إنَّنا نواجه الآن “التنمر” بكل أشكاله؛ فبدلاً من التعامل مع الآخرين برأفة ورحمة ومحبة وطيبة، تحوَّل البشر إلى شخصيات شرسة تتنافس فيما بينها على إيذاء بعضها بعضاً، وتحوَّل الواقع إلى غابة تنعدم فيها ثقافة الحوار والإقناع وقيم التواصل الحقيقية والنية الحسنة، وانقسم المجتمع إلى فئتين: فئة مُتنمِّرة وفئة مُتنمَّرٌ عليها، ولم يسلم أحد من هذه الظاهرة أطفالاً كانوا أم كباراً.
يعدُّ المُتنمِّر شخصاً مريضاً نفسياً، ويعمل على تفريغ اضطراباته النفسية في سلوكاته اللاأخلاقية؛ ممَّا يترك المتنمَّر عليه حائراً بين ما تربى عليه من قيم وأخلاق، وبين نزعته الفطرية إلى استرداد حقه واعتباره المستباحان.
لقد خلقنا اللَّه مختلفين لكي يكون لكل شخص قصته وتحدياته ورسالته وشغفه؛ لكن عوضاً عن الاحتفاء بهذا الاختلاف والتعامل معه على أنَّه نعمة وفرصة، يتحول إلى تهديد حقيقي ونقمة؛ فعندما تصبح السلبية هي العملة المتداولة ضمن وسط أصبح فيه التطاول والتعدي على حدود الآخرين أمراً طبيعياً، ويصبح من السهل والممتع جداً التعرُّض إلى كرامات الناس والمساس بمساحتهم الخاصة وإبداء كمٍّ من الانتقادات الهدَّامة والتعليقات الساخرة المُحطِّمة، وتتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى منصات للتطاول وهتك الخصوصية وتشويه السمعة واستعراض القوة؛ يدل هذا على وجود أزمة حقيقية في المجتمع.
لقد سمحنا للتكنولوجيا أن تحكم قبضتها علينا، وفتحنا المجال للعبثية لكي تكون سيدة الموقف، ولشريعة الغاب لكي تكون المعيار الأساسي للوجود في وسط مجتمع لم يعد يعترف بالقيم معياراً له.
ما هو التنمر الإلكتروني؟
التنمر عبارة عن سلوك سيئ ومقصود ومستمر يُراد به أذية الطرف الآخر، ممَّا يسبب آثاراً نفسية سلبية على الشخص الواقع عليه.
تتنوَّع أشكال التنمر لتشمل ما يأتي:
- استخدام الألفاظ الجارحة التي تؤثر في ثقة الإنسان بذاته.
- ممارسة العنف الجسدي، كالضرب.
- تعمُّد الإذلال العلني أمام الآخرين، حيث يركِّز المتنمِّر على نقاط ضعف ضحيته ويعمل على إظهارها أمام الآخرين دون رحمة.
- تعمُّد تخريب ممتلكات الضحية، الأمر الذي يؤثر بشدة في نفسيتها.
- تعمُّد نشر الشائعات عن الضحية، وإفشاء أسرارها، وتلفيق التهم لها بقصد تشويه السمعة.
لقد ظهرت ظاهرة التنمر الإلكتروني كإحدى سلبيات التكنولوجيا، حيث تحولت منصات التواصل الاجتماعي من منصات هدفها التقريب بين الناس مع احترام الاختلافات بين الأشخاص وتنوع الثقافات، إلى منصات هدفها إذلال الآخر، وتشويه السمعة، والطعن بالكرامة، وهتك الخصوصية، والسخرية، والتقليل من الاحترام؛ فقد أصبح من السهل جداً الإساءة إلى أي شخص من خلال منشور على الفيسبوك، وتلفيق الأكاذيب واختلاق الشائعات وإبداء الآراء غير المدروسة وغير الهادفة؛ الأمر الذي عرَّض الأشخاص المتنمَر عليهم إلكترونياً إلى حالة نفسية قاسية جداً.
ما آثار التنمر الإلكتروني؟
يعدُّ التنمر الإلكتروني أشدَّ صعوبة من التنمر المباشر؛ وذلك لصعوبة اكتشافه من قبل الأهل؛ إذ لا يراقب الأهل عادة حسابات أولادهم الإلكترونية، ولا يكترثون ببقاء أولادهم أمام شاشات الأجهزة المحمولة لساعات طويلة دون أي رقابة أو انتباه.
قد يتعرَّض الشبان اليافعون إلى محاولات التنمر الإلكتروني، كأن يكتب أحدهم منشوراً يستهزئ فيه بالضحية ويضرب بكرامتها وينتقدها بإسلوب غير محترم، ويركِّز على نقاط ضعفها ويضخمها ويؤلف روايات مسيئة عنها؛ ممَّا يؤدي إلى آثار نفسية خطيرة وعميقة، حيث تظهر على الطفل الخاضع إلى التنمر علامات الانطوائية والميل إلى الوحدة والكآبة، وتقل شهيته للطعام، ويضطرب نومه، ويتدنى تحصيله العلمي.
لا يبوح الطفل لأهله في أغلب الأحيان عمَّا يعانيه من مشكلات؛ ذلك لأنَّه لم يعتد مشاركتهم له في تفاصيل حياته ولِخوفه من ردة فعلهم الانفعالية غير المتزنة؛ وفي حال استمرار حالة التنمر دون أن يملك الطفل جرأة الإفصاح عنها، ودون انتباه الأهل إلى العلامات المنذرة بوجودها؛ ستتضخم أعراض الطفل وتزداد كآبته وصولاً إلى التفكير في الانتحار.
ما هي أسباب التنمر الإلكتروني؟
1. التربية الخاطئة:
يعتمد الكثير من الأهالي أسلوب التربية القاسي، كأن يستخدموا أسلوب الأمر والنهي مع أولادهم، ويبتعدوا عن أسلوب الحوار والإقناع والتبيان والإيضاح، ولا يسعوا إلى تعزيز إحساس أطفالهم بذاتهم وقيمتهم وحقوقهم، ولا يكترثوا بتطوير مهاراتهم وقدراتهم على التواصل والتعبير عن مكنوناتهم ورفض كل أمر يرونه غير مناسب أو يطيح بقيمتهم وكيانهم؛ ممَّا يسهم في خلق طفل مهزوز الشخصية، وفاقد الثقة بذاته، ومضطرب الهوية، ومعرَّض إلى حالات من التنمر الإلكتروني وغيره.
يؤدي وجود الطفل في بيئة أسرية سلبية مليئة بالصراعات بين الأبوين إلى زيادة احتمال نشوء طفل مضطرب الشخصية وعنيف ولا يؤمن بالعلاقة التكاملية مع الآخر، وقد يلجأ هذا الطفل إلى التنمر كرغبة منه في لفت الانتباه إليه؛ فهو يعاني من حرمان عاطفي شديد أدى إلى بحثه عن الاهتمام بطريقة سلبية.
تربي الكثير من الأسر أولادها على ثقافة العنف، وتعلِّمهم الدفاع عن أنفسهم عن طريق ممارسة التعنيف والاقتتال، دون وعي منهم أنَّهم يحولون طفلهم بذلك إلى طفل عدواني وسلبي ومُتنمِّر.
من جهةٍ أخرى، يعتقد الكثير من الأهالي أنَّ القوة تكمن في العضلات والاستقواء على الضعيف، وليس في حماية الضعيف ورعايته؛ فيزرعون في نفوس أولادهم هذه القيمة بحجة أنَّهم لا يريدون لابنهم أن يكون ضعيفاً؛ إلَّا أنَّ القوة الحقيقية تكمن في الإحساس بقيمة الذات وتقديرها، ورفض الإساءة والإهانة بطريقة واضحة وصريحة، ووضع حد للطرف المعتدي دون الانغماس معه في الدونية.
2. عدم الوعي بثقافة الاختلاف:
لا يعي الكثيرون منَّا أهمية الاختلافات بين الناس، ولا يستطيعون احترام اختلاف الآخر عنهم، وينظرون إلى هذا الاختلاف على أنَّه عيب، ويحاربون كل شخص يختلف عنهم؛ لكنَّ اللَّه قد خلقنا مختلفين لكي نكمِّل بعضنا بعضاً، لا لنتنافس على تشويه سمعة بعضنا.
3. غياب دور المدرسة:
يؤدي إهمال المدرسين والإدارة والمرشدين النفسيين معالجة شكاوى الطلاب الواردة إليهم بخصوص حالات التنمر التي يتعرَّضون إليها إلى ازدياد حالات التنمر بشدة ملحوظة؛ وذلك نظراً إلى غياب الرادع لها، وإلى استمرار تدهور الحالة النفسية للطفل الضحية.
4. المفهوم الخاطئ عن الإيمان:
يعتقد بعض الناس أنَّ على عاتقهم رفع راية الإسلام عالياً حتى لو لم يكونوا على حق، فيتطرفون في سلوكاتهم، ويبدؤون الانتقاد والتجريح والإهانة تحت راية الإسلام؛ دون أن يَعُوا أنَّ دين الإسلام دين تسامح وستر، وأنَّه يدعو إلى احترام الآخر وتقديس الحريات الشخصية.
5. الإعلام:
ساعد الإعلام في نشر ثقافة التنمر من خلال تركيزه على الأمور السلبية والمشكلات وتضخيمها، دون العمل على تقديم بدائل منطقية واضحة وصريحة.
شاهد بالفيديو: أعراض التنمر المدرسي وعلاجه
[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”640″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/-E19Zaw_puk?rel=0&hd=0″]
ما علاج التنمر الإلكتروني؟
علاج الشخص المتنمِّر:
- يجب على الأهل توعية طفلهم بالمفهوم الحقيقي للقيادة والقوة، بحيث يدرك أنَّ القوة تكمن في مناصرة الضعيف وحمايته واحترام اختلافه، لا في الاستهزاء والسخرية والانتقاد الجارح.
- على الأهل مراقبة حسابات أطفالهم الإلكترونية للتأكد من عدم وجود أي حالة تنمر إلكتروني، ومشاركتهم البحث الإلكتروني عن معلومات هامة وقيِّمة ومفيدة لكي تتهذب سلوكاتهم وتتشذب.
- على الأهل أن يكونوا قدوة لأبنائهم، ويزرعوا في عقول أطفالهم أنَّ الاحترام وتقدير الآخر سمة الإنسان الراقي والمؤمن والصالح.
- على المدرسة توعية الطلاب إلى ضرورة التعامل بمحبة ورحمة فيما بينهم، ومعاقبة كل طالب متنمِّر لتكون العقوبة رادعاً يمنع بقية الطلاب من التنمِّر، وتبيان مساوئ التنمر، وشرح مجموعة الأخلاق والقيم التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الراقي والمهذب.
علاج الشخص المتنمَّر عليه:
- على الأهل فتح جسور التواصل بينهم وبين ابنهم، واتباع أسلوب الحوار والإقناع والتبيان لا أسلوب الفرض والإكراه، بحيث يكون المنزل الملجأ الآمن للطفل الذي يستطيع أن يبوح فيه بأعمق أسراره وأخطرها دون أن يحسب حساباً لنظرة والديه أو ردة فعلهم؛ فهو يعلم أنَّهما سيحتويانه ويدعمانه حتّى آخر رمق في حياتهما.
- على الأهل تقوية ثقة الطفل بذاته؛ وذلك من خلال الاهتمام به، واحترام رغباته ومساحته الخاصة؛ كما يجب عليهم توعية طفلهم بحقوقه وحدوده الشخصية الهامة التي لا يجوز السماح بمساسها.
- على الأهل العمل على تسجيل ابنهم بأندية رياضية بغرض بناء قوته البدنية، إذ من شأن ذلك أن يعزز من ثقته بذاته.
- على الإعلام المشاركة في تسليط الضوء على قضايا التنمر، مع اقتراح الحلول لها، والإجراءات الاحترازية التي تقي أطفالنا من الوقوع في فخ التنمر.
- يجب على الدولة وضع قوانين صارمة فيما يخص قضية التنمر؛ فمثلاً: وُضِعت عقوبة للتنمر في سنغافورة في عام 2014، حيث غُرِّم الطالب المتنمِّر وأهله بغرامة مالية قدرها 15 ألف دولار عند قيامه بمحاولة تنمر.
الخلاصة:
إن كنت ممَّن تعرَّض إلى التنمر، فاعلم أنَّ تأثرك النفسي بالقضية يعود إلى حجم القيمة والأهمية التي أعطيتها للطرف الآخر (المتنمِّر)؛ لذا تحدَّ ذاتك، واجعل من حالة التنمر التي تعرَّضت إليها فرصة لكي تفجِّر كل طاقاتك الكامنة ومهاراتك الخفية وإبداعاتك المستترة.
المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6