يبدو أن مخططات فرض السلام على العرب مع “إسرائيل” قد فشلت كما كان متوقعاً لها منذ بداياتها ، وكان على الدول التي وضعت الخطوط الأولى لاستسلام مريح من قبل العرب لضمان بقاء دولة “إسرائيل” أن تحسب حساباتها للتغيرات التي يطلق عليها اليوم (ربيع العرب) ، أو لأي طارئ آخر غير متوقع.
ولا شيء من هذا القبيل تم الالتفات إليه مع أن معظم المحللين السياسيين من العرب على الخصوص كانوا ينصحون الغرب بعدم الانجرار نحو فكرة إرغام الشرق الأوسط على قبول فكرة الأمر الواقع في التعايش السلمي مع الدولة العبرية.
ولأنهم يعلمون عن توجهات الشارع العربي أكثر من علمهم بتوجهات الحكام العرب ،غير أن العالم لم يستمع لتلك النصائح باعتبار أن العرب قوم ناموا وتركوا مقاليد أمورهم للغرباء.
اليوم يحاول الغرب – الذي تفاجأ بالأحداث – احتواء التغيرات العربية بحيث لا يخرج القطيع (حسب تصوره) عن مسار الراعي بقبعة الكاوبوي الأسطوري. وهو بذلك يعيد نفس خطئه السابق في التعامل مع الرأي العام العربي.. وإذا ما تم احتواء الثورات العربية أو محاولة شرائها بثمن بخس، فسيأتي يوم آخر قد تعود الشعوب العربية – التي اكتسبت تجربة الثورات – لتقلب الطاولة على رأس المتفاوضين.
ولا أحد يستطيع أن يفسر سبب إصرار الدول الكبرى على عدم الرجوع للمنطق والتاريخ والأخذ بما تمليه عليهم مصالحهم الآنية والسير مع رغبات الشعوب؟
الثورات العربية ثورات شبابية صرفة وهؤلاء الشباب لا ينتمون إلى تلك الفئة من الشباب المستهتر بحضارته والتي تسهر على متابعة المسلسلات المكسيكية وستار أكاديمي وترقص الراب على الموسيقى الغربية ولا إلى تلك التي تسببت في انهزام العرب منذ عام 1948 ، وإنما هي من خيرة الشباب العربي المثقف الواعي والذي يفهم ما يرمي وما يصبو إليه.. بمفردة أخرى هي تلك الفئة من الشباب التي تقرأ وتفكر وتحلل ومدركة لبواطن الأمور وعلى هذا الأساس سقط نظام الحكم في دولتين عربيتين قويتين وفي انتظار سقوط دولتين أو أكثر على المدى القريب.
وهو فيما يبدو أمر لا مفر منه مهما حاولنا تجنب التيار والتغيير. وهؤلاء قرأوا بأن الأنظمة العربية التي ترفض التطور والتغيير تعاني من عدة أمراض مزمنة مدمرة تنخر في هياكلهم الفقر، الجهل، التخاذل، الخوف، التنازلات، التأخر العلمي والتكنولوجي، البطالة، التبعية، الفساد، تبذير المال العام، احتكار السلطة، البيروقراطية، الدكتاتورية والظلم الاجتماعي، الغزو الثقافي، التسيب، التسلط، الطبقية، هجرة العقول، الاغتيالات السياسية، نفاق الإعلام للأنظمة، التخلف الصناعي والتقني، الانغلاق، التطرف، التقليد الأعمى، المظاهر، الأنانية وحب الذات، انعدام القيم وانعدام الثقة بالنفس، الخوف من التقدم… إلخ. ورأوا بأن التغيير يجب أن يشمل كافة النواحي الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية والثقافية والعلمية والصناعية.
وتوصلوا إلى أن مصائب العرب ترتبت على وجود الاستعمار الذي ما انفك يدير شؤون الشعوب العربية – رغم الاستقلال الصوري – من على بعد آلاف الكيلومترات بأجهزة التحكم عن بعد ، وأول ما قرره هؤلاء إبعاد شبح الهيمنة الغربية عن رؤوسهم.
وما نقرأه في الصحف هذه الأيام من رفض ثوار مصر رفضا قاطعا لأي مساعدات مشبوهة من الولايات المتحدة الأميركية رغم الحاجة الملحة لها، لدليل واضح على ثقافة وبعد نظر الفتية الذين قادوا ثورة مصر نحو التغيير. وكنا قد تحدثنا سابقا وفي مقالات عديدة سابقة بأن مشكلة الشعوب الغربية أنها لا تقرأ أفكار الشعوب العربية وإنما تلهث نحو أهدافها ومصالحها القريبة وفي كثير من الأحيان ترضخ لضغوطات اللوبي الصهيوني دون أن تدرس الظروف المحيطة ومصالحها البعيدة.
وعندما دارت الثورات على مخططاتهم، داروا هم أيضا حول تلك الثورات بغية احتوائها غير أن عزيمة الثوار ومخططات الغرب تصادمتا ولكن هذه المرة بهدوء.. فكل طرف غير راغب في إثارة الآخر واستفزازه.
فالثورة ما زالت أرضيتها غير صلبة ولم تحسم نتائجها والغرب خائف من ردة فعل الثوار المتحمسين للتغيير بدءا من الجذور وهم فعلا بدأوا برسم ملامح نظامهم الجديد.. وقد بدا هذا مع محاولة إعادة البحث عن حلفاء جدد أقرب لهم في الأرض والتفكير والمصلحة والمعتقد وليثبتوا استقلاليتهم عن ضغوط الغرب السابقة التي دمرت مصر وأبعدتها عن دائرة الأمة العربية وعن قيادتها.
وأدرك المصريون نتيجة لمعاناتهم من الهيمنة الغربية بأن إيران وتركيا يمكن الاعتماد عليهما في المرحلة الراهنة في انتظار ما ستتمخض عنه حركات المعارضة في ليبيا واليمن وسوريا.. وأن القاسم المشترك بين مصر الجديدة وتركيا وإيران هو إيقاف الغطرسة الإسرائيلية في المنطقة من خلال ما تمارسه على أهالي غزة من حصار وتدمير للبنية التحتية والذين هم أقرباء لهم في الدين واللغة وجيران في الأرض والمعاناة وربما أيضا كإثبات لموقف الثوار الجدد المعارض لكل ما كانت تنتهجه سياسة النظام المصري السابق في علاقاته الخارجية.
ويبدو أن أول مؤشرات تلك التغييرات الخارجية هي القيام بالمصالحة بين الأخوة الأعداء، فتح وحماس وفتح معبر رفح ومحاولة إعادة المياه إلى مجاريها مع إيران وتقوية العلاقات مع تركيا وإعادة طرح مسألة سعر بيع الغاز إلى “إسرائيل”
وكلها مؤشرات تدل على أن القادم في السياسة المصرية غير الذي ولى منها وأن إسرائيل لم تعد تشكل قطب الرحى في تفكير وفي سياسات الشرق الأوسط الجديد.. وأن الخرائط الوهمية التي وضعت بغرض التوصل إلى سلام مع الدول العربية بالقوة لم يعد مرغوبا فيها بعد التطورات التي بدأت تهز العالم العربي.
وبالتالي فشلت خطط السلام التي كانت أشبه بسياسة الجزرة المعلقة في طرف العصا الأميركية إلا بشروط جديدة يفرضها الثوار الجدد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان الإماراتية