الاهتداء إلى الحق نعمة جزيلة ، وانشراح الصدر به خير عزيز ، وأول ما يجب على أصحاب الحق – وقد عرفوه – أن يفتحوا عيون الآخرين على ضوئه ، وأن يعرفوا الجاهلين به ، وأن يجعلوه في الحياة واضحـًا كشعاع الشمس ، شائعـًا كأمواج الهواء ، ذاك ما يفرضه الحق على أصحابه . ألا يجعلوه عليهم حكرًا ، وألا يحرموا من نفعه أحدًا ، وألاَّ يدعوا نفسـًا تعيش بعيدة عن هداه ، وليس ذلك – بداهة – عن طريق القسر ، بل عن طريق لفت الأنظار وإيضاح الخلفي وشرح المبهم ، فإن فتك الجهل بالناس ذريع ، وغلبة الأوهام على أفكارهم تذهب بهم ، بددًا في كل فج ، وتخيل إليهم أنهم على صواب ، والواقع أنهم موغلون في الضلال ، والسر هو الجهل ، الجهل بأقسامه كلها ، من بسيط ، إلى مركب ، إلى جهالة الطيش والهوى ، والعالم بحاجة ملحة إلى أن ينشط أهل الإيمان الصحيح لشرح أصوله وإبداء صفحته ، ودحض الشبه المثارة حوله ، واستخراج الجهال من الكهوف المطروحين بها لتمتلئ صدورهم بأنفاس الحقيقة الرحبة .
لقد تدبرت أفكارًا وسيرًا شتى لجمهور من العصاة والأراذل ، فوجدت أن الجهل الفاضح ينسج حولهم غلالة قاتمة ، ويذرهم أشبه بقطعان الدواب في قصور الإدارك ، وعوج العمل ، وشدة الغفلة ، وانظر ما يفعل الله لنبيه إذ بعثه في العرب الأولين : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ size=3>)size=3>( يس :6 – 9 ) ، هذه صورة مجتمع محبوس وراء جدران معتمة لا يتسرب منها بصيص نور ، ومن ثم نرى أصحابه صرعى الذهول والجمود ، وعلاجهم – ولو لينقطع العذر – أن تزاح تلك السدود ، وتذوب هاتيك القيود ، ويسلط على عقول هؤلاء وقلوبهم فيض من الوحي ، ينقلهم من حال إلى حال .
إن حاجة البشر إلى العلم الكثير كحاجة الأرض المجدبة إلى الغيث الهاطل ، ولابد أن يُسَخِّرَ الدعاة جميع وسائل التعليم والإيقاظ ، كي ينصفوا الحق ، ويوصلوه إلى الخلق .
وأمر آخر ، إن العالم نفسه قد ينسى ، وتشغله فتن العيش وصوارف اللغو عن القيام بما ينبغي منه ، وهنا يجيء دور التذكير في إبعاد سنة الغفلة عنه ، وكم من مبتعد عن الجادة تكفيه في العودة إليها همسة ناصح أو صيحة زاجر ، فإذا هو راجع إلى رشاده مستقيم على الصراط ، قال تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَsize=3> )size=3>( الذريات:55 ) .
وعمل الواعظين – في أغلب الأحيان – هو ذلك التذكير النافع ، وهو تذكير لا يستغني عنه الناس يومًا ، إذ طالما يعصف النسيان بأفكارهم، ويبعثهم على السير في الحياة دون وعي أو هدف، أليست تلك طبيعة البشر؟ قال تعالى: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْsize=3> )size=3>( الأنبياء : 1 – 3 ) .
وإسناد اللهو والهوى إلى القلوب يومئ إلى تغلغل الصوارف عن الجد ، واستحواذها على صميم الإنسان ، والنسيان بهذه الصفة مساو للجهل، فإن نتائج ” فقدان الذاكرة ” هي – نفسها – نتائج عدم العلم ، ولذلك يقول الله جل شأنه: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ size=3>)size=3>( الحشر:19).
وقد تتساءل : كيف ينسى المرء نفسه لأن نسى ربه ؟ أو تقول : إنما نسى ربه لأنه ذكر نفسه ! والجواب أن المنافقين المندفعين وراء شهواتهم المستغرقين في إشباع مطامعهم ورغائبهم لا يذكرون شيئـا من مصالحهم الحقيقية ، ولا يستفتحون طريقـًا يصون لهم معاشـًا أو معادًا .
إنهم يرتعون في الدنايا رتع الدواب في الربيع حتى تهلك بشمـًا واعتلالاً ، والشخص الذي تصرعه أهواؤه لا يدري شيئـًا عن حاضره ولا مستقبله ، ولذلك يعتبر ناسيـًا نفسه ، إنما جاء نسيانه لنفسه من نسيانه لربه ، ولو ذكر حقوق الله وانتصب لأدائها لآتاه الله رشده ، وبصَّره بما ينفعه ، ويرفعه ومَسَّكه بما يضمن العافية له في دينه ودنياه .
التذكير المستمر ضرورة إذن للناس جميعـًا، ما بقوا بشرًا مطبوعين على النسيان ، وما اختلف عليهم الليل والنهار ؛ ذلك أن اختلاف النهار والليل ينسى ، كما قال الشاعر : وتزداد الحاجة إلى التذكير في بيئة عن بيئة ، فالبيئة الساذجة الخشنة ليست خطرًا على العفة كالبيئة المشحونة بالمغريات المستثيرة للكوامن ، ومن ثم فنحن نرى العصر الحاضر يوجب على حملة الإيمان حراسـًا أضعافـًا مضاعفة من اليقظة والحماسة لحماية الدين وأخذ الناس به ، وردهم كلما طاش لب أو أفلت قياد .
الدعوة إلى الحق واجبة في كل حين ، وهي في هذه الأيام أوجب ، والدفاع عن الحياة مطلوب ، وهو عند تحرش الذئاب ، وإحاطة الأخطار أحفز للحس وأدعى للاستعداد والانقضاض ، والسبيل إلى الله مهددة الآن بجحافل من الملحدين والفساق تجر العامة جرًا إلى الجريمة وتصرفهم صرفـًا عن العبادة ، وتزين لهم بألف وسيلة ، أن يهجروا الإيمان والعمل الصالح ، وتلك حال تنفي النوم ، وتقض المضجع ، وهي حال تذكرنا بالخصائص الاصيلة في هذا الدين العظيم ، دين الإسلام ، إنه دين حريص على تجلية الحق ومقاومة الباطل ، يجأر بالدعوة ويصرخ بتوحيد الله ، ويهيب بالناس أن يقبلوا على الصلاة والفلاح بكرة وأصيلا ، دين ، ما إن يرى المنكر حتى يشتبك معه ، وينفر منه ، ويطوي الأفئدة على كرهه ، إنه دين لا يهادن الضلال لحظة . إن استطاع تغييره فعل ، وإلا ترك في القلوب فيه تغييره عند ما تسنح فرصة ، لقد زود الله هذا الدين بأسباب البقاء التي أعوزت ديانات سابقة ، فتلاشت تحت ضغط الوثنيات الجاهلة حينـًا ، أو تحت ضغط الجبروت الحاكم حينـًا آخر ، مصارع الديانات السماوية القديمة – لا مصارع بعض النبيين – هي التي جعلت العناية العليا تزوده بكتاب ” لا يغسله الماء تقرؤه نائمـًا ويقظان ” بعد أن بادت كتب وطمس التحريف والإفك معالمها ، وبعد أن لانت أحكامها وتعاليمها للوّضاعين وعبّاد الهوى .
وهذه التجارب القديمة نفسها هي التي جعلت الإسلام يغالي بقاعدة الأمر والنهي ، فليس الصلاح أن تعبد الله وتحيا مسالمـًا لمجتمع عاهر ، هذه عبادة مزيفة ، لا تنسب صاحبها إلى تقوى ، العبادة الصحيحة هي التي تدفع صاحبها إلى إنكار المنكر على درجة ماء ، جهد الطاعة ، والإسلام دين يتحرك بالحق ، ولا يسكن به ، إن الحركة سر الحياة ، والركود طريق الموت ، ومن هنا وصفت أمة الإسلام بالخاصة الأولى في دينها ، وهي الغيرة على الحق ، وطبع الحياة الخاصة والعامة به ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَsize=3>)size=3>( آل عمران:110 ) .
ومهما ساء الأمر وأظلمت الدنيا ( فلا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللهsize=3>).