غزة- في فناء منزلها الصغير الواقع في محافظة خانيونس جنوبي قطاع غزة، تجمع حولها عدداً من أحفادها وأبنائها، يراقبون عن كثب طريقة إشعالها النار في إناء صغير وضعت فيه قليلاً من زيت الزيتون، تحضيراً لصناعة “الكحل العربي”.

دندنت المسنة هادية قديح (63 عاماً) كلمات أغنيةٍ شعبية، بينما كانت تتابع قوة النار، منتظرةً انطفاءها، لتكون قادرة على تجميع “الكحل” الذي ترسب في سقفِ وعاءٍ حديدي، غطت به النار لتجميع الدخان المنبعث.

وتقول الخالة هادية “منذ كنت في سن الطفولة، حرصتُ كما باقي فتيات عائلتي، اللواتي كن يبدين اهتمامهن بصناعة الكحل وغيرها من مستحضرات التجميل، على تعلم طرق الصناعات التراثية من النساء الأكبر سناً”.

وتذكر هادية أنّ تعلمها لتلك الصناعات كان في سبعينيات القرن الماضي، حيث الحال أفضل، والعادات والتقاليد التي توارثها الناس عبر الزمن، تحظى بمكانةٍ وموضع احترام عند الجميع، أكثر من اليوم.

وفي السنوات الخالية، عملت جدّة هادية قديح وأمها في صناعة الكحل بشكلٍ كبير، وتتابع “الكحل المصنوع على الطريقة التقليدية، له لون خاص وبريق مختلف، فلا يمكن أن يتساوى أبداً مع الموجود حالياً في الأسواق، إذ أنّ الأخير سرعان ما يذوب في عيون الفتيات، لكنّ الأصليّ يبقى وقتاً طويلاً”.

وتروي أنّ الكحل لا يختص بالنساء فقط، بل إنّ الرجال العرب تكحلوا قديماً وتزينوا بهذا المسحوق، الذي يعطي دلالات على الفرح والبهجة، ويرمز للجودة والأصالة، وفق كلامها.

وتستخدم هادية في عملها، قطعاً قماشية تقتطعها من قماشةٍ كبيرة أهداها إياها زوجها قبل حوالي عشرين سنة، وكانت تنوى أن تخيّط بها ثوباً، لكنّها مع الوقت قررت أن تستعملها لصناعة الكحل.

وعن سبب ذلك، تقول إنّ القماش الموجود في الأسواق اليوم، لا يصلح لصناعة الكحل، حيث يحتاج لأقمشة صافية، خالية من النايلون والتركيبات الكيميائية.
وعن الطريقة التي تتم بها الصناعة، تسرد أّنّها تبدأ أولاً في جمع الحطب القوي، ثمّ تشعل فيه النار وتنتظر حتى يصير جمراً، وبعد ذلك تضع إناءً حديديا فضي اللون على النار، وتنتظر حتّى يسخن، ليكون جاهزاً لاستقبال قطعة قماشية مغمسة بزيت الزيتون.

وتقول “نضع فوق الإناء الذي يضم القطعة القماشية طبقاً معدنياً، لتجميع الدخان الأسود الذي ينبعث من الحرق حتّى نحافظ على دكانة اللون، وأنتظر حتّى تحترق القطعة بشكلٍ كامل وتتحول لرماد، وهكذا يصير الكحل جاهزاً”.

ولعل أبرز الأدوات اللافتة التي تستعملها هادية، تلك المكحلة النحاسية التي تحتفظ بداخلها بالكحل الخاص الذي تستخدمه لنفسها، ويزيد عمرها عن الـ 75 عاماً، حيث ورثتها عن جدتها ولا زالت تحفظها حتى اليوم.

بعد تلك المراحل، ترفع المسنة صوتها مناديةً أحد أحفادها الصغار، وتطلب منه جلب المكاحل النحاسية، لتبدأ بنقل الكحل الجاهز لداخلها، ويصير جاهزاً للاستعمال البشري، دون أن يسبب أي أضرار للبشرة والعيون، لخلوه بشكلٍ كامل من أيّ موادٍ كيماوية.

وتوضح أنّ تمسكها بهذا العمل هو تمسكٌ بالتراث الفلسطيني والعربي، لأنّ الكحل بشكلٍ خاص، يعتبر من رموز الهوية العربية المشهورة على مستوى العالم، منذ آلاف السنين.

وتضيف “أشاهد في الأفلام والمسلسلات التاريخية أنّ الكحل كان الوسيلة الوحيدة التي تلجأ لها النساء للتزين في الأفراح والمناسبات السعيدة، فالمرأة ممكن أن تستغني عن كلّ مستحضرات التجميل، إلّا الكحل”.

ولا تعتبر هادية تلك المهنة مربحة بالشكل الذي يوازي تعب ومجهود صناعتها، فهي تحتاج لأكثر من ساعة، حتّى تصنع كمية من الكحل تكفي لتعبئة مكحلة نحاسية واحدة.

وتزيد “ابني يروجها للنساء والصبايا في الحي المحيط بنا، بمبلغ لا يتجاوز الـ 6 دولارات للعلبة الواحدة، التي تكفي للاستخدام حوالي 100 مرّة، لكن الإقبال ضعيف”.

وتشير أنّها تدرك أنّ السعر الذي تبيع به يعتبر أعلى من الموجود في السوق، والذي يباع فيه الكحل المصنع بالطريقة الحديثة.

وتضيف “الفرق الأساسي في الجودة، ومن يستخدم الكحل الأصلي، الذي لا تجيد صناعته سوى بعض النساء كبيرات السن في قطاع غزة، يعلم جيداً أنّ الكحل العادي يختلف كلياً عنه في الخصائص والديمومة ودكانة اللون”.

وليس التزّين فقط، هو مجال استخدام الكحل بحسب كلام هادية، التي نبّهت أنّه يستعمل كعلاج لبعض الأمراض الجلدية التي تصيب أماكن تحت وفوق العين، من حساسية وغيرها.

وتردف “يساعد الكحل كذلك في إنبات الرموش، وتنشيط جفون العيون الهزيلة، ويعمل على شدها، بطريقة تزيد من جمالها، كما أنّه يحافظ على الرموش من التساقط الذي يمكن أن تسببه بعض الأمراض”.

وورد في تقريرٍ حول الكحل العربي أعدّته مجلة “الجميلة” أنّ ظهوره بدأ عند الأسلاف العرب، منذ زمن الفراعنة، واشتهر في معظم المناطق العربية.

وجاء كذلك أنّ الشعراء العرب، برعوا في التغزل بالعيون المكحلة وكتبوا فيها القصائد، واعتبروها مصدراً للإلهام، واسترسلوا في وصف الكحل وطريقة صنعه وأنواعه.

وتختم هادية بالتأكيد على تمسكها بتلك الصناعة التقليدية، ورغبتها في توريثها لبناتها وحفيداتها، لأنّ ذلك سيساهم في استمرار الحفاظ على التراث الفلسطيني والعربي، كما تبيّن.-(الأناضول)