في خضم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها مختلف دول العالم، والتأثيرات العميقة التي تركتها جائحة كورونا على الاقتصادات العالمية، وعقمت فيها الأزمة المركبة التي كان يعانيها الاقتصاد العالمي قبل نشوء الجائحة، بدأت العديد من المراكز الفكرية العالمية بالتفكير خارج نطاق مدارس الاقتصاد الرأسمالي، والتي أدت الى هيمنة سياسات اقتصاد السوق الحر، وأسهمت حتى قبل جائحة كورونا في تعميق التفاوت الاجتماعي، وسيطرة عدد محدود من الأشخاص على غالبية ثروة البشرية، وفاقمت بشكل كبير مديونية الدول الفقيرة والمتوسطة.
وأخذ يتجدد النقاش في الأوساط الاقتصادية العالمية في التحول باتجاه الخيارات الاقتصادية ذات الطابع الاجتماعي، والتي تركز على مفهوم الاقتصاد الذي يخدم المجتمع ويوفر حياة كريمة للبشر، بعيدا عن الاقتصاد الذي يركز على تراكم الثروات وزيادة أرباح الشركات ورجال الأعمال.
وفي هذا السياق، فإن الخيارات الاقتصادية الأكثر ملاءمة لأحوالنا في الأردن تتمثل في الارتكاز على تعزيز الحمايات الاجتماعية بمختلف مكوناتها، والذي سيؤدي بالضرورة الى تعزيز وتحفيز الاقتصاد الوطني، بعكس ما هو معمول به حاليا، حيث أثبت هذا النموذج فشله في تحقيق الأهداف المعلنة له.
مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، ازدادت صعوبة خلال العقود الماضية، حيث معدلات النمو الاقتصادي في تراجع حتى قبل الجائحة، والعجوزات في الموازنة العاملة للدولة تزداد عاما بعد آخر، ومديونية الدولة تتضاعف كل عدة أعوام، ومعدلات البطالة أصحبت مرتفعة جدا، الى جانب ارتفاع كبير في أعداد الفقراء، الى جانب تعمق التفاوت الاجتماعي واللامساواة الاقتصادية.
ومن دون الدخول في تعقيدات الظاهرة الاقتصادية التي لا يحتملها هذا المقال، يمكن القول إنه يجب زيادة الاستثمار في الحمايات الاجتماعية والمتمثلة في توفير شروط عمل لائقة، ودخل عادل وكاف للعاملين في القطاعين الخاص والعام، وتقليص أعداد العاملين الفقراء (الذين يحصلون على أجور لا تكفيهم لتغطية نفقات أسرهم الأساسية).
كذلك، هنالك أولوية قصوى لتوسيع نطاق المشمولين في الضمان الاجتماعي وعدم التسامح مع أشكال التهرب التأميني كافة، وتطوير أدوات حمائية كاملة للعاملين اليوميين والعاملين مع أنفسهم بحيث تكون معقولة التكلفة، وتوفير مساعدات للفئات الاجتماعية كافة غير القادرة على العمل، ما سيؤدي الى تقليص مساحة الفقر وزيادة الاستهلاك وتعزيز الطلب المحلي، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي ودفع عجلة الاقتصاد والخروج من حالة الانكماش الاقتصادي التي نعيشها.
يرافق تقديم الحوافز للقطاعات والأنشطة الاقتصادية كثيفة التشغيل وذات القيمة المضافة العالية، أن يؤدي الى توليد المزيد من فرص العمل، وهذا سيؤدي بالضرورة الى زيادة المشاركة الاقتصادية للرجال والنساء، وتراجع معدلات البطالة، وزيادة الطلب الاستهلاكي المحلي، وهكذا.
إضافة الى ذلك، من شأن تحريك عجلة الاقتصاد الى الأمام، والخروج من حالة الانكماش الاقتصادي أن يؤدي الى زيادة الإيرادات الضريبية للدولة، وبالتالي تمكينها من الإيفاء بالتزامها تجاه المجتمع، وتقديم خدمات تعليمية وصحية بجودة عالية، مع مرافقة ذلك بتعزيز ممارسات الحوكمة الإدارية لهذين القطاعين، الذي من شأنه أن يزيد من فعالية الإنفاق العام عليهما.
لا ندعي أن الموضوع يتم بهذه البساطة، فالظاهرة الاقتصادية أكثر تعقيدا من ذلك، ولكن الخيارات الاقتصادية قرار سياسي، وعلينا ألا نستهين باستمرار أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية على ما هي عليه، فمخاطر ذلك أكبر مما يتوقع صناع القرار، ومستقبل البلد واستقراره مرهونان بطبيعة الخيارات التي نتخذها.
وأخيرا، الاستثمار في الحمايات الاجتماعية، هو إحدى أهم أدوات تحفيز الاقتصاد والخروج من الأزمة الاقتصادية، وآن الأوان أن نعيد النظر في خياراتنا بعد ثلاثين عاما من الفشل الذي يتلوه الفشل في إدارة اقتصادنا ومجتمعنا.