كانت الحلقة الماضية استعراضاً لجملة من المواقف التي يمر بها الحاج، ولها آثار على النفس، وفي هذه الحلقة نستكمل ما بقي منها:
الموقف السادس:
في الحج، لا تكاد تخطئ عين الحاج مريضاً، أو محتاجاً، أو معاقاً، أو مفترشاً الأرض إلى آخر تلك الصور المتكررة، والتي تبعث في نفسه شعوراً بأمور، ينبغي أن تظهر آثارها على سلوكه، ومن ذلك:
أن يشكر الله تعالى بلسانه وجوارحه، على أن عافاه مما ابتلى به هؤلاء الناس.
قد تبصر عيناك ـ في عرصات المشاعر المقدسة ـ مريضاً، فليكن ذلك دافعاً على اللهج بحمد الله على نعمة الصحة.
وقد تقع عينك على محتاج! فاحمد الله أن أغناك من فضله فلم تحتج،وتمد يدك إلى مخلوق.
وإن التفت فرأيت معاقاً، فاحمد الله على إطلاق جوارحك.
وإن رمقت بمقلتك أعمى فاحمد الله على نعمة البصر، وهكذا في أنواع من النعم تراها اجتمعت فيك، وفقدها ـ أو فقد بعضها ـ غيرك.
ومن الآثار: أن يتذكر المسلم برؤيته لهذه المناظر تفاوت الناس يوم القيامة!
فهاهم في الدنيا منهم الصحيح القوي،ومنهم المريض الضعيف،ومنهم من هو بين ذلك،وهم يوم القيامة سيتفاوتون على قدر أعمالهم،فمنهم منه في أعلى الدرجات،ومنهم منه في أدناها.
وثمة أثر سلوكي آخر يدفعك إليه نظرك إلى هذه المناظر، ألا وهو:
البذلُ والإنفاقُ، وسخاوةُ النفس لهؤلاء المحتاجين وأمثالهم، فتعطف على الفقراء، وتحسن إلى المساكين، وتبذل للمنقطعين.
ومن الحجاج من يبلغ مرتبة أعلى في الإنفاق، فيبذل ماله حتى على إخوانه الأغنياء الذين يستطيعون الحج بأنفسهم؛رغبة في الثواب والأجر، ومن أشهر من عرف عنه ذلك:
الإمام عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان إذا أراد الحج من بلده (مروْ) جمع أصحابه وقال:من يريد منكم الحج؟ فيأخذ نفقاتهم، فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما، ثم جمعهم عليه،ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم، فرد إلى كل واحد منهم نفقته(1). فرحمه الله رحمة واسعة.
وذُكِر أن الحسن بن عيسى الماسرجسي ـ وهو أحد المحدثين الثقات ـ أنفق في حجته التي مات فيها: (300000) ثلاثمائة ألف درهم(2).
ومن العجيب أن هذا المحدث كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وطلب العلم حتى صار له فيه شأن، ولقد عُدّت المحابر في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة، وسبحان الله ما أعظمه من دين!!من أخذ به عزّ ومن أعرض عنه ذلّ!!
فأين التجار المسلمون الذين ولدوا وعاشوا بين المسلمين؟! نعم في الناس بقية ـ ولله الحمد ـ لكن من المؤكد أن حاجة الحجيج إلى أنواع من البذل والإحسان، دون أعداد التجار الذين يعرفون.
ولهذا يقال لإخواننا الذين وسّع الله عليهم: لا ينبغي أن يكون التنافس مقتصرا على أمر الدنيا، فما أحسن أن تجمعوا مع أمر الدنيا أمر الآخرة!
وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك في كتابه، حيث قدم التزود بالتقوى على تجارة الدنيا فقال: “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ” (البقرة: من الآيتين197، 198).
الموقف السابع:
يلمس المتتبع لحجة النبي صلى الله عليه وسلم مخالفته للمشركين في شعائرهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ومن هذه الشعائر التي خالف النبي صلى الله عليه وسلم فيها أهل الجاهلية:
أ/ مخالفته لهم في التلبية كما سبق أن أشرت إليه.
ب/ مخالفته لهم في الاعتمار في أشهر الحج، في الوقت الذي كان أهل الجاهلية يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
ج/ كانت قريش لا تقف بعرفة كما يقف سائر الناس،بحجة أنهم أهل الحرم!! فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فوقف بعرفة حتى غربت الشمس ثم دفع، كما في الصحيحين من حديث عائشة، وجبير بن مطعم رضي الله عنهما.
د/ كان أهل الجاهلية يتأخرون في الدفع من مزدلفة حتى تشرق الشمس ويقولون أشرق ثبير(3) كيما نغير، وثبير جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة(4).
والمعنى: لتطلع عليك الشمس يا جبل حتى ننفر، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يفيض من مزدلفة قبل شروق الشمس.
هـ/ ومما يلحق بهذا الموضوع أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد فراغه من حجه ـ نزل في خيف بني كنانة، وهو موطن تعاقدت فيه قريش وتعاهدت على مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وفرضوا عليهم حصارا اقتصاديا، بل وفرضوا عليهم حصارا اجتماعيا تمثل في امتناعهم من تزويج كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر منة الله تعالى عليه بظهور التوحيد وأهله، وانقماع الشرك وأهله، فقال ـ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى: ” نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر، وذلك أن قريشا وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بذلك المحصّب”.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا على هذا الحديث: “وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، فيظهر شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروه، فيه شعائر الكفر”(5).
والآثار السلوكية التي نستفيدها من هذه المخالفات الصريحة من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإشراك كثيرة من أهمها:
1 ـ حرص الإسلام على تميز أتباعه في كل شيء في عباداتهم وأعيادهم ولباسهم وكلامهم، وغير ذلك، وخاصة في باب العبادات،بل إنه سد كل باب يفضي إلى التشبه بهم وحرم على المسلمين ذلك، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” من تشبه بقوم فهو منهم”. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: إسناده جيد.
2 ـ تأكيد الأمر العظيم، والأصل الأصيل، الذي هو أحد الأصول التي قام عليها هذا الدين، ألا وهو البراءة من المشركين في شعائرهم وأعيادهم وأخلاقهم ولباسهم وغير ذلك مما تميزوا به، وهذه البراءة تقتضي بغضهم وعداوتهم، وبغض ما هم عليه من كفر وشرك والحذر من التشبه بهم في أي شيء من خصائصهم، وليس هذا أمرا غريبا بل هو ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي أعلنه صراحة في وجوه الكفار، كما قال الله عز وجل: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ” (الممتحنة: من الآية4) فهو يعلن عليه الصلاة والسلام أن العداوة والبغضاء لا أمد لها سوى الإيمان بالله وحده عز وجل وأن يكونوا حنفاء لله غير مشركين به، وقد سار على هذه الطريق ابنه الخليل الثاني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فبعث أبا بكر رضي الله عنه عام تسعة من الهجرة ليعلن البراءة من المشركين، وألا يحج بعد هذا العام مشرك ـ كما في الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومع وضوح مكانة هذا الأصل، وكونه من المسلمات في الشرع، حتى قال عنه بعض أهل العلم: “ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده”(6).
أقول: مع وضوح مكانته من الدين إلا أننا وللأسف لازال بعض المسلمين أو ممن ينتسب إلى الإسلام من يخرق هذا الأصل العظيم: فمنم من يهون من شأن عداوة الكفار عموما أو من عداوة اليهود والنصارى على وجه الخصوص، حتى ظن بعضهم أنه يمكن أن نتقارب مع أهل الكتب السماوية المنسوخة بدين الإسلام، أو أنه يمكن أن نلتقي تحت مظلة الإنسانية.ومنهم من يظن أن المخرج لهذا التخلف الذي تعيشه أمة الإسلام هو السير في ركاب الغرب والشرق وأخذ جميع ما عندهم،من غير تمييز بين النافع والضار.
ومن مظاهر خرق هذا الأصل ما يراه كل مسلم من التشبه بالكفار في لباسهم أو سلوكهم،ومن أوضح الصور ما نراه من القصات الغريبة،ولبس القبعات،والتي زاد سعارها مع هذا البث الفضائي المحموم، إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على وجوب تكثيف الحديث عن هذا الأصل العظيم، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح الحديث عن المسلمات من الواجبات والله المستعان.
3 ـ وفي قصة النزول بالمحصب، فوائد وعبر ومنها: أن العبد ينبغي له أن يتذكر دائما منة الله عليه بالهداية والتوفيق، وأن يسعى لإظهار الدين وخاصة في الأماكن التي كانت مجمعا للشر، أو كان الشخص نفسه ممن عاش فيها مدة من الزمن أيام غفلته،وكل هذا مع مراعاة تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
الموقف الثامن:
النحر في دين الله له شأن عظيم، قرنه الله عز وجل في كتابه بالصلاة، كما في قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام:162) على أحد القولين في الآية وفي قوله تعالى: “فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ” (الكوثر:2)، وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله من ذبح لغير الله”.
وللنحر في الحج منزلة عظيمة، فالمسلم ينحر ذبيحته تقربا إلى الله عز وجل إما هديا، أو جبرانا لما وقع في نسكه من الخلل أو يذبح تطوعا، وأهل الأمصار يشاركون الحجاج في عبادة النحر بذبح الأضاحي إحياء لسنة خليل الرحمن:إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلي بذلك البلاء العظيم الذي لا يصبر عليه كل أحد، أمر بذبح ابنه، ومتى؟! عند كبر في السن، ويأس من الولد، وبعدما صار الولد قطعة من القلب!
أَمَا ـ والله ـ إنه لو وكّل غيره بذبح ابنه لما كان الأمر هيناً، فكيف به وهو يؤمر أن يباشر الذبح بنفسه؟!
ويبلغ التسليم منه المبلغ العظيم حينما عرض على ابنه إسماعيل أن يشاركه في الابتلاء، فقال له: “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر” فلما حصل التسليم منهما لم يكن للذبح وإراقة الدم حاجة؛ لأن إبراهيم نجح في هذا الابتلاء ليعطي كل حنيف مسلمٍ درسا عظيما في صدق الامتثال، وسرعة المبادرة وإن كان ذلك بخلاف ما تهواه النفس.
إذا تبين هذا، فإن لهذه العبادة آثار عظيمة يجدر ألا تغيب عن بال المسلم حين يباشرها أو ينظر إليها، ومن ذلك:
1 ـ أن يحمد الله عز وجل أن جعله لا يذبح إلا له، في الوقت الذي يرى فيه أو يعلم عن أناس ممن ينتسبون إلى المسلمين يذبحون وينذرون الدماء لطوائف من المخلوقين:إما أولياء ـ وقد لا يكونون كذلك أصلا ـ أو جن أو غيرهم المخلوقين الذين صرف العبادة لهم شرك أكبر مخرج من الملة.
2 ـ وقفة تأمل مع عدد الإبل التي ذبحها النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، وهي مئة ناقة!! ذبح منها ثلاثاً وستين بيده الشريفة، وأكمل الباقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ونحن نعلم أنه كان يكفيه لنسكه سبع بدنه أو شاة واحدة، فلماذا كل هذا؟
ما هو ـ والله ـ إلا التعظيم لشعائر الله، وما هو إلا الجود والسخاء الذي عرف به صلى الله عليه وسلم وما هو ـ والله ـ إلا الانشراح والراحة التي يجدها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في التقرب إلى الله بهذه العبادة العظيمة: عبادةِ النحر، ووالله ، لو كان يرضي ربه نحر نفسه لفعل،وهذا الشعور يجده الحجاج أيضا كلٌ بحسب ما يقوم بقلبه من اليقين، والتعظيم،والحب،وليس هذا فحسب:
فلو كان يرضي الله بذل نفوسهم | لدانوا به طوعا وللأمر سلموا |
كما بذلوا عند الجهاد نحورهم | لأعدائه حتى جرى منهم الدمُ |
ولكنهم دانوا بوضع رؤوسهم | وذلك ذل للعبيد وميسمُ(7) |
3 ـ أن في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عبرة في قوة الانقياد والتسليم لأمر الله تعالى، وهذا أمر ملاحظ في الحج أيضا، فترى مواقع المفتين تمتلئ بالسائلين عن دقيق الأمور وجليلها، وهم في نفس الوقت على أتم الاستعداد لفعل ما يُفْتون به ولو كلفهم ذلك بذل شيء من المال، بل لو كلفهم ذلك إعادة الحج مرة أخرى!
وهذا الشعور شعورٌ حسن، ولكن أين هؤلاء عن السؤال عن أمور دينهم قبل الحج وبعده؟
ثم أين استعدادهم لامتثال أوامر الله عز وجل ولو كانت تخالف أهواءهم؟
وأين أثر قصة إبراهيم في نفوسهم؟
سبحان الله! ما أعظم الفرق بين الصحابة وبين غيرهم! الصحابة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم،وإليكم مثالا واحدا يجلي هذا المعنى:
ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع رضي الله عنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقا ـ يعني فيه رفق بنا ـ قال رضي الله عنه: وطواعية الله ورسوله خير لنا(8).
الموقف التاسع:
في يوم عرفة مواقف عظيمة، لها أثرها على السلوك وتزكية النفس، ومن ذلك:
أ/ تذكر عظمة الله جل جلاله في اختلاف الألسنة والألوان والأحجام، فكم لغة يُتكَلَّم بها في هذا الموقف؟
وكم الدعوات التي ترتفع إلى السماء تسأل الله الرحمة والمغفرة؟.
وكم في القلوب من النوايا والرغبات؟.
فسبحان من لا تختلف عليه اللغات! ولا تشتبه عليه الأصوات!
وإذا كان هذا محل للتأمل فما الظن بلغات أهل الأرض كلهم؟
وما الظن بحاجات الخلق كلهم؟ أنسِهم وجنِهم؟ المكلف وغير المكلف؟!.
ب/موقف عرفة موقف عظيم، يجعل نفس المؤمن تتأرجح بين منزلتي الخوف والرجاء!
فالعبد يخاف حينما يتذكر ذنوبا بينه وبين ربه اقتحمها عن عمد وإصرار!
ويخاف المؤمن حينما يتذكر أن الله شديد العقاب،ويغار على حرماته أن تنتهك، ويخاف أن تزل قدمه بعد ثبوتها أن يختم له بخاتمة سيئة!
ويخاف المؤمن وهو يتذكر تلك الأحوال التي وقعت لجماعات من السلف الصالح الذين كانوا أئمة في العلم والعمل، وأنهم ـ مع صلاحهم وتقواهم ـ يخافون الرد وعدم القبول! ومن ذلك:
الموقف الذي وقع بين بكر بن عبدالله المزني، وعبدالله بن الشخير ـ وهما من سادات التابعين ـ حيث وقفا بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر:ما أشرفه من موقف وأرجاه لولا أني فيهم!
قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها(9).
ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واخجلتاه منك وإن عفوت.
ومراده ـ رحمه الله ـ أني على خجل وحياء منك بسبب ذنوبي وإن عفوت عنها، وهذا ـ والله ـ مقام من الخوف رفيع(10).
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا على هذا الموقف: ” ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها،وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها، ويؤيد الخوف بعد التوبة، أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم فيقولون: اشفع لنا، فيقول:ذنبي…إلى أن قال:فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبا حقيقة،وثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا،وهم بعد على خوف منها…إلخ كلامه النفيس”(11).
ووقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس،فنادى:الأمان..الأمان قد دنا الانصراف،فليت شعري ما فعلت بحاجة المسكين!!
الأمان الأمان وزري ثقيل | وذنوبي إذا عددن تطول |
أوبقتني أوثقتني ذنوبي | فتُرى إلى الخلاص سبيل؟(12) |
وكما أن العبد يخاف في ذلك الموقف، فهو أيضا يرجو ربه حينما يتذكر سعة رحمة الله عز وجل وعظيم مغفرته، نعم يرجو ربه الذي قال في كتابه: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (الزمر:53)، والذي قال أيضاً: “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ” (الأعراف: من الآية156) نعم.. يرجو رحمة أرحم الراحمين حينما يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة،وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟”
فأي فخر وأي شرف لك ـ يا عبدالله ـ أعظم من أن يباهي بك رب العالمين؟!
وبمن يباهي بك؟! يباهي بك ملائكته الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون!
فيا من يحب أن يباهي به ربه ملائكته، اعمل على تحقيق هذه المباهاة بالتزام أمر ربك، وترك نواهيه!
ارحم نفسك وارحم عباد الله تنل رحمة ربك، فقد قال نبيك صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.
والعبد يرجو مغفرة الله ورضوانه وخاصة في مثل هذا المقام العظيم، حينما يتذكر بعض الأحوال التي وقعت للسلف الصالح رضي الله عنهم، ومن ذلك:
1 ـ أن ابن المبارك جاء إلى الإمام سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقال ابن المبارك :من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال سفيان: الذي يظن أنه لا يغفر لهم.
وإني لأدعو الله أسأل عفوه | وأعلم أن الله يعفو ويغفر |
لئن أعظم الناسُ الذنوب فإنها | وإن عظمت في رحمة الله تصغ |
2 ـ وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا (يساوي سدس درهم) أكان يردهم؟ قالوا: لا.قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق!!.
والمقصود أن يجمع العبد بين هاتين العبادتين:الخوف والرجاء وليغلب إحداهما على الأخرى حسب الشعور الذي ينتابه في تلك اللحظات المهيبة.
ج/ ومن المعاني العظيمة التي تتجلى في موقف عرفة: ذلك المشهد العظيم الذي يذكر بالموقف الأكبر يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيقفون خمسين ألف سنة، وهم في العرق على قدر أعمالهم ـ كما ثبت في الصحيح ـ!
نعم!! إنه موقف مؤثر والله،ويزداد تأثيره في النفس حينما يرى الإنسان انصراف الناس من الموقف عرفة،ويتذكر بذلك انصراف الناس من الموقف الأكبر: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير!
ويتذكر ذلك ـ أيضاً ـ حينما ينصرف الناس من حجهم إلى بلدانهم:
أناسٌ مقبولون قد غفرت ذنوبهم، وآخرون يعودون إلى أوطانهم وليس لهم من حجهم إلا التعب والنصب ـ نسأل الله العافية والسلامة ـ!! فيالها من حسرة عظيمة إن لم يقبل من العبد عملُه.
وفي “السير” للذهبي: أن عمر بن ذر خرج إلى مكة، فكان إذا لبى لم يلب أحد أحسن من صوته، فلما أتى الحرم قال ـ مناجيا ربه ـ: ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة، ونعلو شرفا، ويبدو لنا عَلَمٌ (جبل)، حتى أتيناك بها، فليس أعظم المؤنة علينا تعب أبداننا،ولا لإنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران!! يا خير من نزل النازلون بفنائه!.
وفي الختام أعترف بأن الموضوع يستحق أكثر مما ذكر، وهناك جوانب تستحق الوقوف معها، لكن هذا ما تيسر عرضه في هذه الورقة.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وسمعنا، وأن يتقبل من الجميع صالح أعمالهم، وأن ييسر للحجاج حجهم، وأن يتمم سعينا وسعيهم بالغفران والقبول، وأن يجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________
(1) تهذيب الكمال 16/21.
(2) السير 12/29.
(3) هذا اللفظ في البخاري مع الفتح (3/621) ح(1684)، والزيادة (كيما نغير) عند ابن ماجه وغيره.
(4) فتح الباري 3/621.
(5) زاد المعاد 2/294.
(6) سبيل النجاة والفكاك للشيخ حمد بن عتيق /31.
(7) ميمية ابن القيم المطبوعة مع النونية /254.
(8) وهذا بناء على فهم الصحابي أنه ج نهى عن تلك الصورة، وإلا فالحقيقة أن النبي ج إنما نهى عن صورة فيها غرر ـ كما يتبين من مراجعة بقية روايات هذا الحديث ـ.
والشاهد من هذا: أن هذا الصحابي عزم على ترك ما فهمه، مع اعتقاده أن تلك الصورة من المزارعة فيها نفع لهم، كل ذلك من تمام التسليم والانقياد.
(9) السير 4/534، اللطائف (496).
(10) اللطائف (496 ).
(11) صيد الخاطر (502).
(12) اللطائف (496).