ضيفنــا في سطــور:
· أبو عمر عبد الحي بن يوسف، من مواليد القاهرة عام 1384هـ الموافق 1964م.
· تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في كلية الشريعة عام 1406 ـ 1407هـ،.
· أتم الدراسات العليا في جامعة الخرطوم عام 1418هـ ـ 1998م.
· يعمل الآن رئيساً لقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم.
· كما إنه إمام وخطيب مسجد حي الدوحة بالخرطوم.
· اشتهر فضيلته بالجرأة والصدع بالحق، وله جهود مشكورة في الدعوة والتربية.
** كيف تقوِّمون واقع الدعوة الإسلامية في السودان؟***
– واقع الدعوة الإسلامية في بلادنا يبشر بخير كثير ـ إن شاء الله ـ إذا توافر شرط الإخلاص مع حسن التوجيه والتسديد؛ حيث إن الأبواب مشرعة أمام الدعاة ليباشروا مهمتهم في المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الحكوميـــة مدنية وعسكـــرية، وقد يعجب كثير مـــن الناس لو علموا أن الحديث في المساجد ـ عندنا ـ لا يحتاج إلى إذن ولا رخصة؛ بل كل ما هنالك أن يكسب الداعية ثقة أهل المسجد ليقول بعـــدها ما يشاء، كما أن خطــب الجمعـــة ليست مملاة ولا موجهة بل حرية المنبر مكفولة، ولذا قد تجد تبايناً في تناول الموضوع الواحد ما بين مسجد ومسجد، وقد ينتقد الإمام بعض الظواهر والممارسات دون أن يتعرض لمساءلة وهذه نعمة نحمد الله عليها، ونسأله أن يديمها علينا.. وأحسب أن هذه الحرية تحتم على الدعاة أن ينطلقوا في تبليغ دعوتهم بإقامة الندوات والمحاضرات وتنظيم الدروس العلمية المتخصصة وإقامة الدورات الشرعية للرجال والنساء. ومما يُحمد في هذه البلاد أن أنشطة الدعاة في المساجد لا رقابة عليها؛ فلك أن تقيم حِلَقاً لتحفيظ القرآن للناشئة يصحبها بعض المسابقات والبرامج الترفيهية، وكذلك في مواسم الخير ـ كرمضان ـ لك أن تعتكف وأن تدرّس، وقد سهل هذا الجو نوعاً من التواصل بين الدعاة نتج عنه بعض الفتاوى التي اجتمعت فيها كلمتهم واتحد رأيهم مثلما حصل في أحداث فلسطين وأفغانستان؛ حيث صدرت فتاوى جماعية عن علماء ودعاة السودان، ومثلما كان حين تطاول بعض الأدعياء على مقام الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فصدرت فتوى ألزم على أثرها بإعلان توبته. والحمد لله.
** إذن ما هي في نظركم أكبر معوقات الدعوة الإسلامية في السودان؟***
– المعوقات موجودة؛ لكن التغلب عليها ـ بعون الله ـ ممكن، ولعل من أهم المعوقات:
1 – النقص الحاد في الطاقات الدعوية المؤهلة بالعلم الصحيح والمنهج السليم.
2 – تراجع الجامعات الشرعية كجامعة أم درمان ـ التي أصابها ما أصاب أترابها كالأزهر ـ حيث ألحقت بها كليات العلوم التجريبية مما أثر على رسالتها وصرف الاهتمام عنها كواحدة من أهم روافد تأهيل الدعاة في البلاد، كما أن الكليات الشرعية لا يقبل فيها إلا من عجز عن اللحاق بركب الأطباء والمهندسين والصيادلة والقانونيين.
3 – ضعف خلاوي القرآن بحيث تعنى في الغالب بتحفيظ القرآن الكريم، ولكونها لا تتبع ذلك بدراسة العلوم الشرعية الضرورية، والمتخرج في تلك الخلاوي تقصر همته ـ غالباً ـ عن التدرج في تلقي العلوم النافعة والتزود منها.
4 – وجود صوارف تصد الناس عن الحق وتشغلهم ببنيات الطريق كالتشيع والتصوف الغالي والمدارس العقلانية التي تتدثر بالإسلام وهي له كارهة.
5 – من أعظم المعوقات عدم اعتماد المال اللازم لتحريك الدعاة، كما أن همة المحسنين متجهة ـ دائماً ـ لبناء المساجد، دون التفات لكفالة الدعاة الذين بدعوتهم وعلمهم تعمر تلك المساجد ويكثر روادها.
** النقص الحاد في الطاقات العلمية الذي أشرتم إليه ما السبيل لعلاجه؟***
– أتصور ـ والعلم عند الله ـ أن العلاج يكون في عدة محاور:
أولها: إعادة هيبة العلم الشرعي بترغيب الناس فيه وبيان فضله، وأن حملته هم ورثة النبيين ومصابيح الهدى، لا كما صورتهم القصص والروايات وأقاويل أهــل النفاق بأنهم أرغـــب الناس بطوناً وأكثرهــم كلاماً وأجبنهم عنـد اللقـاء.
ثانيها: إقامة كلية أو أكثر متخصصة في العلوم الشرعية يُقبل فيها من كان راغباً في هذا العلم الشريف ـ مهما كان تخصصه ـ ويُنتقى لها أفاضل الطلاب الذين يحملون هَمَّ الدعوة والبلاغ وفيهم أدب والتزام، وبذلك نتخطى عقبة سياسة التعليم التي تستوعب في الكليات الشرعية ـ غالباً ـ من لا هَمَّ إلا الشهادة والوظيفة.
ثالثها: تعاهد الدعاة بإمدادهم بالكتب وأمهات المراجع، وتزويدهم بالأشرطة النافعة والدوريات العلمية المحكمة، والتواصل معهم بالدورات الشرعية المتخصصة التي تجدد المعلومات وتقوي الطاقات.
رابعها: على الدولة أن تهيئ الأسباب المعنية لهؤلاء على التفرغ لما بذلوا أنفسهم إليه من عطاءٍ مجزٍ تحصل به كفايتهم ويتعففون به عن سؤال الناس، ولا يضطرون ـ معه ـ إلى التماس سبل العيش في مجالات أخرى.
خامسها: أرى لزاماً على أهل العلم المغتربين في السعودية والخليج أن يتقوا الله ويرجعوا إلى قومهم لعلهم يحذرون، خاصة أن كثيرين منهم لا ضرورة له في الاغتراب، وإني أقول لهم: سيسألكم ربكم عن أقوام ضلوا ـ بسبب الجهل ـ فماذا أنتم قائلون؟!
** ما تقويمكم لتجربة الحركات الإسلامية العاملة في السودان؟***
– لا شك أن لهذه الجماعات جهوداً مقدرة مشكورة في الدعوة إلى الإسلام بشموله، والتحذير من العقائد الشركية من البدع والخرافات، وتبصير الناس بدينهم، فجزى الله القائمين عليها خيراً، وأحسن إليهم كما أحسنوا إلى خلقه، وغفر لهم التقصير والزلل، لكنَّ ثمة أموراً تستدعي التنبيه والملاحظة:
أولها: أن كثيراً من هذه الجماعات طبعت المنتسبين إليها بتعصب أعمى للجماعة؛ بحيث لا يرون خيراً في سواها، ويكون تقويمهم للأشخاص والهيئات بحسب قربهم أو بعدهم من جماعتهم، ويتبع ذلك تشيع لآراء شيوخ الجماعة وقادتها؛ فالحق ما قالوا والصواب ما رأوا؛ وكأن الأحوال السياسية في أمة الإسلام قد ألقت بظلالها على الجماعات الدعوية والأحزاب الإسلامية، وهذا الذي قلته ينسحب على كثير من الجماعات العاملة في غير السودان.
ثانيها: لم تفلح هذه الجماعات في إقامة جسور حوار وتواصل فيما بينها؛ بحيث يتعاونون على البر والتقوى، ويوالي بعضهم بعضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المؤسف أنه قد يتعرض بعض الدعاة لمحن فلا يجدون من إخوانهم ـ في الجماعات الأخرى ـ نصرة ولا مؤازرة، بل ربما يجدون خذلاناً وتحريضاً.
ثالثها: بعض الجماعات تدّعي العصمة في الاجتهاد ـ وهذا غير مسلّم ـ ويتبع ذلك ـ بلسان الحال لا المقال ـ ادعاء عصمة الأشخاص، مع أنهم قد يشتدون في النكير على أتباع المذاهب أو الطرق الأخرى مثلاً فوقعوا فيما أنكروه على غيرهم.
رابعها: بناءً على ما سبق ونتيجة لتربية قاصرة، نبتت في بلادنا وفي غيرها نابتة ليس لها من مؤهلات سوى سلاطة اللسان مع الأحياء والأموات، والتشنيع على كل من أخطأ ـ في زعمهم ـ مع الادعاء بأن هذا هو المنهج الحق وهو مسلك العلماء الأولين ـ وحاشهم ـ وظهر بعض الغلاة ممن يكفرون الأمة عامتها وخاصتها.
خامسها: فقدت جماهير الشباب الثقة في كثير من تلك الجماعات نسبة للانقسامات التي وقعت؛ فقلما سلمت جماعة من أن تصبح شطرين وثلاثة، ولعل الحل يكمن في أن يتعاون الدعاة إلى الله على لَمِّ الشتات على ثوابت الإسلام، وجمع الكلمة الموحدة لصف المسلمين دون التزام بعنوان يقيد حركتهم ويمنع وحدتهم. ونسأل الله أن يصلح حال هذه الأمة.
** هل لفضيلتكم أن يحدثنا عن واقع الدعوة الإسلامية في جنوب السودان؟***
– حقيقة أنا ما زرت الجنوب إلا مرة ألقيت فيها بعض الدروس والمحاضرات، لكنني أقول: إن الدعوة في الجنوب كانت ممنوعة عمداً، وبسياسة اتبعها المستعمر الإنجليزي النصراني الماكر؛ حيث أقام في الجنوب ما عرف بالمناطق المقفولة التي يحظر على أهل الشمال دخولها، فعزل أهل الجنوب عن أهل الشمال، وفي الوقت نفسه سمح للمنصِّرين ـ بل سهَّل لهم وهيأ الأسباب ـ لنشر باطلهم وترويج الإفك بين أهل الجنوب، حتى أوجد ـ من بينهم ـ صنائع لا ترى إلا ما يراه المنصرون ولا تعتقد إلا ما يعتقدون… وبعد رحيل المستعمر الغاصب خلفته حكومات علمانية لم تكن الدعوة من أولوياتها ولا اهتماماتها؛ بل حصرت القضية في مفاوضات سياسية حول قسمة السلطة بين الجنوب والشمال، دون أن تدرك أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير بسبب الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس أهل الجنوب تجاه أهل الشمال، ولعل ممارسات شمالية ساعدت على ذلك، مثلما حصل ظلم ـ أحياناً ـ من أهل الشمال لأهل الشمال في حكومات متعاقبة.
أقول: إن الدعوة في الجنوب ضعيفة مثلما هي في الشمال والسبب الأكبر في ذلك أمران: أولهما: ضعف الإطار الدعوي المؤثر، وثانيهما: ضعف الإمكانات المادية؛ فالدعوة إلى الله في زماننا ـ كما لا يخفى ـ ما عادت قاصرة على خطبة أو كتاب، بل لا بد من علم ينشر ومدارس تبنى ومستشفيات تقام، ودواء وغذاء وكساء يبذل، وشبهات تزال، ودونك أحوال المنصرين الذين يتحركون بإمكانات هائلة فيها الطائرات والمستشفيات المتحركة والكتب والمعلومات، مع توفير المنح الدراسية والبعثات الجامعية، وما إلى ذلك من جهد يقف وراءه ـ أحياناً ـ دولة كالفاتيكان، وأحياناً منظمات كنسية مدعومة دولياً تعادل ميزانية بعضها ميزانية بعض الدول الإفريقية، ولها تأثير في مراكز صنع القرار كمنظمة التضامن المسيحي على سبيل المثال؛ فأنَّى للدعوة الإسلامية مثل هذا الجهد والبذل، وليس من دولة ترعاها وتحوطها؟ لكن هذا لا يلغي دور بعض المنظمات والدعاة ـ وفقهم الله ـ الذين عملوا وما زالوا، وتأتينا الأخبار في كل حين بأن فئاماً من أهل الجنوب يدخلون في دين الله أفواجاً، ولقد لقيت بعضاً ممن هداه الله فإذا هو على حال طيبة وعقيدة راسخة أسأل الله له الثبات.
** إزاء هذا الضعف الدعوي نشطت المنظمات التنصيرية مستغلة الواقع السياسي للجتوب؛ فمن المعروف أن التنصير كان ممنوعاً في الشمال السوداني؛ فما حاله الآن؟***
– لقد عرف الساسة كلهم أجمعون أن بعثات التنصير لا يراد من ورائها إلا الشر للبلاد والعباد، وأن جلّ همها يتركز في تهيئة الدعم المادي والمعنوي لحركة التمرد الصليبي التي يقودها قرنق، ومن المؤسف أن بعض المثقفين ممن غلبت عليهم النزعة العلمانية ما فطنوا لذلك إلا في وقت متأخر حتى لاحظ بعضهم ـ مؤخراً ـ أن قرنق حين دعا إلى ليلة سياسية في العاصمة البريطانية ما اختار لها إلا قاعة تابعة لإحدى الكنائس في واحد من أغلى أحياء لندن، وهو الذي يخدع شركاءه من أهل الشمال بالدعوة إلي فصل الدين عن الدولة، وما عاد خافياً على أحد أن سند حركة التمرد في الغرب والولايات المتحدة يتمثل في المنظمات المسيحية الأصولية، وبعض هذه المنظمات يعتبر الحركة الشعبية فصيلاً في حملة صليبية، وما فتئ المنصرون يطلقون الأراجيف حول الوضع في السودان، ويتعمدون الكذب حين يزعمون أن النصارى مضطهدون، أو أن الرق يمارس واقعاً في الأسواق، ونحو ذلك من فِرى تضحك منها الثكلى.
والقناعة بذلك ـ عند الساسة ـ قديمة، حتى دفع ذلك إلى طرد المنصرين الأجانب في عهد الفريق إبراهيم عبود الذي حكم السودان في الفترة من 1958 ـ 1964م وسن قانون التنصير الذي يحول دون بناء الكنائس أو تجديدها إلا بإذن الحكومة، ولما عقد مؤتمر حوار الأديان عام 1994م الذي أعقب زيارة بابا الفاتيكان عمدت الحكومة ـ كبادرة حسن نية كما قيل ـ إلى إلغاء قانون التنصير، فكان لذلك ثمار مُرة يلمسها كل الناس؛ حيث بنيت الكنائس بغير حساب في الشمال والشرق والوسط والغرب؛ بل في قلب العاصمة بعضها بترخيص وأكثرها عنوة، وانتشرت معارض ما يسمى بالكتاب المقدس، حتى أقيم في بعض الجامعات تحت شعار “إنجيل لكل طالب” بل بلغت الجرأة بهم إلى حد توزيعه في وسائل المواصلات وأماكن الازدحام في الأسواق وغيرها، وانتقل المنصرون إلى مرحلة استفزاز المسلمين ـ استغلالاً للضعف الحاصل ـ فعمدوا إلى إقامة مسارح متنقلة تصحبها شاشات عرض ومكبرات صوت في بعض الأسواق، مما دفع بعض الشباب الغيورين للاصطدام بهم عن طريق الدعوة إلى الإسلام بالأسلوب نفسه، وفي الزمان والمكان ذاته، فتدخلت الشرطة في الوقت المناسب ومنعت النصارى من ذلك العمل المقيت. أقول آسفاً: قد حدث في السودان ما لم يكن يخطر ببال أكثر الناس تشاؤماً؛ حيث تنصر بعض أهل الشمال، وقد جيء لي ببعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعل الحكومة تدرك أكثر من ذي قبل أنه مهما بلغ حجم التنازلات فإن القوم لا يزدادون إلا غروراً واستكباراً، وليس لمطالبهم سقف، وها نحن نرى بأعيننا أن أمريكا وبريطانيا والفاتيكان وغيرهم من رعاة الصليب ما رضوا عنا ولا شهدوا لنا ولا أنصفونا، بل الحال كما قال ربنا: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
** إذن هل كان لإلغاء قانون منع التنصير آثار سيئة على الشارع السوداني؟***
– اللهم نعم! ومن أخطر تلك الآثار طمس عقيدة الولاء والبراء، حتى إنك لتجد الشاب الطيب الصالح الذي يذهب إلى أرض الجنوب مجاهداً لربما يجادلك في كون النصارى مؤمنين أو غير مؤمنين؛ لأن بعض شياطين الإنس ـ ممن ينتسب إلى الدين ـ لبَّس عليهم بنصوص موهمة كقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِــرِ} [البقـــــــرة: 62]، وقـــــوله ـ تعالى ـ: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]، وأن الله أباح لنا التزوج بنسائهم مع أنه قال: {وَلا تَنكِحُوا الْـمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وهكذا خطفت الشُّبَه قلوب أولئك الشباب، ولكن الدعاة الصادقين بذلوا جهودهم ـ وما زالوا ـ حتى زيَّفوا تلك الشبهات، وبينوا كيف أن أولئك القائلين تعمدوا الكذب على الله والتلبيس على عباده.
ومن الآثار السيئة كذلك أن الناس ما عادوا ينكرون، بل لا تتمعر وجوههم إذا رأوا من يوزع الأناجيل أو مطويات تدعو إلى التنصير في وسائل المواصلات؛ وإن تعجب فعجب حال كثير من المسلمين حيث يخرجون في أعياد النصارى ـ كالكريسماس وشم النسيم ـ فرحين مستبشرين يهنئ بعضهم بعضاً وكأنهم في يوم فطر أو يوم نحر؛ وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. لكن هناك جوانب مشرقة ـ والحمد لله ـ تتمثل في دخول بعض النصارى في الإسلام عن قناعة، وقد مر على الناس زمان لا تكاد تدخل مسجداً في يوم جمعة إلا وجدت شخصاً أو أكثر يعلنون إسلامهم وينطقون بشهادة التوحيد، ونسأل الله المزيد.
** تحدثت بعض وسائل الإعلام ووكالات الأنباء عن ضغوطات أمريكية أخيرة ومفاوضات مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان) و (مجلس الكنائس العالمي) تقضي بموقف جديد من العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة؛ فهل الشارع السوداني يدرك خطورة هذه المرحلة؟***
– الضغوط الأمريكية على أشدها منذ مجيء حكومة الإنقاذ، وهي تزداد ضراوة يوماً بعد يوم، وما عاد أمرها خافياً؛ حتى إن الوجه النصراني الكالح بدا للعيان حين أراد الرئيس الأمريكي أن يعيِّن مبعوثاً خاصاً للسودان فما اختار إلا قسيساً متعصباً، وهو دانفورت الذي ما جاء كوسيط للسلام ـ كما قيل ـ بل من يومه الأول وهو يملي شروطاً ويضع قيوداً ويريد للناس أن يخضعوا.
أما الشارع السوداني فالناس أحد صنفين:
إما مسلم يعيش هَمَّ الإسلام يرجو نصره ويخاف ضياعه، فهو يدرك أن الأمر جد، وأن القوم ما يريدون إلا القضاء على الدين وتغييب أحكامه وتغيير شريعته {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وعزيز على هذا الصنف من الناس أن تذهب تلك الدماء الزكية التي روِّيت بها أرض الجنوب من رجال مؤمنين وشباب صالحين، ويخشى هؤلاء أن تثمر تلك الضغوط إذعاناً في ظل صمت عربي مريب، وإهمال تام للشأن السوداني، فلا نسمع من الجامعة العربية إلا بيانات متفرقة عباراتها باردة لا تمثل في الواقع شيئاً.. وصنف آخر من الناس.. وهم كثيرون.. عضهم الفقر بنابه وتتابعت عليهم المحن، وأصيبوا بخيبة أمل من طول أمد الحرب، فصاروا يلهثون وراء الحل ولو كان على حساب الدين، والأحزاب العلمانية تروج لمشروع كهذا بل يتحدث قادتها بالصوت العالي أن حل مشكلة السودان يكمن في العلمانية منهجاً وسبيلاً، وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أن هذا الحل سيزيد الأمر تعقيداً، ولو كانت العلمانية تصلح لأفلحت في وقاية المسلمين في الهند الذين يذبحون ـ باسم العلمانية ـ على أيدي الهندوس، ولأفلحت في أندونيسيا أو لبنان أو غيرها من البلاد التي ترفع العلمانية شعاراً لكن الخاسر الوحيد هم المسلمون.
** الدعوات الدولية والنصرانية بفصل الجنوب السوداني تزداد حدتها في هذه الأيام.. فهل تتوقعون أن تسفر هذه الدعوات عن إجراءات عملية؟***
– نَعَم! قد تسفر عن إجراءات عملية في ظل تواطؤ دولي وغياب إسلامي، وما خبر تيمور الشرقية عنا ببعيد، ولو حدث هذا ـ نسأل الله ألا يقع ـ فسيكون خطراً ماحقاً على المنطقة بأسرها، وما زالت الحكومة ترفع صوتها محذرة دول الجوار من مصير كهذا، وأن الضرر سيكون على الجميع، لكن دول الجوار جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم خشية غضب الأمريكان، فصار السودان كالنذير العريان، وأصبحت المفاوضات مع التمرد بإشراف صليبي كامل متمثل في أمريكا والنرويج ودول الإيغاد، وكفَّ العرب أيديهم ظانين أنهم بمنأى عن هذا الخطر.
ولك أن تتصور أن حركة التمرد قد تحدثت قبل حين مؤيدة إسرائيل في ضربها للفلسطينيين؛ فكيف لو صارت تلك الحركة دولة؟ كيف ستكون علاقتها بإسرائيل؟ ثم إنها ستتحكم بمنابع النيل، وستكون آبار البترول تحت سلطانها، ولعلها تقيم حلفاً صليبياً مع الحكام النصارى في إثيوبيا وإرتيريا وكينيا وغيرها من دول الجوار.
** كان لفضيلتكم برامج إعلامية متعددة في التلفزيون السوداني، كيف تقوِّمون هذه التجربة؟***
– لا شك أن التلفاز من نعم الله على العباد في هذا الزمان، والتي يجب استخدامها في طاعة الله والدعوة إلى شرعه والتبشير بدينه، لكن الواقع المشاهد أن أهل الفساد قد سبقوا إليه وسخروه في الصد عن سبيل الله، وأغلب من سيطروا على هذا الجهاز في بلاد المسلمين قاطبة هم ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وقد شُغِل الدعاة حيناً من الدهر بالبحث في حِلِّ المشاركة من عدمه، وأحسب أن هذا الخلاف من الممكن تجاوزه مع عميق احترامي للقائلين بالتحريم؛ لأن التلفاز عاد من أقوى الوسائل تأثيراً في الأمة سلباً وإيجاباً، ورب كلمة أو صورة تقلب الموازين وتشوه التعاليم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن “بين يدي الساعة سنوات خدّاعات يُصدَّق فيها الكاذب ويكذّب فيها الصادق، ويخوَّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويتحدث فيها الرويبضة قيل: ما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتحدث في أمر العامة”(1). بنظرة سريعة في الأجهزة الإعلامية نرى الرويبضات قد اعتلوا المنابر، وتصدوا للجليل والحقير من أمر الأمة؛ فهل يترك الدعاة هؤلاء الذين لا يتورعون حتى عن الحديث في القضايا الشرعية والمسائل العقدية بلا أثارة من علم ولا هدي ولا كتاب منير؟ أقول: يجب تجاوز الخلاف والنظر ـ بعد ذلك ـ بإخلاص في السبل الفاعلة التي تكفل الانتفاع بهذا الجهاز الخطير مع تجنب مفاسده، وذلك يتحقق ـ في نظري ـ بالآتي:
1 – أن يختار الدعاة من بينهم من يكونون على معتقد صحيح وعلم نافع للولوج في التلفاز وتقديم برامج متميزة فيه مع مراعاة الجدة وتحري القبول لدى المشاهد.
2 – أن يتحرى مقدّمو هذه البرامج كل ما يرغِّب المشاهد ـ مما هو مباح ـ وأن يزينوا برامجهم للناس بالحق، مثلما يزخرف أهل الباطل باطلهم.
3 – أن تكون الضوابط الشرعية مرعية ـ أولاً وأخيراً ـ فلا يسمح الداعية الموفق لنفسه بالظهور في برامج تفقده وقاره لدى المشاهد، كأن يُرى جالساً إلى مذيعة متهتكة ـ تسأل وهو يجيب، أو أن يتخلل فقرات البرنامج مقطوعات موسيقية ونحو ذلك مما يعاب.
4 – أن يسعى الدعاة ـ بعون المحسنين ـ في إقامة قنوات خاصة تبث من خلالها قيم الدين، وتعالج قضايا الناس بنظرة شرعية صحيحة خالية من المؤثرات التي لا يسلم منها ـ غالباً ـ من يتحدث أو يفتي في القنوات الرسمية.
وإلى أن يتحقق ذلك فإن على الدعاة الذين يظهرون على الشاشة أن يخلصوا لله في أعمالهم وأن يتحروا رضاه سبحانه، وإياهم وإرضاء الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ بتمييع الأمور وتشقيق الكلام، وعليهم كذلك بالصبر على ما يلاقون في تلك الأجهزة ـ أحياناً ـ من عنت أو سخرية؛ فقدوتهم الأنبياء والمرسلون: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْـمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] .
** علمنا أن برامجكم وكذلك بعض البرامج الإسلامية الأخرى قد أوقف بثها؟***
– التلفزيون السوداني ـ كغيره ـ للفساد فيه نصيب مفروض، إلا أنه يبقى وللآن ـ من أقل القنوات سوءاً، وقد كان للبرامج الدينية حظ مقدر في تجميل صورته وإضفاء مسحة وقار عليه؛ حيث كانت هذه البرامج أكثر حرية من مثيلاتها في قنوات أخرى، وغابت في موادها ـ غالباً ـ عبارات النفاق للحكام مما أكسبها قبولاً لدى المشاهدين في الداخل والخارج رغم أن مادتها العلمية ـ أحياناً ـ لا تسلم من قصور، ولا سيما أن بعضها مباشر غير مسجل، وبُعيد شهر رمضان أوقفت ستة برامج دينية دعوية وهي: معالم الطريق ـ الدين النصيحة ـ تذكرة ـ وجه النهار ـ ديوان الإفتاء ـ وحي القرآن، ولم يطرح بديل لها حتى الساعة؛ فهل في القضية توجيه سياسي يأتي إنفاذاً لمطالب أمريكية بتجفيف منابع الإرهاب بزعمهم بعد أحداث سبتمبر؟ هذا ما ينفيه المسؤولون، ويؤيد ذلك أن البرامج الملغاة دعوية تربوية لا تمس الواقع السياسي إلا أحياناً يسيرة وحياً أو من وراء حجاب، أم أن إلغاء تلك البرامج يمثل أمنية لبعض العقلانيين والعلمانيين في أجهزة الإعلام ممن يرتدون ثياباً إسلامية، لكنهم يكرهون العلم الشرعي وحملته الذين يكثرون من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، ويريدون تأسيس منهج طالما أريد طمسه وتشويهه، منهج يقوم على تقديس نصوص الوحيين، وتقديم النقل على العقل، وتقدير أقوال الأئمة المتقدمين دون نسبة العصمة لأحد منهم، لعل الاحتمال الثاني ـ في ظني هو الراجح والله أعلم؛ لكني أقول: إن التلفزيون السوداني بغير البرامج الدينية لا طعم له ولا لون ولا رائحة، بل لا مسوِّغ لوجوده أصلاً إذا لم تكن رسالته نشر الدعوة وتعليم الناس الخير.
** الصراع بين الفضيلة والرذيلة مستمر، ويأخذ صوراً متعددة، والمجتمع السوداني من المجتمعات المحافظة ـ ولله الحمد والمنة ـ، لكن يبدو أن بعض المظاهر السلبية بدأت تظهر بصورة لافتة للأنظار.. فما سبب ذلك في رأي فضيلتكم؟!***
– في السودان كانت هناك شرطة تسمى شرطة النظام العام تعادل في مهامها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت معنية بمحاربة الفساد المتمثل في التبرج والرقص المختلط والخمور والمسكرات بأنواعها، ومراقبة حفلات الزواج بمنع استمرارها بعد الحادية عشرة ليلاً، وتكمل مهمتها هيئة قضائية تسمى: “محكمة النظام العام” أحكامها فورية في قضايا الخمور والفواحش، ولقد آتت أُكُلها في فرض الوقار وضبط السلوك في الشارع العام، لكن المنافقين والمنافقات ساءهم ذلك وغاظهم فمكروا مكراً كباراً، وسخَّروا بعض رموزهم في الصحافة وغيرها ينشرون سيئات النظام العام مع تضخيمها وتهويلها، ويسترون الحسنات عامدين، وفي غفلة من أهل الحق استطاعوا تصوير الأمر للمسؤولين وكأنه رأي عام، فألغيت شرطة النظام العام، مما أثر هذا الواقع المر الذي تعيشه حيث انتعش أهل الباطل، وراجت سوق الفساد، ولم يعد ثمة قانون حازم يحول دون العري والتفسخ، لكنني أقول: ليس إلغاء شرطة النظام العام هو العامل الفرد في شيوع الفساد، بل ثمة روافد أخرى تتمثل في المسلسلات الساقطة التي أصبحت تعرض بواقع أربع مسلسلات في كل يوم وليلة، أضف إلى ذلك مجلات المجون التي تزين أغلفتها صور الغانيات؛ فهــذه بعض الأســـباب لكنها لا تلغي تقصير الآباء، وإهمال الأولياء، وأهم من هذا كله ضعف رقابة الدولة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها”(1). قال أهل العلم: حيث ما حللت بلداً فوجدت النساء بها عاريات فاعلم أن السلطان ظالم، ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين صورة الظلم المتمثل في ضرب ظهور الناس، والصورة الأخرى المتمثلة في تغييب شرع الله بالسماح للنساء بالتبرح والسفور.
** يذكر بعض المراقبين أن التشيع بدأ يأخذ منحى خطيراً في السودان؛ فما مدى صحة ذلك؟***
– من العجائب -والعجائب جمة- أن أهل السودان كانوا: إما مسلم مالكي وإما كافر دهري، أو وثني أو نصراني أو غير ذلك من ملل الكفر؛ فما كان الناس يعرفون فرقاً ومذاهب، حتى نجم رأس النفاق بظهور التشيع في صورة جمعيات نسائية أو مستشفيات أو معاهد، ثم بدؤوا في التسلل إلى طبقات المجتمع كافة في الجامعات والمدارس وبعض الصحف مستغلين حاجة الناس للمال أولاً، وجهلهم بحقيقة الشيعة ثانياً، فولجوا إلى المتصوفة من باب حب آل البيت ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وآله حتى أفلحوا في كسب ودهم، بل تشيع بعضهم، وما لبثوا إلا يسيراً حتى كشفوا عن وجههم القبيح فظهرت على ألسنة أتباعهم ومناصريهم عبارات الكفر في سب الصحابة الكرام وذكرهم بالسوء، حتى انبعث أشقاها رجل يتزعم فصيلاً في طريقة صوفية خرج على الناس برسالة أطلق عليها عنوان: “أحبابي” صب فيها الرفض صباً، وسال من فيه ما يكشف عن حقيقته؛ حيث اتهم الشيخين أبا بكر وعمر بالكفر، ورمى طلحة بالسوء، مع ركاكة في الألفاظ والمعاني، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وعرف الناس أن وراء الأكمة ما وراءها حتى تبرأ منه ومن مقالته كبار شيوخ الصوفية ـ وفيهم بنو عمومته ـ فاضطر إلى إعلان التوبة والاعتذار عما قال، فأصيب .. الروافض في مقتل؛ لأن مسكينهم لم يتخير وقتاً مناسباً لإظهار ما أخفوا من ضلال وخبال، لكن القوم لهم أبواب ومداخل فيجلبون على الناس بخيلهم ورجلهم. ونسأل الله أن يكفينا شـرورهم.
_______________________________
(1) رواه ابن ماجه، ح/ 4036.
(1) رواه مسلم، ح/ 2128.