الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيرا، ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، أما بعد:
إن الدين الإسلامي العظيم جاء بجملة من الآداب الاجتماعية هي نسيج واحد ملتئم ومتماسك، لا يمكن الأخذ بطرف منه وترك سائره، بل لابد من التحلي به جملة وتفصيلاً حتى يسود المجتمع ويرتقي في سلم المجد والعز.
فمن الآداب الاجتماعية المؤثرة في المجتمع أدب الوفاء بالمواعيد المضروبة وعدم التخلف عنها إلا بعذر قاهر صحيح مقبول، حتى يطمئن الناس بعضهم إلى بعض، ويثق بعضهم بوعد البعض الآخر، وكلامه، وميثاقه وعهده، والتزامه الذي التزمه، والوعد المضروب الذي ارتضاه وقبله.
أيها الأحبة:إن الله سبحانه وتعالى مدح نبياً كريماً بالصدق في الوعد، والالتزام به، فقال-سبحانه-:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} مريم:54، قال الإمام القرطبي- رحمه الله- عند هذه الآية: “صدق الوعد من خلق النبيين والمرسلين، وضده-وهو الخلف- مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين…” (الجامع لأحكام القرآن (11/115).
أما النبي-صلى الله عليه وسلم- فقد حث على الوفاء بالوعد، وجعل من يخلف الوعد قد اتصف بصفة المنافق، فقال -عليه الصلاة والسلام-: “آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف” قال الحافظ السخاوي-رحمه الله تعالى-في قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:”إذا وعد أخلف”: “إنه محمول على مَن وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما مَن عزم على الوفاء ومَن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن يحترز من صورة النفاق كما يحترز من حقيقته.. ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة..” ( التماس السعد83-84).
ومما جاء في الأحاديث يفيد أهمية الوفاء بالوعد والصدق فيه ما جاء في حديث هرقل المشهور لما قال لأبي سفيان:” سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي”. فالوفاء بالوعد والعهد من صفة الأنبياء، ومن صفة أتباعهم ومن جرى على سنتهم.
أمثلة من وفاء السلف في مواعيدهم:
كان السلف الصالح-رضوان الله عليهم- يحرصون كل الحرص على إنجاز ما يوعدون به، فهذا ابن مسعود –رضي الله عنه-كان يقول أصحابه إنه إذا وعد فقال: إن شاء الله، لم يخلف. وهذا محمد بن سيرين-رحمه الله تعالى-يواعده ابن عبد ربه القَصَّاب فيقول: “واعدت محمد بن سيرين أن أشتري له أضاحي فنسيت موعده لشغل ثم ذكرت بعدُ، فأتيته قريباً من نصف النهار، وإذا محمد ينتظرني ، فسلمت عليه فرفع رأسه فقال: أما أنه قد يقبل أهون ذنب منك، فقلت: شُغِلتُ، وعنفني أصحابي في المجيء إليك وقالوا: قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة، فقال: لو لم تجئ حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو الحاجة لا بد منها”. ولا ريب أن صنيعه هذا-رحمه الله تعالى- يدل على حرصه الشديد على الوفاء بوعده وإعذار الآخرين المتأخرين.
أهمية الالتزام بالمواعيد المضروبة وعدم الإخلال بها:
إن الالتزام بالمواعيد المضروبة، صفة من صفات الأنبياء والمرسلين، وخلق من أخلاق العلماء والدعاة المخلصين، وأدب من آداب الرجال الصادقين، فالالتزام بالمواعيد يحفظ الأوقات من الضياع، فتحصل المصالح، وتعم الفائدة، ويتصف صاحب الوفاء بصفة حميدة يحبه عليها الله والناس.
قال عبد الرحمن بن أَبْزى-رضي الله عنه-: كان داود-عليه السلام-يقول:” لاتَعِدنَّ أخاك شيئاً لا تنجزه له، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة”.
أولئك قوم أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهَلَكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به مسافة آجالهم، فقالت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال وشفعوه بالفعال”.
يقول أبو تمام:
إذا قلت في شيء : نعم فأتمه *** فإن نعم دَين على الحرِّ واجب
وإلا فقل : لا تسترح وترح بها *** لئلا يقول الناس : إنك كاذب
ويقول العقيلي في هذا المعنى:
ابدأ بقولك لا من قبل قول نعم *** يا صاح بعد نعم ما أقبح العللا
واعلم بأن نعم إن قالها أحد *** عند المواعيد لم يترك له جدلا
أسباب التهاون بالمواعيد:
أيها الأحبة:إن هناك جملة من الأسباب التي قد تؤدي- مجتمعة أو منفردة- إلى الإخلال بالمواعيد والتخلف عنها والتهاون بها، وبعض هذه الأسباب أخطر من بعض؛ لكنها كلها مؤشر على خلل في الشخصية لا بد أن يتداركه المرء، فمن تلك الأسباب ما يلي:
1- ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية: وذلك ؛ لأن الموعد المضروب المتفق عليه لا يصح شرعاً أن يُتأخر عنه إلا بعذر شرعي؛ وذلك لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-عد من علامات النفاق العملي إخلاف الموعد.
2- عدم إدراك أن الموعد المضروب المتفق عليه لا يجوز الإخلال به إلا بعذر، وهذا قد يكون عند بعض الناس عذراً قائماً يعتذرون به، إذ يظنون أنه لا شيء في إخلاف الموعد ولا بأس فيه، فهؤلاء ينبغي أن يُعلَّموا ويبين لهم حتى يزول جهلهم وينتفي عذرهم.
3- عدم المبالاة: وهذه صفة قائمة في بعض النفوس، حيث صار أصحابها لا يبالون بأمور كثيرة، ولا يرون أهميتها، ومن جملة تلك الأمور قضية الالتزام بالموعد، ولأن عدم المبالاة صارت صفة لبعض الناس فإنك تراهم لا يأبهون ولا يبالون أحضروا في الوقت أم لم يحضروا، أو أنك تراهم يتخلفون عن الحضور تماماً ثم لا يتكلف الواحد منهم مشقة الاعتذار ولو مهاتفة!! وهذا الصنف لا يعتمد عليه ولا ينبغي أن يعتمد عليه في شيء ذي بال فإنه ضائع مضياع، لم يُربَّ التربية الإيمانية الجادة القوية.
4- عدم الالتفات إلى الدقائق أو إلى أجزاء الساعة: وهذا في الحقيقة جزء من السبب السابق-عدم المبالاة- إذ تجد الشخص لا يعد الدقائق أو أجزاء الساعة شيئاً، فالموعد المضروب في الساعة السابعة والنصف لا يرى شيئاً في تأخيره إلى الثامنة، والموعد المضروب في الساعة السابعة والربع يؤخره إلى السابعة والنصف أو الثامنة أيضاً وهكذا، وكل ذلك نابع من عدم مبالاته.
5- عدم تقدير أهمية ما يراد الحضور إليه: هناك من الناس من يتخلف عن الحضور إلى المواعيد المضروبة؛ لأنه لا يرى أهمية لحضوره، أو يراه في أحسن الأحوال مرجوحاً في حقه، فهذا لا عذر له على الحقيقة، وذلك لأنه كان ينبغي له الاعتذار المبكر عن عدم الحضور لئلا ينتظره من يتوقع حضوره، لكن بعض الناس يخجل من الاعتذار، أو يخاف إن اعتذر ألا يُقبل عذره، أو يُساء الظن به، أو غير ذلك من الأسباب التي هي ليست في الحقيقة أسباباً وجيهة يقدم بها بين يدي غيابه.
6- عدم مراعاة الأولويات: إن مراعاة الأولويات أمر مهم، فيكون قد وعد الطلاب بدرس في الساعة التاسعة، ثم يتأخر عنهم إلى العاشر لأسباب قد لا تكون أسباب في الحقيقة فمثلاً يقول لك:
تأخرت بسبب أني كنت مع زوجتي في السوق.
تأخرت لأن زوجتي أصرت أن أوصلها إلى بيت أهلها أو صويحباتها.
تأخرت لأن عندي موعداً آخر، فيكون قد وقع في خطأ أخر وهو أنه ربط أكثر من موعد في وقت واحد. هذه وغيرها من الأعذار والأسباب الواهية.
7- عدم اتخاذ الوسائل المناسبة للتذكير بالموعد: فبعض الناس يريد الحضور في الموعد الذي التزمه، ويأنف من التخلف عنه أنفة تامة، لكنه لم يتخذ من الوسائل ما يكفل له ذلك؛ خاصة إن كان الموعد المضروب بعد أسابيع أو شهور فهذا يحسن به أن يتخذ مذكرة، أو مفكرة، ينظر فيها كل يوم ليتذكر بها مواعيده، أو إن كان قد اتخذ مساعداً في عمله فليذكره المساعد بما التزمه من المواعيد، أو يتفق مع آخرين يخضرون معه موعده أن يذكروه، وينبهوه، وكل تلك الوسائل ناجعة في تحقيق الالتزام المطلوب خاصة لمن كان مصاباً بمرض النسيان.
وفي المقال القادم إن شاء الله نبين الآثار السلبية المترتبة على شيوع ظاهرة التهاون بالمواعيد وأسس العلاج لهذه الآفة، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.