الرأي.. في ميزان الدعوة

الرأي إذا كان مستنداً إلى أصل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم...

لارتباط الدعوة بأحوال الواقع تحتاج دوماً إلى إعمال الفكر والنظر، حتى يستطيع الداعي أن يقوم بدعوته ويتحرك بها على النحو المناسب الذي يحقق أهداف الدعوة المرجوّة، ولهذا كان مجال الدعوة رحباً واسعاً ليجتهد الدعاة في العمل بأفضل الطرق والأساليب المناسبة للواقع، واختيار وسائل البيان المناسبة للمدعوّين، والتي تراعي الثقافات والعادات والطباع العديدة المختلفة والمتنوعة.

إلا أن هذا الفكر الدعوي، وما يتفرع منه من تصورات وآراء ومناهج وغير ذلك، لا بد أن يكون مبنياً على العلم الشرعي؛ لكي تقوم التصورات، على تعدّدها واتساعها، وتنطلق الآراء، على اختلافها وتنوعها، في إطار مقاصد الشريعة وأحكامها، قال الحافظ ابن حجر: (الرأي إذا كان مستنداً إلى أصل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم)(1).

كثير من الناس اليوم ينسى في بعض أعماله الدعوية أو مواقفه أو توجهاته أهمية هذا الأصل، وينطلق في الدعوة من مجرد رأيه وتصوره، أو من خبرات بعض الناس وآرائهم، دون أن يزن ذلك بميزان الكتاب والسنة، والرأي غير المبني على العلم والفقه لا شك أن صاحبه إن أصاب مرة فسوف يخطئ مرات ومرات، وسيكون ضرره أكثر من نفعه، بل يمكن أن نقول إن السبب الرئيس للكثير من السقطات التي تحدث في ساحة الدعوة وانحرافات الفكر والنزاعات هو الرأي الذي يُسقى بغير الشريعة وإن نبت في أرضها.

في آية كريمة ذمّ الله تعالى الذين يحاربون الحق ويجادلون فيه دون علم، فقال _سبحانه_: ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ” [الحج: 3]، ومع أن الذم موجه للكافرين لجدالهم بغير علم، فالذم يشمل كل من يجادل في الله بغير علم، حتى إن كان يدعو إليه، قال في أضواء البيان: (وما ذكره _جل وعلا_ في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله بغير علم… يدخل فيما تضمنته من الوعيد والذم: أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب).

وفي حديث شريف بيّن عليه الصلاة والسلام لنا خطر الرأي الذي لا يقوم على علم الكتاب والسنة، وكيف أنه يؤدي إلى الضلال، قال _عليه الصلاة والسلام_: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا)(2).

وقد حذّر أئمة العلم من الصحابة ومن بعدهم من خطر الرأي، وبيّنوا أن مسيرة الدعوة إلى الدين حين تنطلق من الآراء المبنية على غير علم ولا فقه، قد تكون مسيرة هدم لا بناء، ودعوة هلاك لا حياة، أخرج الدارمي عن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: “إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع…”(3).

وقال رضي الله عنه أيضاً: “ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيُهدم الإسلام”(4)، وقال عمر _رضي الله عنه_: (من سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم)(5)، ويُروى مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: “تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسنة رسول الله، ثم تعمل بالرأي، فإذا عملوا بالرأي فقد ضلوا وأضلوا” رواه أبو يعلى في مسنده، وضعفه الألباني في الضعيفة برقم 3409.

وتأمل كيف كشف الصحابة _رضي الله عنهم_ بما علموه من نصوص الوحي موطن الداء، وبينوا لنا من وراء تلك القرون البعيدة السبب الرئيس لكثير مما نراه الآن في واقعنا من أمراض وعلل، ألا وهو تقديم الرأي على الشرع، فهذه فئة قادها خطل الرأي إلى أن جهاد الكفار يمر عبر قتل المسلمين وتفجير ديارهم وتخريب أموالهم، وفئة صوّر لها رأيها أن التأثير الدعوي في الشباب مرهون بالتسيب والتميع في أحكام الدين، فلا يبالون مثلاً بالاختلاط بين الشبان والشابات، أو فتح باب الموسيقى والمعازف بالتحليل على آخره، أو إظهار النساء سافرات ومتبرجات في البرامج والمحاضرات الدينية، وفئة زين لها فساد الرأي أن الحق ليس إلا في جماعتهم، فانطلقوا يحاربون إخوانهم في طريق الدعوة أكثر من حربهم لعدو كافر!

وبقدر ما تغفل فئة من الناس عن ضبط آرائها ووزن مواقفها بالعلم والفقه؛ تزداد رؤيتهم ظلمة، وآراؤهم خطلاً، قال السرخسي في المبسوط: (لا يستقيم أن يكون صاحب رأي ليس له علم بالسنة والأحاديث، فمثله يضل الناس… ولا صاحب حديث ليس له علمٌ بالفقه)(6).

وقد يصل تقديم الرأي على الكتاب والسنة بصاحبه إلى أن يرى العلم في الرأي لا في الكتاب والسنة، وتنقلب رؤيته فيرى الكتاب والسنة مجرد نصوص لا تفيد يقيناً، في الوقت الذي يقدّس فيه الرأي المجرد فيراه هو العلم اليقيني، قال ابن القيم: (قال حماد بن زيد قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر”، ففرّق هذا الراسخ بين العلم والكلام، فالكتب كثيرة جداً، والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة، والعلم بمعزل عن أكثرها وهو ما جاء به الرسول عن الله…

ولما بعد العهد بهذا العلم؛ آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علماً، ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس، فضيعوا فيها الزمان، وملؤوا بها الصحف مداداً والقلوب سواداً، حتى صرّح كثير منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم، وأن أدلتها لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم وأذن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسلخت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها والثوب عن لابسه… ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع أتباع تلاميذ هؤلاء؛ أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن، فقال له: لو حفظت القرآن أولاً كان أولى! فقال: وهل في القرآن علم! قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد)(7).

ومع أن التجارب والخبرات التي تمر بالدعاة، والتي يبنون على كثير منها آراءهم، من الأهمية بمكان في الدعوة، إلا أنها ليست هي المصدر الرئيس في بناء الدعوة، كما قرر ذلك كثير من علماء الدعوة وأئمتهم. ذكر الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني في كتابه (المدخل إل علم الدعوة) أن أصول الدعوة، هي: القرآن الكريم، والسنة، والسيرة النبوية، وسيرة الخلفاء الراشدين، أما الأصل الخامس الذي حدده فقال فيه: (وقائع العلماء والدعاة في ضوء تلك المصادر) ثم قال: (ومع أهمية هذه الوقائع وعظيم فائدتها، فإنها تعد مصدراً تبعياً يُستفاد منه في ضوء المصادر الأصلية السابقة، لأنها اجتهادات بشرية تخطئ وتصيب…
وقد أخطأ بعض الناس حين غفلوا عن أهمية هذا المصدر، فزهدوا به، وأعرضوا عن الإفادة منه، مستغنين بزعمهم بالكتاب والسنة. كما أخطأ آخرون في إنزال هذا المصدر منزلة الكتاب والسنة المعصومَيْن عن الخطأ، تقديراً بزعمهم للعلماء واحتراماً لآرائهم واجتهاداتهم، كما وقع من كلا الطرفين، وما ضاع الدين إلا بين الغالي فيه والمقصِّر)(8).

________________
(1) فتح الباري، كتاب الاعتصام، باب ما يذكر من ذم الرأي.
(2) صحيح البخاري، رقم 100، باب: كيف يقبض العلم.
(3) أخرجه الدارمي، رقم 143، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع.
(4) فتح الباري، كتاب الاعتصام.
(5) أخرجه الدارمي، رقم 251، باب في ذهاب العلم.
(6) المبسوط، كتاب أدب القاضي.
(7) كتاب الفوائد، الجزء 1، صفحة 104.
(8) المدخل إلى علم الدعوة، ص 148.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *