التأثير والانتحال… فضاء الفن المسلوب!

تتضح معالم الرسم العراقي المتوفر لدينا اليوم باعتماده على مرجعيات أسلوبية غربية، ولا يشكل هذا الجانب قدرا من الأهمية، حينما تحضر ذريعة التأثير بالفنون والمدارس الأخرى. أمر طبيعي وسياق مشروع لطالما استمد الغالب من الجيل الستيني العراقي وأقطابه، بالتحديد، معالمهم من فنون غربية، بعدما اكتسبوا المعرفة من الأكاديميات والمعاهد، ولكننا نجد العذر لهؤلاء الفنانين يوم […]

التأثير والانتحال… فضاء الفن المسلوب!

[wpcc-script type=”64442a01671efdf9872cd658-text/javascript”]

تتضح معالم الرسم العراقي المتوفر لدينا اليوم باعتماده على مرجعيات أسلوبية غربية، ولا يشكل هذا الجانب قدرا من الأهمية، حينما تحضر ذريعة التأثير بالفنون والمدارس الأخرى. أمر طبيعي وسياق مشروع لطالما استمد الغالب من الجيل الستيني العراقي وأقطابه، بالتحديد، معالمهم من فنون غربية، بعدما اكتسبوا المعرفة من الأكاديميات والمعاهد، ولكننا نجد العذر لهؤلاء الفنانين يوم رسخوا معالم تجربة غنية بالاعتماد على أنفسهم، واتخاذهم أساليب وأنماطا تجريبية لها قواعد وأسس ثابتة، كما حدث مع محمد مهر الدين، ورافع الناصري، وشاكر حسن آل سعيد وحتى مع النحات جواد سليم، ولكن الأمر أخذ جانبا خطيرا ومشوشا، حينما استعار فنانون تجارب غيرهم وبدأت مرحلة الاستنساخ والتأثير والاقتباس على أشدها، فما موقف الفنان من ذلك؟ وأين دور النقد في توجيه المسار السليم لبناء فن راقٍ وجاد وأكثر حيوية؟

أسئلة الفن والأخلاق

قد يتبادر إلى الذهن كيف نميز بين المنتحل والمتأثر، والمعرف من خلال أي متابعة واعية نرى أن فن (المتأثر) يحيلنا إلى أصل المرجع، لكن الإحالة سرعان ما يتبدد شكلها بالانتحال، بسبب كون المتأثر يقدم لنا قيمة مهمة، كونه يطور المرجع ويضيف له من خلال الدهشة، وكأنما يخلق مرجعية تعاد بصيغة بنائية للعمل الجديد، على الرغم من ان المنتحل لا يضيف للمرجع، ويعاني من مشكلة أنه خاضع للأصل، لتختفي طاقته الإبداعية، طالما هناك خضوع للمرجع الفني، ونذكر هنا ما قدمه فان كوخ من تأثره بالفن الياباني، وبيكاسو بالفن الافريقي، وماتيس بالفن العربي الممنمات، وهكذا الحال مع بول كلي بالفن العربي الحروفيات، إذن الحدود بين الانتحال والتأثر قد تبدو ملتبسة، لكن في العادة حينما تكتشف جوارحنا أن العمل غير أصلي، وفيه استعادة لتجربة قديمة، لهذا يوصف المنتحل بأنه مقعد في خياله. وهذا ما نجده في الكثير من الفنانين الذين يتأثرون بغيرهم، أو يعيدون رسومات لا تتطور فيها التقنية ولا طريقة إيصال رسالتها التعبيرية.


لنعيد إلى ذاكرة المتلقي رسومات علي رشيد، فهي رهينة مجموعة عوامل تشتغل مع بعضها، لتحيلنا إلى لوحات سي تومبلي، المشكلة تكمن في أن علي رشيد لم يقدم ما يميزه في التجربة الفنية، سوى أنه يكرر رسومات تومبلي، ولم يأت بشيء جديد، ونتذكر المرجع الذي هو أبقى عمقا وأكثر رسوخا، فمصداقية المنتحل ممكن أن يكون مثيرا، طالما لم تجعل يدك على العمل الأصلي، لكن في اللحظة التي تكتشف فيها المرجعية ستكتشف أن الأصل أقوى، وأكثر بقاء فسرعان ما نتحسس إننا نشعر بالخذلان. استعادة التجربة التي أخذها وبدون شرعنة للتأثير، يدفعنا للتساؤل عن الجانب الأخلاقي، لأن تجربة الانتحال تحيلنا لفكرة العبودية والأصل، وتثير عندنا الإحساس بأن المنتحل فنان كسول، ومنزوعة منه سمة المسؤولية الإبداعية، وحينما تستمر بلا هوادة تؤدي بالمتلقي إلى الشعور بالغثيان، جراء التكرار في مفردات العمل، فالمعروف لمن يتذوق الفن ويتابعه عن كثب، سيجد العمل المنتحل دائما يحمل صفات الكينونة المهلهلة والاستمرار فيه يؤدي إلى الترهل. وهنا يتولد شعور للمتذوق والناقد معا من إننا نشعر برغبة التمرد على الفنان والتصريح بكلمة (لا) لأن القيم السلبية التي نذكرها هي التي تؤدي بالناقد للوصول لمرحلة التمرد على المنتحل، والرغبة في فضحه، وفي هذه الحالة هل تصح المقولة بأن الناقد ملزم بأن يتخذ جانب الصمت؟ ويتبنى المهادنة؟ هل هذا فعل صحي، خصوصا ونحن نعيش ظروفا مؤلمة لثقافة تتعرض للشروخ والتصدع، نحن لا نتصدى لطالب متصدر، إنما المسؤولية التي تمليها علينا أخلاقنا، إننا نتعامل مع نماذج كبيرة في الحجم، والمشكلة حينما يمثلنا ذلك الفنان في حياتنا الثقافية، من خلال إقامة معارضه، بينما هو متأثر أو منتحل، وربما سارق هل يحق له أن يمثلني في المحافل الدولية؟ وما موقف الناقد اتجاهه؟

المشكلة تكمن في أن علي رشيد لم يقدم ما يميزه في التجربة الفنية، سوى أنه يكرر رسومات تومبلي، ولم يأت بشيء جديد، ونتذكر المرجع الذي هو أبقى عمقا وأكثر رسوخا.

مقارنة الأشكال الفنية

الانتحال الذي نشير إليه ليس ما يظهر للعيان، وإنما نتحسسه من أجواء مثيرة، مثل عامل الرقة والأناقة في الخطوط والتوزيع اللوني بشكل تلقائي وارتجالي، وتوزيع المفردات في اللوحة، التي هي جزء من التكوين فالتشابه، يكمن في طبائع المفردات (طريقة الأداء لها كرسام) وأيضا عنصر الأشكال وإحالتها، هذه عوامل جاءت جراء رؤية أعمال كثيرة لمصدر واحد، والمختلف بينها وبين من يعيدها إننا لا نجد تلك الرقة ولا المؤشرات الجمالية، التي استند إليها صاحبنا علي رشيد، بل يتكون عندنا انطباع ثمة تكرار ممل لا يغني عن ذائقة ومخيلة تعيد فهم العمل الأصلي أو تطوره، بمعنى أن المرجعية ثابتة والتكرار مرتهن بعوامل الأداء، وهذا الكلام لا يعني أننا لا نجد مهارة في ممارسة الرسم لدى علي رشيد، أو نصادر فهمه للفن، وحقه في أن يتخذ من سي تومبلي مرجعا، إنما نطالبه بأن يضيف لمسات لتجربته، ويعيد بناء فنه بما ينسجم مع متغيرات الحداثة الفنية وذائقتها، وأعتقد أن هذه الأعمال التي ترافق ما نكتبه من تصور ورؤية، ستكون حجة لمن يؤكد الاختلاف مع ما نذهب إليه من تقارب في هذه الرسوم المعروضة. نلاحظ تقارب الخطوط والألوان وطريقة التكوين وكأنها مستنسخة، بل تابعة لمصدرها، ما يجعلنا نتساءل لماذا هذا التكرار الممل؟ وأين نجد هوية الفنان؟ ما يميز فن سي تومبلي التلقائية الخطية في الغالب من رسوماته وطزاجة المساحة اللونية أيضا، هناك الزهد في المفردات واستلهام منتج التخطيط الارتجالي غير الخاضع لرقابة الوعي أو الذاكرة، بالاعتماد على ما يمكن نعته بسهو اليد وقد فرضت طريقته التجريدية الشاعرية مساحة واسعة من الاهتمام، على العكس تماما من التجريدية الهندسية أو الرياضية، التي تحتاج لفهم خاص. ونتساءل أين هوية الفنان العراقي ليكون مرتهنا لتجربة غربية؟ هل افتقد لمخيلة تعيد رؤية الجمال والطبيعة واستلهام التراث الحي لبلده مثلما فعل الأولون؟ أم النرجسية والعبودية والكسل سيطرت على حدود العقل وجعلته أسير خطوات متعثرة؟

٭ كاتب وشاعر عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *