقافة التونسية

نادراً ما تخرج الدراسات والبحوث الأكاديمية من غرضها الوظيفي وتكتسبُ بعداً معرفياً عميقاً في جامعاتنا، فإن ما يتراكمُ من المواد على الرفوف لا يضيفُ شيأً إلى الفضاء الثقافي، ولا يكون عاملاً للحراك الفكري، أكثر من ذلك فإن ما يُقدمُ في إطار الدراسات الأكاديمية يعوزه عنصر التشويق، فبالتالي لا يتشجعُ غير المتخصص على متابعته وبذلك يضيق […]

الباحثة التونسية ابتسام الوسلاتي: جماعة تحت السور علامة فارقة في تاريخ الثقافة التونسية

[wpcc-script type=”b6320b166a8d0bdce931d489-text/javascript”]

نادراً ما تخرج الدراسات والبحوث الأكاديمية من غرضها الوظيفي وتكتسبُ بعداً معرفياً عميقاً في جامعاتنا، فإن ما يتراكمُ من المواد على الرفوف لا يضيفُ شيأً إلى الفضاء الثقافي، ولا يكون عاملاً للحراك الفكري، أكثر من ذلك فإن ما يُقدمُ في إطار الدراسات الأكاديمية يعوزه عنصر التشويق، فبالتالي لا يتشجعُ غير المتخصص على متابعته وبذلك يضيق نطاق تداوله إلى نخبة، وأحيانا لا تتجاوز تلك النخبة المُناقشين لمحتوى البحث، غير أن ثمة محاولات لكسر هذه الحلقة والخروج بالنشاط المعرفي من دائرته الوظيفية ينضمُ ما قدمته الأكاديمية والباحثة التونسية ابتسام الوسلاتي، إلى الجهود الرامية لإضفاء شكل مختلف إلى الدراسة الأكاديمية، من خلال تقديم معلومات جديدة حول موضوع البحث، وفتح حلقة النقاش حول ما يكون مثار الجدل إلى الآن، إذ فضلت الوسلاتي الاشتغال على مفهوم الهامش في كتابه الصادر بعنوان «الهامشية في الأدب التونسي» ومن المعروف أن هذا المفهوم إشكالي بل يثير حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين الذين تعجبهم إقامة حاجز الفصل مع العامة، لكن ما تتناوله الباحثة في مؤلفها عما هو مضمر في هذا المصطلح من دلالات مُناهضة للتقليد والمألوف، تتبعُ ابتسام الوسلاتي مسيرة «جماعة تحت السور» التنويرية في تونس، وتدرسُ النتاجات الإبداعية الشاملة للمنضوين في إطارها. ما يحسب للباحثة ثراء المعلومات المتوفرة في كتابها وأسلوبها الشيق في المقاربة، وتغطيتها لحركة الثقافة في تونس قبل تشكيل «جماعة تحت السور» ودور أدباء هذا الاتجاه المتمرد في النهوض بالثقافة التونسية. هنا حوار معها حول مفهوم الهامش ومسلك «جماعة تحت السور» وما قدمتهُ على الصعيد الثقافي.

■ تعودين في كتابك إلى مفهوم الهامشية في مراحل تاريخية سابقة مع الإشارة إلى تمثلاتها في الثقافتين العربية والغربية، ويفهمُ مما يقدمُ أن الهامشية موقف فكري أو مشروع واضح المعالم، هل أردتِ بذلك نقض الآراء السلبية السائدة عن هذا المفهوم؟
□ بالعودة إلى الأصل المعجمي للهامشية نجد أن المفهوم لم يرتبط بدلالة سلبية، حتى كان توظيف العلوم الإنسانية – في مرحلة متأخرة – فارتبطت الهامشية بحالات مرضية ومنحرفة يعاني فيها الفرد من عجز عن الاندماج داخل النسيج الاجتماعي للمركز. وقد انطلقت في مقاربتي من محاولة إخضاع المفهوم إلى مراجعة عميقة تخلصه من الشحنة السلبية، على اعتبار أن الهامشية ظاهرة طبيعية رافقت مختلف المجتمعات فكانت بمثابة مظهر صحي يدل على مجتمع في حالة تحول مستمر، ما أفرز نماذج بشرية لم تستطع الدولة استيعابها فوضعتها على الهامش. وبقدر ما شكلت الهامشية من جهة المجتمع إقصاء وتهميشا وسلبية مفروضة، فإنها كانت من جهة الهامشيين اختيارا وتحديا وفعلا له دوافع وأسس وغايات، ومن هذا المنطلق بينت أن مفهوم الهامشية يرتبط بشحنة إيجابية ذات أساس معياري، إذ عبر عن انخراط أفراد أو مجموعات داخل تموقع على أطراف الأنساق الاجتماعية لتأسيس أنساق مغايرة، انطلاقا من رفض الأنساق المركزية.
■ تتمحور دراستك حول «جماعة تحت السور» في تونس بوصفها معبرة عن الهامش، غير أن ما يتوصل إليه القارئ أن أفرادَ هذه الجماعة كانوا رواداً في النهوض بالثقافة، برأيك لماذا تم تجاهل دورهم الريادي؟
□ إيماني بالدور الذي لعبته هذه الجماعة في إثراء المشهد الثقافي التونسي بألوان أدبية وفنية مختلفة كان لها فضل إرساء تقاليد ممارستها، هو ما دفعني إلى الاهتمام بها انطلاقا من نظرة شمولية تراعي طبيعة الرؤية الهامشية، التي سكنت نصوص هؤلاء المبدعين. وقد بحثت في الأسباب التي أدت إلى تهميش هذه الجماعة، وتجاهل دورها الريادي، فوجدت أنها عملت على تكريس مبدأ المخالفة، حيث عمد هؤلاء المبدعون إلى إعادة الاعتبار للصغير والأقلي وإحلاله محل المركز، فمثلت الكتابة محنة مارسوا من خلالها رفضهم للسائد، ما جرّ عليهم لعنة المجتمع الذي عمد إلى إقصائهم وتهميشهم.

بالعودة إلى الأصل المعجمي للهامشية نجد أن المفهوم لم يرتبط بدلالة سلبية، حتى كان توظيف العلوم الإنسانية – في مرحلة متأخرة – فارتبطت الهامشية بحالات مرضية ومنحرفة يعاني فيها الفرد من عجز عن الاندماج داخل النسيج الاجتماعي للمركز.

■ لم يقتصر المشروع التجديدي لدى أدباء «جماعة تحت السور» على جانب واحد، بل حـــاولوا الإضافة إلى الأفق الإبداعي بالكــــتابة في أجناس أدبية متنوعة، ما يجب السؤال عنه هو ملامح تأثير نتاجات هذه الجماعة في الأجيال اللاحقة؟
□ شكلت هذه الجماعة علامة فارقة في تاريخ الثقافة التونسية، تأسست بفضل إبداع أفرادها ممارسة أدبية انفتحت على مختلف الأجناس، واستوعبت جميع الألوان الفنية، ما أسهم في النهضة الفكرية والأدبية خلال ثلاثينيات القرن العشرين. وقد غيرت نظرتها إلى الإبداع، وهو ما شكل عامل تأثير في كتابات الأجيال اللاحقة، فعلى يد هؤلاء المبدعين تعمقت مفاهيم الفن في شتى صوره وأشكاله، بعد أن تنامت عملية الإنتاج والخلق في سائر الفنون، فظهرت ممارسة صحافية مختلفة حاول فيها هؤلاء المبدعون الاقتراب من شواغل الشعب، وتركيز جهودهم على توعيته بطبيعة الأوضاع التي تحيط به، كما تطورت الأغنية التونسية وتخلصت من السماجات، وتحولت إلى نص يحمل رسالة تسهم في الارتقاء بالذوق العام، وتركزت دعائم المسرح التونسي الذي كان وفيا لخصوصية البيئة التونسية، بعيدا عن التشويه والزيف، وكان ظهور القصة التونسية وتطورها على يد هذه الجماعة التي رامت التحرر من أسر القوالب الفنية التقليدية، ومالت نحو الطلاقة الفنية التي تزيد في دعم استقلال الشخصية الأدبية.
■ تبيئة النصوص المترجمة هي وجه آخر لمشروعكم، برأيك هل هذا الاهتمام بالمحلي هو ما حال دون انتشار نتاجاتهم خارج تونس؟
□ آمن أفراد الجماعة بأهمية الترجمة، باعتبارها عامل إثراء للأدب التونسي، فكانت سبيلهم للتعرف على أجناس جديدة مثل القصة والمسرحية، ولكنهم لم يترجموا إلا ما كان مستجيبا لحاجيات واقعهم ملائما لطبيعة المجتمع التونسي خلال تلك الفترة، ولم يهتموا إلا بالنصوص التي تتضمن مجموعة من القيم المفقودة يتوقون إليها ويعملون على إحلالها محل القيم السائدة، وبالتالي يمكن أن نقول إن هذه المرحلة شهدت انفتاحا على الآخر، صاحبه وعي بخصوصية البيئة التونسية، ولعل هذا الانشغال بالمحلي هو ما منع هذه التجربة من أن يكون لها صدى خارج تونس، فقد كان هم هذه الجماعة أن يحولوا الكتابة إلى فعل رفض ومقاومة لتغيير الواقع، وآلية لمواكبة مختلف التحولات التي شهدها المجتمع التونسي خلال مرحلة حاسمة من تاريخه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
■ كان إيجاد لغة جديدة مطبوعة بالحس الشعبي، بدون أن تكون بعيدةً عن الفصحى هو ما شغل أدباء «جمــــاعة تحت السور» هل جاء إدراكهم لهذه المسؤولية نتيجة معايشتهم لهموم المرحلة؟
□ حرصت الجماعة على التوسل باللغة العامية لضمان أيسر السبل للتواصل مع مختلف الفئات الشعبية والمهمشة، فقد استوعب إبداعهم شواغل الشعب ومعاناته، فلا أقل من أن يعبر عنها بلغة الشعب. فمثلت اللغة تحديا من جملة التحديات التي خاضها مبدعوها في سياق مشروع فكري يرمي إلى إعادة الاعتبار إلى لغة الهامشيين، الذين لا صوت لهم ولا لغة في صحائف الآداب المركزية ومدوناتها. فتغدو العامية هي الأصل بوصفها لغة المهمش، وتتحول بمقتضى ذلك إلى لغة إبداع وتجسدا من تجسدات «الهامشية» ورهانا من رهاناتها. ويرد ذلك إلى رؤية تقضي بترسيخ عقلية جديدة قوامها الثورة على السائد، والسعي في المقابل إلى تأسيس تجربة مختلفة تستجيب لتطلعات الجمهور وانتظاراته.
■ السعي إلى بلورة مفهوم التداخل الأجناسي كان ملمحاً واضحاً في مشروع المنضوين في إطار «جماعة تحت السور» هل يمكن فهم هذا المسعى بأنه محاولة لنزع الطابع النخبوي عن الأشكال أدبية؟
□ أسست هذه الجماعة لمفهوم جديد للأدب الذي توسعت دائرته ليشمل مختلف الأجناس الأدبية، وكان همهم تطوير الممارسة الإبداعية بخلق أشكال للتعبير قادرة على استيعاب شواغل الشعب التونسي وتجسيم طموحاته في ظل مناخ كان يستدعي من المبدع أن يهجر برجه العاجي ويلتحق بصفوف الشعب. وإن العودة إلى مختلف الأعمال التي نشرها أفراد هذه الجماعة على صفحات الجرائد والنشريات الصادرة خلال الثلاثينيات من القرن العشرين من مقالات صحافية وأزجال ورسوم كاريكاتيرية وقصص ومسرحيات، يؤكد انخراطهم في سياق الدعوة إلى التحرر الفكري، عبر التأسيس لممارسة أدبية تقوم على البحث عن أشكال فنية قادرة على التعبير عن المهمشين. فقد ثار هؤلاء المبدعون على الأوضاع السائدة ورفضوها، وبمشيئة الرفض أسسوا سبيلا جديدا سلكوه في الحياة والإبداع.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *