أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه، وتدخره إلى ساعة الحاجة للانتفاع به، الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات، وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها؛ لأنا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا، ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله، كنا أشبه بمن يريد أن يبني له كل يوم بناء، وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب، إذ يكون كل امرئ وما يختار.
والذاكرة أو الحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أمورًا مضت وتأثرات وقعت، فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1592م): “وعاء العلم وصوان الحكمة”. وقال لاروشفو كولد الكاتب (1680): “جميع الناس يشكون من حافظتهم، وما شكا قط أحد من عقله”. قال آخر: “إن الذكاء بدون حافظة أشبه بغربال لا يكاد يمسك ما تضعه فيه”. وقال أحدهم: “الحافظة واسطة من وسائط الكمال، وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئًا وينسج على منواله”.
وقال كورنيل الشاعر: يجب لمن يتعمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة، وهذا مثل قولهم: إذا كنت كذوبًا فكن ذَكورًا.
إن للحافظة شأنًا عظيمًا في ترقية الفكر الإنساني، وبدونها يكون كل شيء عقيمًا لا ثمرة له؛ لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت، وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة، ولم يعرف القانون الذي تسير عليه، كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته، وغاية ما عرف من أمرها أنها تقوى بالانتباه والتمرن ، وأن الكسل ابن الترف، والكسل يجرح الحافظة إن لم نقل يقتلها.
ما عنيت أمة بتدوين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها، عناية المسلمين بدينهم ولغتهم، فكان من أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر، ولا يزال في البلاد أثر من آثار تلك العناية، أمَّا الأحاديث فقد عنوا بها قديمًا وجمعوا أشتاتها، وبينوا صالحها من موضوعها، وضعيفها من قويها، مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم.
لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث، ولا بالمظاهر، ولا بالوساطات والشفاعات، بل كان بالاستحقاق وكد القرائح، يسير على قوانين بقيود وروابط؛ ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفًا من الأحاديث بأسانيدها.
فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلَّا مجرد رواية، ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه، والعالِم على من يعلم المتن والإسناد جميعًا، وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى.
والمحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة، هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد، كان في أول درجات المحدثين، وكان السلف يستمعون فيقرءون، فيرحلون، فيفسرون ويحفظون، فيعملون.
سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز له أن يُطلَق عليه الحافظ، قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف قليل جدًّا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم، أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب، فقلت له: هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدًا كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، قال فتح الدين بن سيد الناس: وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية، وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عُرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه، طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ. وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث من الإملاء، فذلك بحسب أزمنتهم.
كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام، قال ابن عساكر: إنه أحفظ شيخ لقيه، وشيوخ ابن عساكر زهاء ألف ومائتي شيخ، وكان الفقيه أعلم الدين القمني، يحفظ ما سمعه من مرة واحدة.
وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره، قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ، وقال: ما أردت بهذا إلَّا الاستعانة على الفقه، ويروى أنه نظر في كتاب لأبي حنيفة، فما كان من الغد إلَّا أن غدا راويًا له مستظهرًا إياه بجملته.
وابن دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية، تُقرأ عليه دواوين العرب، فيسارع إلى إملائها من محفوظه، وقيل: إن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث، قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام، وقال إسماعيل بن عبد الملك: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره هكذا أبدًا، ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلَّا وهو مفتقر إلى علمه.
هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه، وتوفر الأسانيد والرواة، بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئًا مما كانوا يحفظونه، لاختار استظهار اللغة الصينية واستسهلها أكثر؛ وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلَّا قليلًا.
ومن العجيب أن الحفظ كان شائعًا في كل فن: بين أهل الأدب وطلاب العلم، على اختلاف ضروبه عند العرب، على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم، ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب إلَّا على ما في لوح محفوظهم، لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها، بل عن تصفحها.