الباحث زهير توفيق: لاوجود لـ«المثقف المستقل» في الأردن
[wpcc-script type=”3229dfbb9b2a77369e2f3231-text/javascript”]

هذا الحوار يحاول أن يتلمس بعض العلامات الأساسية في فكر وطروحات الباحث الأكاديمي زهير توفيق، صاحب «النقد الفلسفي»، «المثقف والثقافة»، «إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر»، «أديب إسحاق مثقف نهضوي مختلف» و»خطاب العلم والتقدم»، تلك المؤلفات التي شكلّت إضافات نوعية نظراً لما تضمنته من طروحات جريئة في العديد من القضايا الفكرية والفلسفية. إضافة إلى إصداره عام 2004 ديواناً بعنوان «أضواء ليلى في بحار السندباد». يُذكر أن زهير توفيق من مواليد مدينة القدس عام 1957، ويعمل حالياً مدرّساً في «جامعة فيلادلفيا». وقد حصل مؤخراً على جائزة أفضل كتاب من الجامعة نفسها عن مؤلفه «النهضة المهدورة/مراجعات نقدية في المشروع النهضوي العربي وبناء المعرفية»، الذي تناول فيه أسباب إخفاق مشروع النهضة العربية، وما ترتب عليه من إخفاق أحلام التحرر والتقدم. بهذه المناسبة كان معه هذا الحوار:
■ ما هي المحطات التي ترى من الضروري الوقوف عندها، لسبر أغوار تجربتك الإبداعية والفكرية؟
□ تكمن أهم المحطات المفصلية في حياتي – التي شكلت وعيي الفكري والسياسي وحتى الإبداعي- بداية من انخراطي، في وقت مبكر، في العمل السياسي السري في سن 19، في الحزب الشيوعي، ثم السفر إلى عمان والعمل هناك لمدة أربع سنوات قضيتها في إنضاج رؤيتي الفكرية والإبداعية، وكانت محصلتها ديواني «أضواء ليلى في بحار السندباد»، والمحطة الثالثة اختياري لدراسة الفلسفة والانخراط فيها.
■ بعيداً عن الشعارات والمبالغات، ما هي القضية الرئيسية عند زهير توفيق؟
□ باختصار شديد التغيير والتقدم؛ لكن ليس المهم الفكرة فهناك إجماع عربي عليها من النخب وغير النخب، لكن الأهم بالنسبة لي، وهذا مدعاة للاختلاف، أي تحديد من هو الحامل الموضوعي المؤهل لحمل هذه الرسالة والسير بها إلى نهاياتها القصوى، هل هو: السلطة، الحاكم، المجتمع، الحزب، المثقف، الجماهير، الطبقة؟
■ ماهو تصوركم لعلاقة المثقف بالسلطة؟
ـ هذا سؤال أصبح تاريخا رغم راهنيته الآن، وهذا مصدر المفارقة فيه، لكن وباختصار شديد، السلطة العربية ما زالت كما هي سلطة فاسدة ومستبدة، وترتاب بالمثقف، وتدفعه للتملق خوفًا وطمعًا، أو للجنون مع مثقف معارض ومبدئي بحكم التباين الشديد بين قيم السلطة؛ وهي الحفاظ على الأمر الواقع، وتحقيق الأمن والاستقرار (أمن السلطة واستقرارها)، وإدارة الشعب كموضوع يتطلب الضبط والمراقبة. في حين تتسم الثقافة والمثقف، من حيث المبدأ بطابع معياري؛ أي البحث عما هو أفضل، وتجاوز الواقع مهما كان، وتفاصيل الموضوع وحيثياته، ناقشتها في كتاب سابق صدر لي بعنوان «المثقف والثقافة».
■ ما هو المعوق الأساسي في أن يكون للمثقف دور مؤثر في حركة الشارع والناس والحياة؟
□ إن دور المثقف واختصاصه بالدرجة الأولى الكفاح على الجبهة الفكرية التي تفرض عليه نقدًا وتحليلًا وطرح بدائل ورؤى وأفكار خلاقة، يتم توظيفها بتوسط أو بدون توسط في المجال السياسي والثقافي، وأودّ الإشارة هنا باختصار بمسوغين الأول ذاتي ويتعلق بتردد المثقف وعدم انخراطه بالمعمعة السياسية، خوفا من كشف رصيده المعرفي، وتكذيب أفكاره المجردة فطبيعة المثقف – إلا ما ندر- مثالي وتجريدي، وذو معرفة نصية بالواقع، أما المسوغ الثاني فهو الهواجس الناتجة عن المطامع والمخاوف من التعاون مع سلطة ترتاب بالمثقف. المثقف المستقل (مادياً ومعنوياً) بتعريف ريمون آرون؛ أي المثقف القادر على إنتاج أفكاره وحياته اعتمادا على ذاته لا وجود له في الأردن، فجلهم (أكاديميون وموظفون) ولهذا تنتشر الفردية والانتهازية والخفة في المشاريع الإبداعية والكم على حساب النوع.
العقلانية النقدية أو الواقعية تيار نقدي عربي يمكن المراهنة عليه في تحقيق نقلة نوعية وقطيعة معرفية مع النقد الأيديولوجي والمشاريع الأيديولوجية الكبرى التي استهلكت الفكر العربي الحديث.
■ كيف تنظر إلى مستقبل الفلسفة النقدية العقلانية في العالم العربي؟
□ العقلانية النقدية أو الواقعية تيار نقدي عربي يمكن المراهنة عليه في تحقيق نقلة نوعية وقطيعة معرفية مع النقد الأيديولوجي والمشاريع الأيديولوجية الكبرى التي استهلكت الفكر العربي الحديث، وهو تيار تتوسع مساحته يوماً بعد يوم، ويضم كبار المفكرين العرب على اختلاف اتجاهاتهم ومرجعياتهم. وما يغذي هذا التيار هو طبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري المتردي، الذي يفرض ويفترض منهجا نقديا لهدمه وتجاوزه معرفياً، كمقدمة لتجاوزه التاريخي، لكن للأسف النقد الجذري النيتشوي للبنى المجتمعية – التي فقدت مشروعية استمرارها، واستنفدت طاقتها على العطاء – ما زال خجولاً وينافسه النقد المثالي أو ما يسمى النقد البنّاء، وهو صيغة مضللة للحفاظ على الأسس مصدر الخراب والتعلّق بالشكليات وترديد مقولات الإصلاح، وهي أيضا صيغة أكثر تضليلا وابتذالا وتحايلا على المطلب الحضاري العربي الكبير، ممثلا بالتغيير الشامل أو الثورة، إلى نقد جذري هدام بالمطرقة بلغة نيتشة.
■ وهل للفلسفة قدرة على تفسير أسباب تخلف الخطاب السياسي العربي؟
□ للإجابة دعني أولا أحدد بعض المنطلقات: الفلسفة أولا ذات طابع نقدي لا تتوقف على التحليل والتفسير، إلا للنهوض بمهمة سياسية أكبر هي التغيير. وثانيا يجب التدقيق أولا في التصورات والمسلمات والأفكار النمطية، فهل تقصد الخطاب السياسي الرسمي أم النقيض؟ وهل يشمل هذا الممارسة السياسية؟ المهم، يعاني الخطاب السياسي العربي ما تعانيه التيارات أو المرجعيات الفكرية التي ولّدت خطابات السياسة على جميع المستويات، والفلسفة تمتلك الحق قبل أن تمتلك القدرة على مقاربة مشكلة السياسي، فالتخلف الذي ترمي إليه أفهمه، أو كما تفهمه الفلسفة تخلّف للممارسة السياسية – نظرا للركود والاستبداد – عن متطلبات النظرية، ثم هناك عجز الأنظمة والنظرية السياسية عن تبيئة ذاتها وتوطينها عربيا، أو اجتراح نظرية سياسية عربية للتقدم والتغيير. لقد ظلت السياسة الجانب الأضعف في المنظومة الحضارية العربية الإسلامية، كونها محتكرة من الحاكم وحاشيته، والشيء الأخير هناك الآن ازدهار كبير للفلسفة السياسية والنقد الفلسفي لمقاربة مشكلات الواقع عربياً وعالمياً، خاصة مشكلات السلطة والحرية والنقد الفلسفي في هذا السياق سم قاتل للسلطة والحرية الزائفة، كما يقول كارل ياسبرز.
■ وكيف تقيم التحولات التي يشهدها العالم العربي؟
□ مازالت قوى الظلام الرجعية والمحافظة، والأنظمة الاستبدادية قوية، وذات موارد هائلة وتستقوي بالأجنبي، ولم تستنفد قدرتها على الرد ومقاومة الإصلاح والتغيير، لكن فضيلة الثورات العربية والحراكات الشعبية أنها عرّتها وأرجعتها إلى نواتها الأصلية؛ مجرد أنظمة سلطوية فاشلة، لا تتقن غير التعسف والقمع، ولم تنجح في تحقيق وعودها – الكاذبة أصلا- لعدم رغبتها أو لعدم قدرتها على تحقيقها. أما الشيء الآخر والمهم، لا يعني اندلاع الثورة والاحتجاج على الظلم نجاحها التلقائي. يمكن للثورة أن تفشل، والعبرة في تحويل فشلها الراهن أو فهمه كانكسار مؤقت، جولة خاسرة في الصراع حتى تحقيق الانتصار، الثورة مشروع كبير والتغيير مكلف، ولا يوجد مشروع نهضوي مجاني وسريع التحقق، التغيير لا يحصل إلا ضمن صراعات ذات طبقات ومستويات حتى داخل الطرف الثائر حول الهدف والغايات والرؤى والوسائل والطبقات والبدائل والنظام المقترح، وحتى هذه الصراعات لا تتم في فراغ سياسي أو فكري داخلي أو خارجي.
■ ما الذي تغير في الخطاب الثقافي الأردني؟ وكيف نفهم تحولاته الأيديولوجية والمعرفية؟
□ قبل الخوض في التغيير؛ نسأل: هل هناك خطاب ثقافي أردني خاص مغاير للخطاب الثقافي العربي؟ وما المقصود بالثقافي هنا، وهل تقصد خطاب السلطة (الخطاب الرسمي) أم خطاب النخبة الفكرية المنتجة للفكر والابداع؟ في الأردن لا يوجد خطاب ثقافي خاص، لا رسمي ولا ثقافي مستقل عن النخب، لعدم وجود مشروع ثقافي ينبثق عنه الخطاب، لكن يمكن رصد تحولات الثقافة؛ بمعنى الفكر والنقد والإبداع والفنون فنقول: هناك تحولات كبيرة على الساحة المحلية منها نضوج السرد القصصي والروائي الأردني، الذي فرض نفسه على الساحة العربية، وهناك حركة نقد فني وأدبي، وحركة شعرية تجاوزت ذاتها، وهناك في المقابل كم هائل من الإصدارات الثقافية الرثة التي لا تغني ولا تسمن بسبب غياب النقد وعجزه عن المواكبة، يوجد طبعا الكثير من مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالثقافة في الأردن، كرابطة الكتاب، وجمعية النقاد، والجمعية الفلسفية وغيرها، لكن لا يوجد عندها خطاب ثقافي شامل يترجم مشروعها ويسوّغ وجودها، وهي وغيرها منهمكة في النشاط العادي الروتيني لإثبات وجودها وتسويغ استمرارها.
التراث إشكالية فكرية، وعادة ما يطرح ضمن الثنائية الضدية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، وجوهر الإشكالية كيف نفهم التراث، وكيف نوظّفه في مشروع التقدم.
■ برزت خلال السنوات الماضية في الأردن أسماء جديدة على مستوى الفكر والفلسفة والنقد، إلى أي مدى تمكنت هذه الأسماء من تغيير الخريطة الإبداعية؟
□ من حيث المبدأ ظهر في الأردن باحثون وأكاديميون في المجال الفلسفي والنقد الثقافي، نشروا أعمالهم الأكاديمية، خاصة رسائلهم الجامعية، وأغلبهم توقف عند هذا الحد، أما من تجاوز هذا الحد، وساهم فكرياً في إثراء الفكر العربي برؤى ومقولات جديدة فقلة قليلة، وأهمهم فهمي جدعان وهشام غصيب، وفي مجال النقد الأدبي والفني هناك أسماء عديدة مرموقة فرضت نفسها على الساحة الثقافية العربية أكاديميون ومن خارج المؤسسة الأكاديمية. أمّا على صعيد التغيير فلم تراكم تلك الأسماء تجربة كافية لتحقيق انعطافة أو إضافة نوعية للفكر العربي باستثناء فهمي جدعان.
■ التراث كموضوعة جدلية قائمة، كيف تنظر إليه، وما مدى تأثير التراث العربي القديم والأدب الغربي باتجاهاته المختلفة في تجربتك؟
□ التراث إشكالية فكرية، وعادة ما يطرح ضمن الثنائية الضدية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، وجوهر الإشكالية كيف نفهم التراث، وكيف نوظّفه في مشروع التقدم، هل هو مجرد موضوع للفهم والتجاوز المعرفي، وهذا يعني سيطرة الذات المعاصرة على موضوعها؟ هل هو جزء من تكوين الذات (الهوية) وهذا يعني الدفاع عنه في كليته؟ هل هناك تراث حي وتراث ميت يفرض علينا الانتقاء؟ ومن هو المؤهل للفرز؟ أليس الغزالي بالنسبة للسلفي هو التراث الحي، وابن رشد وغيره تراث ميت أو دخيل على الفكر الإسلامي، كما كان يتصور محمد إقبال، ومعه قافلة طويلة من الإسلاميين؟ أليس القرامطة والحركات الشعبية كثورة الزنج بالنسبة للماركسي هو التراث الحي؟ إذن التراث مشكلة الحاضر ويعكس الصراع بين الاتجاهات الفكرية الراهنة وبصراحة لا التوظيف ولا الانتقاء ولا السيطرة المعرفية عليه، ولا التجاوز والقطع المعرفي حلت الإشكال، ما دامت الحلول على صعيد الرؤية والمنهج مفارقة للواقع والممارسة؛ إما يوتوبيا أو أيديولوجيا مفارقة للواقع والمستقبل.
■ كيف تنظر إلى أعلام الفكر العربي ومنهم على سبيل المثال فهمي جدعان وهشام شرابي وإدوارد سعيد؟
□ لكل واحد من هؤلاء خصوصيته المعرفية؛ أي مضامينه وإشكاليات فكره ومنهجه الفلسفي وخصائص أخرى، أما جدعان فقد انشغل بالفلسفة الإسلامية، وقضايا الفكر العربي الإسلامي المعاصر: التراث، الدولة، الدين، المرأة، العلمانية، الإصلاح، النهضة، التقدم وغيرها، واعتمد منهجية خاصة به سماها الواقعية المشخصة لمقاربة الواقع، وتميز بنقد نقد العقل العربي، واعتبر المشكلة في الممارسة وليس في كفاءة العقل العربي.
بينما كان هشام شرابي الأقدر بين أعلام جيله في مقاربة موقف المثقفين العرب من الغرب؛ أي من العلمانية والليبرالية وقيم العلم والتحرر، وتشريح المجتمع التقليدي، والتقليدي المستحدث الذي مازال يحتفظ بالقيم الرعوية، ومن جهة أخرى تابع ما بدأه قاسم أمين بطريقة إبداعية كون علة التأخر والتخلف العربي كامنة في أوضاع المرأة العربية في المجتمع التقليدي الأبوي. أما إدوارد سعيد فلا أخفيك كم تأثرت به، وأعجبت بمقارباته الفكرية والسياسية ومحاججته في الاستشراق والثقافة والإمبريالية وغيرها، وقدرته العاتية على النقد والتفكيك، وإيمانه الصلب بقضيته العادلة والخاسرة في الآن نفسه، لقد خدم سعيد الثقافة العالمية وشكّل ظاهرة، وأتباع (اليسار السعيدي) واصلوا مسيرته الفكرية، وغطوا المجالات التي أوحى بها في دراسات ما بعد الكولونيالية والحركة النسوية وغيرها، وما زال كتابه الاستشراق معلما لم يتجاوز بعد.