الحقيقة غير المريحة: مقتطفات من كتاب “خراب: كتاب عن الأمل”

كيف يمكن أن تقول لأحدهم بصدق: "فليكن يومك جميلاً"، وأنت تعرف أنَّ جميع أفكاره ودوافعه تنبع من حاجة لا تنتهي إلى تجنُّب انعدام المعنى المتأصِّل في الوجود البشري؟ هذا المقال مأخوذ عن الكاتب "مارك مانسون" (Mark Manson)، والذي يُحدِّثنا فيه عن فصله الأول من كتاب "خراب: كتاب عن الأمل"، والذي يُدعى "الحقيقة غير المُريحة".

Share your love

ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب “مارك مانسون” (Mark Manson)، والذي يُحدِّثنا فيه عن فصله الأول من كتاب “خراب: كتاب عن الأمل”، والذي يُدعى “الحقيقة غير المُريحة”.

لو كنت أعمل في ستاربكس، لما كتبت أسماء الأشخاص على أكواب القهوة؛ بل كنت سأكتب ما يلي:

“في يومٍ من الأيام، ستموت أنت وكل من تحب؛ وبالتالي لن يكون هناك أيَّة أهمية لأي شيء قد قلته أو فعلته في حياتك إلَّا لفترة وجيزة، وضمن مجموعة صغيرة من الأشخاص. هذه هي الحقيقة غير المريحة، وكل ما تفكِّر فيه أو تفعله ما هو إلَّا محاولة مُتقنة لتجنُّب هذه الحقيقة؛ فنحن لسنا أكثر من غبار كوني لا أهمية له، يتحرَّك ويدور على بقعة زرقاء ضئيلة تسبح في الكون الرحيب، لكنَّنا نتخيَّل أنَّ لنا أهمية، ونخترع لأنفسنا هدفاً، ولكنَّنا في الواقع لا شيء”.

استمتع بقهوتك.

سأضطر إلى كتابة هذه الملحوظة بأحرف صغيرة جداً بالتأكيد، وستستغرق كتابتها -مع قراءتها- بعض الوقت، ممَّا يعني أنَّ صف الزبائن المنتظرين في ساعة الازدحام الصباحية سيتجاوز باب المقهى؛ وبالتالي لن تكون خدمة عملاء جيدة؛ ولعلَّ هذا أحد الأسباب التي تجعلني لا أصلحُ لهذه الوظيفة.

لكن بجدية، كيف يمكن أن تقول لأحدهم بصدق: “فليكن يومك جميلاً”، وأنت تعرف أنَّ جميع أفكاره ودوافعه تنبع من حاجة لا تنتهي إلى تجنُّب انعدام المعنى المتأصِّل في الوجود البشري؟

أقول هذا لأنَّ الكون في امتداده المكاني-الزماني اللامتناهي لا يهتم أبداً فيما إذا سارت عملية والدتك الجراحية ما يرام، ولا بذهاب أولادك إلى الجامعة، ولا بتقييم مديرك لعملك، ولا إذا فاز الديمقراطيون أو الجمهوريون في الانتخابات الرئاسية؛ ولا يبالي الكون إذا احترقت الغابات أو ذاب الجليد وارتفع منسوب المياه نتيجة لذلك، ولن يبالي إذا ما تلوَّث الهواء أو غزتِ الأرض مخلوقات فضائيَّة أبادتنا عن بكرة أبينا.

أنت من يهتم بكلِّ هذا؛ ولأنَّك تهتم، تحاول إقناع نفسك بشدة بأنَّ هناك معنى كونياً وراء كل هذا. أنت تهتم بكل ذلك لأنَّك تحتاج إلى الشعور بأهميتك من أجل تفادي تلك الحقيقة غير المريحة لصعوبة فهم المغزى من وجودك، وتجنُّب معرفة أن لا أهمية مادية لك على الإطلاق؛ ولكنَّك تتخيَّل هذا الشعور بالأهمية –مثلي ومثل الجميع– لأنَّه يمنحك الأمل.

قد تفكِّر قائلاً: “ولكنَّني أعتقد أنَّ هناك سبباً لوجودنا، وأنَّ لا شيء يحدث من قبيل المصادفة، وأنَّ هناك أهمية لكلِّ شخص منَّا؛ ذلك لأنَّ أفعالنا تؤثر على الأقل في شخصٍ ما؛ فحتى ولو تمكَّنا من مساعدة شخص واحد فحسب، سيبقى هذا أمراً هاماً ويستحق الذكر”.

أرأيت؟ هذا ما تأمله؛ إنَّها قصة يخلقها عقلك لتشعر بأنَّ هناك ما يستحق الاستيقاظ كل صباح، إذ يجب أن تكون هناك أهمية لوجودنا؛ فبدون هذه الأهمية، لن يكون هناك سبب لمواصلة الحياة، وعادةً ما تكمُن هذه الأهمية في الإيثار والحدِّ من معاناة الآخرين؛ فهذا ما يسمح لعقلنا بالاقتناع بأهميتنا.

في الواقع، تحتاج حالتنا النفسية إلى الأمل لمواصلة الحياة، كما تحتاج السمكة إلى الماء؛ فالأمل وقود عقولنا، وبدون أمل، سيتوقف عقلك كله أو يموت جوعاً؛ فإذا لم نمتلك الأمل في أنَّ المستقبل سيكون أفضل من الحاضر، وأنَّ حياتنا سوف تتحسن على نحوٍ ما، سوف نموت من الناحية الروحية، ففي نهاية المطاف، لماذا سنعيش أو نفعل أي شيء إن لم نؤمن بأنَّ الأمور سوف تتحسَّن؟

إليك الأمر الذي لا يدركه كثير من الناس؛ ليس الغضب أو الحزن نقيضين للسعادة؛ فإذا كنت غاضباً أو حزيناً، يعني هذا أنَّك لا تزال تبالي بشيءٍ ما؛ ممَّا يعني أنَّ شيئاً ما لا يزال يمتلك أهمية بالنسبة لك؛ وبالتالي، أنت لا تزال تملك بعض الأمل.

إنَّ نقيض السعادة هو فقدان الأمل، والاستسلام واللامبالاة؛ إنَّه الاعتقاد بأنَّ كل شيء سيء، فلماذا يفعل المرء أي شيء على الإطلاق؟

إنَّ فقدان الأمل حالة من العدمية الباردة الموحشة، وشعور بأنَّه لا جدوى من أي شيء؛ إنَّه الحقيقة غير المريحة، والإدراك الصامت بأنَّنا لا نقوى على فعل أي شيء لمواجهة اللانهاية.

إنَّ فقدان الأمل مصدر القلق والاكتئاب والأمراض النفسية، ومصدر البؤس وسبب حالات الإدمان، وهذه ليست مبالغة؛ فالقلق المُزمِن هو أزمة أمل، وخوف من مستقبل فاشل، كما أنَّ الاكتئاب أزمة أمل أيضاً، وإيمان بأنَّ المستقبل لا معنى له؛ والأوهام والإدمان والوسواس ما هي إلَّا محاولات اضطرارية وخدع عصبية يائسة يقوم بها العقل لخلق أملٍ ما.

ومن هنا يصبح تجنُّب فقدان الأمل -أي السعي إلى بناء الأمل- المشروع الرئيس الذي يقوم به عقلنا؛ فنحن نخلق المغزى، ونسعى لفهم أنفسنا والعالم بغية الحفاظ على هذا الأمل؛ لذا يعد الأمل الشيء الوحيد الذي قد يستعد أيٌّ منَّا لأن يموت من أجله؛ لأنَّنا نؤمن بأنَّه أكبر من أنفسنا، وبدونه نقتنع بأنَّنا لا شيء.

لقد توفيَ جدي عندما كنت في الجامعة، فتملَّكني شعور لعدَّة سنوات بأنَّ عليَّ أن أعيش بطريقة تجعله فخوراً بي، وكنت أشعر أنَّ هذا أمرٌ منطقيٌّ واضحٌ على مستوى عميق؛ لكنَّه لم يكُن كذلك، ولم يكُن له أي معنى منطقي على الإطلاق؛ فلم تربطني بجدِّي علاقة وثيقة، ولم نتحدَّث أبداً عبر الهاتف، ولم نتبادل الرسائل، حتى أنَّني لم أرَه خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته.

وبغضِّ النظر عن كل هذا، لقد كان جدي ميتاً، فكيف ستؤثر فيه الطريقة التي أعيش بها؟

لقد تسبَّب موته في مواجهتي تلكَ الحقيقة غير المريحة، وهذا ما جعل عقلي يسعى إلى بناء الأمل بغية إبعاد أي شعور عدمي عني، ولأنَّ جدِّي قد حُرِم الآن الأمل والطموح، فأصبح من الهام بالنسبةِ لي أن أواصل بناء الأمل تكريماً له، لقد كان هذا بمثابة اعتقاد شخصي بسيط يمنحني غاية في الحياة.

ولقد نجح الأمر؛ فخلال فترة وجيزة، أضفى موته على حياتي تجارب لها أهمية ومعنى، وبدون ذلك، لكانت أصبحت تجارب فارغة بلا أهمية. لقد منحني الأمل هذا المعنى، وربما أحسستَ بشيء مماثل عندما توفي شخص قريب منك؛ فهذا شعور شائع أن تُخبر نفسك أنَّك ستعيش بطريقة تجعل من يحبك فخوراً بك، وأنَّك سترسِّخ حياتك للاحتفاء بحياته هو، وأنَّ هذا أمر هام وجيد.

وهذا “الأمر الجيد” هو ما يدعمنا في لحظات الذعر الوجودي تلك، لقد كنت أتجول متخيِّلاً أنَّ جدي كان يتبعني كأنَّه شبح فضولي، وأنَّه يراقبني على الدوام، هذا الرجل الذي بالكاد كنت أعرفه عندما كان على قيد الحياة، أصبح الآن مهتماً للغاية بأدائي في امتحان الرياضيات، إنَّه أمر غير منطقي على الإطلاق.

تؤلف عقولنا قصصاً صغيرة كهذه عندما نواجه الشدائد، قصص أمل نخترعها لأنفسنا، ونريد الحفاظ عليها طوال الوقت، حتى لو أصبحت غير منطقية أو مؤذية لنا؛ ذلك لأنَّها القوة الوحيدة التي تحمي عقولنا من الحقيقة غير المريحة.

تمنحنا قصص الأمل هذه شعوراً بالهدف؛ فهي لا توحي لنا بأنَّ المستقبل سيكون أفضل فحسب؛ بل توحي بأنَّ تحقيق الأفضل أمر ممكن أيضاً، في الواقع عندما يتحدَّث الناس حول الحاجة إلى العثور على “هدف في حياتهم”، فإنَّ ما يقصدونه في واقع الأمر أنَّهم فقدوا إحساسهم بما هو هام بالنسبةِ لهم، وما يستحق وقتهم المحدود هنا على الأرض؛ باختصار لم يُعد هناك شيء واضح يعلِّقوا عليه آمالهم؛ فيبذلون الكثير من الجهد للتوصل إلى ذلك.

هل أعرف أنَّ ذلك سيحدُث بالتأكيد؟ بالتأكيد لا، ولكنَّها قصتي الصغيرة التي أتمسَّك بها؛ إذ تجعلني أستيقظ في الصباح وأنا متحمس لحياتي، وليست المسألة في أنَّ هذا شيء سيء أو ضار؛ بل في أنَّه الشيء الوحيد الذي نملكه.

قد تتمحور القصة التي تدور حول الأمل بالنسبةِ لبعض الأشخاص حول تربية أطفالهم تربية جيدة، وبالنسبة للآخرين قد تكون في المحافظة على البيئة وحمايتها، وقد تكون حيازة الكثير من المال وشراء يختٍ فاره بالنسبة لغيرهم، أو مجرد محاولة تحسين قدرتهم على قذف كرة الجولف.

سواء أدركنا ذلك أم لا، نحن نمتلك جميعاً هذه القصص التي اخترنا أن نؤمن بها لأي سببٍ كان، ولا يهم إذا كنت تصل إلى الأمل من خلال الإيمان الديني أو من خلال نظرية قائمة على الأدلة أو على الحدس أو الحجج المنطقية؛ إذ تؤدي كل هذه الطرائق إلى النتيجة نفسها، وهي الاعتقاد بأنَّ هناك إمكانية للنمو أو التحسُّن أو الخلاص في المستقبل، وأنَّ ثمَّة سُبُل يمكننا اتباعها للوصول إلى ذلك المكان، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، تتكوَّن حياتنا من طبقات لا نهاية لها من قصص الأمل هذه.

إذا بدا لك هذا طرحاً عدمياً، فأرجو ألَّا تُسيء فهم فكرتي؛ فهذا المقال ليس دفاعاً عن العدمية، بل على العكس تماماً، إنَّه ضد العدمية، سواء كانت تلك الموجودة بداخلنا، أم ذلك الإحساس العام المتنامي بالعدمية الذي يبدو أنَّه يتطور مع تطور العالم الحديث، ولكن كي تنجح في إقامة حجة ضد العدمية، فعليك أن تبدأ بها نفسها، أي يجب أن تبدأ من الحقيقة غير المريحة.

وانطلاقاً من هذه النقطة، يجب أن تُنشئ قصة مقنعة للأمل، ولكي تكون هذه القصة مُقنعة، يجب أن يكون أملاً مستداماً وفيه خير للآخرين، أملاً قادراً على جمعنا لا تفريقنا، أملاً قوياً مرتكزاً على المنطق والواقع، أملاً قادراً على منحنا شعوراً بالامتنان والرضا حتى آخر أيامنا.

من الواضح أنَّ هذا ليس بالأمر السهل، وقد يكون هذا أصعب من أي وقتٍ مضى في القرن الواحد والعشرين؛ فالعدمية والانغماس الخالص في الرغبة التي ترافقها أمران يجتاحان العالم الحديث؛ حيث يسعى الجميع إلى السُّلطة من أجل السُّلطة، والنجاح من أجل النجاح، والمتعة من أجل المتعة؛ كما لا تعترف العدمية بأي سبب أو تلتزم بأي حقيقة أو قضية كُبرى؛ بل هي مجرَّد التفكير في عبارة “أفعل ذلك لأنَّني أحب أن أفعله”، وهذا ما يجعل كل شيء في غاية السوء.

 

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!