عزيزة علي

عمان – صدر حديثا للشاعر الإعلامي الأردني الراحل خيري منصور كتاب بعنوان “الجغرافيا الحزينة – نصوص في نوستالجيا الأمكنة”، يضم مجموعة مقالات نثرية يصور فيها منصور مظاهر الحياة العادية والثقافية، للمدن التي زارها وأقام فيها.
وكتب مقدمة الكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الإعلامي العراقي زهير ماجد، بعنوان “أجمل التاريخ كان غدا”، يقول فيها إن العراق تحتفظ باسم خيري منصور ليس كونه كاتبا عربيا مقيما فيها، بل حالما قادما منذ أن تأسست وصارت وحملت نجوما من المثقفين الكبار والأسماء المهمة في عالمها. وبين ماجد أن هذا الكتاب يكشف العلاقة بين منصور وبين بغداد، وهو مضطرب البال أثناء الحرب الأميركية على بغداد، فالمدينة التي حمته وهو القادم من مدينة عربية، سيتغير عالمها إلى الأسوأ، وسيكون عليه أن يفتش عن مكان آمن جديد، لله درك أيها الفلسطيني المتنقل الحامل نكبته على كتفه أينما رحل، وحملها إلى قبره أيضا.
وفي هذه المقدمة يدعو ماجد لقراءة هذه المقالات لما تحتويه من معلومات وأسماء وشهادات عليها؛ تطلعنا على عوالم منصور الإبداعية من خلال لغة ليست سردية، بل أنيقة هدارة في اختيار الكلمات وفي رنة الحروف، مبينا أن منصور لا يترك للقارئ سوى المتعة التي تنتقل بين الصفحات وبأسلوبه ومعلوماته وكيف يبني هرم مقاله من أوله الى أخره، مرة تقرأه بشكله الطبيعي ومرة بشكله المقلوب وهو فن لا يجيده سواه. ودائما هو من يؤكد جملة الشاعر اللبناني “سعيد عقل-من أجمل التاريخ كان غدا”، فقد كان السباق في رسم لوحة هذا التاريخ، ومن قرأ مقالة منصور الكثيرة في صحف عربية أو سمع نقاشاته سيتأكد من رؤية منصور للغد وما يحمله كأنه يعيشه، فهو بالتالي المبشر بهذا الغد بعدما رآه دائما قبل غيره.
ويشير ماجد إلى خوف منصور على العراق في إحدى المقالات التي يضمها الكتاب فيقول:”إنني اكتشفت بل أعدت اكتشاف حقيقة ناصعة هي عدم قدرتي على الحياة بعيدا عن بغداد”، وكلمة الحياة هنا تشمل العالم كله، فكيف سيكون على منصور الذهاب إلى خيار آخر، وهو يعتقد أن هذه المدينة ستكون آخر محطة في رحلته الفلسطينية التي لا تنتهي، وبقدر ما كانت بغداد في الكتاب لغة الحزن المعتق في كتابته وأحاسيسه.
ويتحدث ماجد عن علاقة منصور بالقاهرة التي كانت كما يقول، “حركة انبعاث دائم في فن تعلق بها هي الأخرى، وهذا التعلق يعني الاهتداء إلى روح تقبله، والعاصمة المصرية تكاد تكون هي صانعة منصور، وهي طلقة النور الأولى في حيوية شبابه ووعيه ورحلته مع الكتاب، حيث كانت في ستينياتها من القرن الماضي زعيمة كبرى، وكذلك كانت زعامة جمال عبدالناصر التي ارتبط بها.
وبين أن منصور كتب أكثر من مقال في أدب الرحلات، بأسلوبه المميز وبالطريقة التي يحاكي بها التاريخ الشخصي والعام، وأسهمت هذه المقالات في صناعة أدب جديد يمكن تسميته بـ “أدب الذات المحكية”، فهو ينطق وهو يكتب وهو يسجل للتاريخ، وأين دعست أقدامه وصار لها المكان في حفلة الزمان الضائع، أما الأسماء التي يذكرها في كتابه ففي قناعة منه أنها سهلت عليه فهم الروح البشرية في شتى تناقضاتها، فهو يعلمنا في كل ما كتب أننا نستطع أن نخترع أساليب كتابية متنوعة، وهذا ما كان يتميز به منصور في مجال الكتابة، فتراه في كل كتاب من كتبه عالما مختلفا من التعبير، فهو مؤنسا في ألفاظه، وخصوصا في هذا الكتاب، بين روح الفكاهة والخلاصات الفكرية العميقة الدالة على عمق ثقافته ومنهجيته.
ماجد يعبر عن خسارته لمنصور، فيقول: “لا أنكر أني خسرت أجمل الرجال وأذكاهم يوم قرر الرحيل بعد أن حفظ عن ظهر قلب جملة ألبير كامو:”علينا اختيار ميتات واعية”، قال لي قبل وفاته بأيام قليلة أنا سأنهي المسألة، فعرفت أنه اندفع بوعي كامل إلى العالم الاخر، بل انتقل هو بإرادة ذاتية ليس انتحارا بل إصرارا على التماس الموت، موت الموت بخيار إغفاءته لا تقاوم.
رحل منصور، لكنه ترك إرثا من جمال الكلمات المشكلة لكتبه المتعددة وهذا الكتاب واحد من عمره الجميل الذي عاشه بين عواصم وأماكن تمتد من الشرق الأقصى إلى المغرب العربي. كان حيويا جدا، وهو الذي كان يحول مجالسه دائما إلى مساحات من النقاش الفكري المعمق ويخرج منه منتصرا كعادته، بل كان ينشئ صداقاته بكلمات بسيطة، لكنها أعمق ما يكون من كلمات، في هذا الكتاب أطلق سؤال المصير ليس للعراق فقط، بل لأمة بأسرها. فتراه يأنس باللعب على اللغة، بتعليمنا دون طلب منا، الدوافع إلى القراءة، الى حب الكتابة، في عالم عربي يزداد عدد سكانه ويقل دائما عدد قرائه، بل تزيد فيها الأمية كلما طلعت شمس أو غربت.
ويذكر أن خيري منصور شاعر وصحفي أردني ولد في قرية دير الغصون بالقرب من طولكرم، درس في الضفة الغربية حتى أنهى دراسته الثانوية، ثم انتقل للدراسة في القاهرة. أثناء نكسة حزيران العام 1967، هجرته سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن فلسطين، فانتقل إلى الكويت ثم بيروت ثم العراق.
أصدر مجلة “الفكر العربي المعاصر” في بيروت وعمل في تحريرها. ثم عمل محرراً في مجلة الأقلام العراقية، ثم محرراً أدبياً في جريدة الدستور حيث كان يكتب عمودا يوميا.
صدر له العديد من المؤلفات في مجال الشعر، ومنها: “غزلان الدم”، و”لا مراثي للنائم الجميل”، و”ظلال”، و”التيه وخنجر يسرق البلاد”، و”الكتابة بالقدمين”، وفي مجال النقد صدر له: “الكف والمخرز”، و”دراسة في الأدب الفلسطيني بعد العام 1967 في الضفة والقطاع”، و”أبواب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر”، و”تجارب في القراءة”.