كما تُقاد النفس عن طريق الرغبة تُقاد عن طريق الرهبة ، فتكف عن الرذيلة وَجلا مما يعقبها من منغصات ، أو تندفع إلى الفضيلة خوفـًا من مغبة التراخي والتفريط .
1- فالذي يشتهي لذة محرمة قد تقمع سورتها في نفسه بذكر الله ذي الجلال ، والذي يستهين بالحقوق ويغير بقوته فيجتاحها دون مبالاة ، قد تخوفه بذي الجبروت ، الذي إذا سخط عليه خسف به ، والله سبحانه وتعالى قوي متين، وعزيز ذو انتقام ، وديَّان لا يموت . والتخويف به حق.
وأثر الخوف بعيد المدى ، إنه في الدنيا يصنع الكثير ، فالطالب الذي يخشى السقوط يُحصِّل علومه ، والتاجر الذي يخاف الإفلاس يضاعف نشاطه ، والموظف الذي يكره التخلف يثابر في عمله ، ولذلك قال يحيى بن معاد:” مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة ” .
وترك المعاصي تهيبـًا لله واتقاء سخطه دين ، ومن حق الله أن يهاب ويخشى، وفي حكم الصالحين : ” لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت “، وقال علي – كرم الله وجهه – : ” إذا استعظمت الذنب فقد عظمت حق الله ، وإذا استصغرته فقد صغّرت حق الله ، وما من ذنب استعظمته إلا صغر عند الله ، وما من ذنب استصغرته إلا عظم عند الله … ” .
والخوف الذي يتحدث الشارع عنه ليس شعور قلق تهتز به النفس ، ويذهب فيه اتزانها ، ويكوِّن ما يُسمى الآن عقدة .. كلا ، إنه إحساس فطريٌّ يؤدي نتائجه في سهولة ، فالنظيف – مثلاً – يتقي الأقذار ، ويخاف دنسها ، ويحتاط أن يعلق ببدنه أو ثوبه شيء منها ، وهذا الخوف كمال نفسي ، وليس مرضـًا ولا شبه مرض .
2- والترهيب من الآثام قد يعمد إلى إبراز ما فيها من قذارة لا تليق بالإنسان العالي الشأن ؛ فالإسلام يسمي المعاصي قاذورات ، وينأى بالفطرة السليمة أن تتدلي إليها ، فضلاً عن تألُّف مواطنها ، والحقيقة أن المتأمل في أحوال المجرمين يرى مسخـًا غريبـًا في أنفسهم ، حتى لكأنهم يتحولون إلى أنواع من السباع والدواب ، وإن ظلوا في إهاب البشر ، ولا عجب ، فالمرء الذي يُمرَّن على الرذيلة ويستمرئها يصل إلى درك من السوء لا أمل بعده في سلامة، وهذا معنى قول الحسن : ” إن بين العبد وبين الله حدًّا من المعاصي معلومـًا ، إذا بلغه العبد طُبع على قلبه فلم يوفق بعدها إلى خير ” ، وهذا هو المسخ الذي وقع مثله لبني إسرائيل لما عتَوْا عن أمر الله .
والمغالاة بكرامة الإنسان ، وإفهامه أن المعاصي لا تليق بمنزله هي التي أوحت إلى ” ابن القيم ” أن يقول :
فحي على جنات عدْن فإنها منازلك الأولىَ وفيها المخيَّمُsize=3>
إن سوط الإرهاب تحوّل هنا إلى صوت عذب وحداء رقيق والمعنى واحد ، ولعل من ذلك قول عمر – رضي الله عنه – : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه .. ” .
والكشف عمَّا في الرذيلة من قبح ، شائع في الكتاب والسنة ، انظر كيف نصح الله أولياء اليتامى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً )size=3>( النساء:9 ) .
وانظر إلى نصح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للرجل الذي يحب الزنا ، كيف قال له : %(أتحب أن يكون لكذا ، وكذا ؟ )% من محارمه .
إن هذا النصح يبين خاصة من خواص البشر ، تحدَّث عنها علماء الأخلاق ، وهي أنه شذوذ لا يمكن أن يتحوّل بين الناس قانونـًا عامـًا .
3- وقد نخوف من الذنوب ومواقعتها ، ببيان خطرها على الإيمان نفسه ، فالمعاصي بريد الكفر ، واقترافها – دون حذر – فجور يدل على موت القلب .
وفي الحديث : ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا .. فطار)) ، ذلك أن الإيمان هو الصانع الأوحد للضمير الذي يوثق به ، فإن مراقبة الله جل شأنه أساس مكين في توقي الشرور والتحرز من الدنايا .
ولأمر ما أقسم الله بالنفس اللَّوامة ، والنفس اللوامة هي التي تترفع عن الإثم ، وتنفر عن مقارفته ومن مؤالفته ، وتدفع صاحبها أبدًا إلى حال أزكى ودرجة أرقى ، كأنها لا ترضى بما هي فيه حتى تنتقل إلى مرحلة أطيب ، فإذا بلغتها تكشف لها ما هو أعلى فتنشده ، وهكذا دواليك حتى تلقى الله .
ولأمر ما طُلبت منا التوبة النصوح ، والتوبة النصوح هي التي يتولد منها إحساس يقظ كأنه ديدبان حارس ، كلما دلف الشيطان ليزل الإنسان إلى معصية ، نبه إلى الخطر ، وحمي من السوء .
والنفس اللوامة والتوبة النصوح تسميتان تشيران إلى ذلكم الضمير الديني الوازع عن الشرور والباعث على الطاعات .
4- وقد يكون الإرهاب عن المعصية ببيان شؤمها في العاجلة وضررها الذريع في جسم الإنسان وأهله وولده ومكانته .
وبذلك ينزجر الإنسان عن مواقعتها خشية ما يصيبه من بلائها كأنه طائر أبصر الحب في الفخ فعلم أن حتفه فيه لو وقع عليه ، فهو يتركه نجاة بنفسه ، وطلبـًا للسلامة .
والواقع أن المعاصي مفتاح لمصائب فادحة وكرب جسام ، والرتع فيها يجر الويلات على الأفراد والجماعات ، قال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )size=3>( الشورى:30 ) ، ولولا أن الله يهب للخلائق فسحة ليستفيقوا ويقالوا لكان المحق هو الجزاء السريع لمخازيهم ، وتلك رحمة من الله، فهل يستغلها العصاة ؟ قال الله تعالى : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً )size=3>( فاطر:45 ) ، وهذا التأخير لا يعني إرجاء العذاب إلى يوم القيامة ، فإن لكل سيرة رديئة أجلاً موقوفـًا تستحق عنده العقوبة ، ثم تنزل بالفرد أو الجماعة في هذه الدنيا قبل الآخرة ، قال تعالى : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)size=3>( السجدة:21 ) ، وقد انتشرت في الكتاب والسنة النذر بتلك العقوبات العاجلة .
روى البيهقي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : %(يا معشر المهاجرين ، خصال خمس ، إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ :
1- لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون وظهرت الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم .
2- ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان .
3- ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يُمطروا.
4- ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم .
5- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم شديد ..)) %%.
وفي الحديث : %(خمس تُعجّل عقوبتهن : البغي ، والغدر ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، ومعروف لا يُشكر)%% .
وفي القرآن الكريم بيان لعقوبات نزلت بأمم تمردت على الله وجارت عن الطريق، فسلبت النعمة التي طالما مرحت فيها ، وحل بها ما لم تكن تتوقع ، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ )size=3>( سـبأ: 15 – 17) ، وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )size=3> (النحل:112 ) .
على أن عقوبات الآحاد والأمم تخضع لسنن عليا ، وتضبطها آماد ليس إلا الله يعلم موعدها ، وقد كان الأنبياء من نوح إلى محمد – صلى الله عليهم وسلم – يوجلون من تحديد هذا الموعد ، ويجيبون المستهزئين والمستعجلين بأن ذلك ليس إليهم، قال الله تعالى : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ )size=3> (هود:33 ) ، ويجري الله على لسان نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – هذا القول: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)size=3> ( الأنعام: 57 ) .
وقد نرى أفرادًا وأممـًا تُستدرج إلى مصيرها الفاجع بكثرة النعم – على ما فيهم من معاصٍ – وفي هذا يقول الله عز وجل: ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )size=3>( التوبة:85 )
( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )size=3> ( آل عمران: 196 ، 197) .
وقد نرى آحادًا من الناس يرتكبون الذنب أيسر مما يصنع أولئك الفجرة ، فيعاقبهم الله بشيء من الحرمان كما جاء في الحديث : %(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)%% ، وذلك منه سبحانه تأديب لمن يريد تقويمهم في الدنيا ليلقوه في الآخرة مطهرين .
6- وقد نحض الناس على أنواع الخير ، ونحجزهم عن ضروب الشر ، بذكر الآخرة وما في جهنم من عذاب شديد ، ومهانة بالغة ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)size=3> ( المزمل:18 ) ، فخوف من الكفر بعذاب يوم القيامة ، وقال تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)size=3> (الإنسان:8 – 11 ) .
وفي الحديث : %(اتقوا النار ولو بشق تمرة )%% ، وفي الحديث أيضـًا : %(دخلت امرأة النار في هرة حسبتها ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )%%.
والتخويف بالنار ، ووصف صنوف العذاب المعد فيها يستغرق جزءًا كبيرًا من الكتاب والسنة ، وما دامت النار حقـًا ، وما دامت معدة للسفلة يقينـًا ، فلِمَ يكون التخويف بها عيبـًا ؟؟
فعلى الدعاة أن يستخدموا هذا الأسلوب الذي بينه لهم القرآن ، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )size=3size=3>