العرب عموماً مفتونون بالرمزية، بالصور المطبوعة على “البوسترات”، بفكرة لف القتيل بالعلم الوطني، بكتابة الشعر الساذج في امتداح رئيس البلدية و… وضع الوطن كبند أول ورئيس دائماً في كل خيمة عرس أو عزاء!
لكن العرب، أيضاً، ميّالون للنسيان، يغادرون أحزانهم بسرعة.. ويواصلون السير في حقل الألغام المسمّى وطناً!
يدفنون ميّتهم، ويلقون قصيدة سريعة على المقبرة، ويعودون وهم يتندّرون على الميت في الطريق.
وبعض أحزاننا صار سريالياً، وعصيّاً على التصديق. خذ مثلاً موضوع القدس، فبعد أن كنا نحلم بتحرير فلسطين من البحر الى النهر، صار كل همّنا أن نقنع إسرائيل بأن تظلّ هناك، وأن عاصمتها “تل أبيب” وليست القدس!
ثم لاحقاً صرنا نبذل كل جهدنا لنقنع إسرائيل أن ترضى بالقدس الغربية وتترك لنا الشرقية!
هكذا في كل تاريخ العرب، تتقزم مطالبنا، وتتضاءل أحلامنا، حتى نَقنع آخر الأمر بأن نجاتنا الشخصية من الموت كانت فوزاً عظيماً!
لم يعد لدى الجيل الجديد ذلك الترف الذي كان لنا ولآبائنا المسمّى “حلماً قومياً”، تلك المتعة في أن تحلم على الأقلّ .. بوطن عربي واحد.
الآن صار الحلم وغاية المطلب، هو الحفاظ على الدولة القُطرية متماسكة القوام.
من يعرف الآن من هو رئيس ليبيا؟ ما عاصمتها؟ ما شكل علمها الجديد؟
لم يعد هناك حدث ساخن اسمه: احتلال العراق.
صار الأمر أمراً واقعاً؛ مثل قصة فلسطين، خبر عادي يمرّ والعائلة تتناول عشاءها، فلا تَعلَق اللقمة في حَلق أحد!
قليل من الشهداء، شعر مقاومة، جنود بذيئون يُمثلون احتلالاً بذيئاً..
لم يعد أحد يسهر ليتابع ما يحدث؛ ما يحدث صار عادياً، بلد محتل ينضافُ الى قائمة الأوطان السليبة!
فقد الأمر دهشته، حتى دهشته السوداء!
واستطاع العالم الحر أخذ توقيعنا على اتفاق ضمني: لنا كامل الحرية أن ننكّل بالبلد، ولكم كامل الحرية في رثائه!
وبالنسبة لنا البلاد عموما تصير أجمل بعد اغتصابها.
هذا يُسجَّل لقوات الاحتلال، جعلتنا نرى السماء أكثر زرقة، الشوارع أكثر فتنة، حتى السهوب الصفراء التي كنا نتوقف في السفر الطويل لنبول عليها، صار مجرد رؤيتها على التلفزيون يدفعنا للنشيج!
الأوطان مثل النساء، نشتهيها أكثر إن فقدناها، ونشتمها ما دامت مقيمة بيننا!
لم يعد الفقدان طازجا، أو أن الجرح أصيب بالتعود، وخلعنا ملابس الحداد، كأنما لا رادّ لقضاء أميركا !
هكذا، ببساطة، ببساطة شديدة، تتناقص الأوطان، وتتكاثر على الجدران صور الآباء الراحلين، ويصبح البلد شأناً عاطفياً محضاً، أو اقتراحاً للتلاميذ: من يكتب أحسن موضوع لدرس الإنشاء؟
والتلاميذ عادة صغار؛ يعتقدون أن أميركا طبيعة الأشياء، وأن البحر مصنوع من أجل البوارج!
تدريجيا، يصير الاحتلال أمرا بديهيا، ويعبأ الذهن بفكرة أن التحرير هو وظيفة تنتظر كل جيل عربي يولد!
في العالم العربي يعيش الناس أعمارهم يحلمون بالاستقلال.. كأنما النساء مُسَخّرات لإنجاب المحاربين لا الأطفال!
هكذا.. هكذا بالضبط أصيبت الأوطان بالرمزية، وأصيب الناس بتسمم في الدم اسمه: أميركا!