في بهو المركز الوطني لعلم المحيطات بمدينة ساوثامبتون البريطانية، ينتصب نموذج ملون لتمثال، من تلك التي تُوضع عادة في مقدمة السفن. ويصوّر التمثال، الذي يزيد ارتفاعه عن ارتفاع قامة الإنسان العادي، فارسا ذا شارب، يبدو أشبه بمقود دراجة، وعلى رأسه خوذة ترتفع مقدمتها لأعلى قليلا، ويغطي صدره درع معدني فضي اللون، وتحدق عيناه – على ما يبدو – في الأفق البعيد.
ويشكل هذا التمثال الخشبي، القطعة الوحيدة المتبقية من سفينة ذات أشرعة رئيسية مربعة الشكل حملت اسم “إتش إم إس تشالنجر”، قامت ذات يوم برحلة استغرقت ثلاث سنوات ونصف السنة، قصدت خلالها بقاعا تقع في أقاصي الكرة الأرضية. وأعادت هذه الرحلة صياغة علوم البحار، وكشفت النقاب عن الكثير من أنواع العجائب الموجودة تحت سطح الماء، وغيّرت – إلى الأبد – طبيعة علاقتنا مع المحيطات الواقعة، على سطح كوكبنا.
ولم تكن الرحلة، التي استمرت خلال الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 1872 ومايو/أيار 1876، بالبسيطة أو اليسيرة، إلى حد أنه لو كان بوسع ذاك التمثال – الموجود الآن في ساوثامبتون – الحديث عنها، لروى كيف تناثر عليه خلالها رذاذ المياه المالحة، عندما كانت “تشالنجر” تمخر عباب المحيطيْن القطبي الشمالي والجنوبي. كما كان سيتسنى له أن يحكي لنا رحلة السفينة، عبر مساحات واسعة من المحيط الهادئ، بل وخوضها مغامرة بلغت في خضمها، ما هو أبعد من الدائرة القطبية الجنوبية.
لكن تلك الرحلة الطويلة ذات المسار الدائري، آتت أُكُلها. فعند انتهائها، أعلن جون مَرّي، عالم الطبيعة المرموق وقتذاك والذي كان على متن السفينة، أن هذه المهمة شكلّت “التقدم الأعظم على صعيد المعرفة على ظهر كوكبنا، منذ الاكتشافات الشهيرة التي شهدها القرنان الخامس عشر والسادس عشر”. وبطبيعة الحال، مَثَلَّ ذلك إنجازا بالنسبة لسفينة، لم يكن يُفترض لها، سوى أن تكون قطعة بحرية صغيرة في أسطول ضخم الحجم، كالأسطول الملكي البريطاني.
وقد ظهرت تلك السفينة الخشبية إلى النور في فبراير/شباط عام 1858، بعدما بُنيت في حوض “وليتش” لبناء السفن بإنجلترا، الذي لم يعد قائما في الوقت الحاضر. وصُمِمَت “تشالنجر”، التي يبلغ طولها نحو 61 مترا، لتكون سفينة حربية، تجوب البحار بقوة الرياح والبخار أيضا.
المفارقة أنه لم يكن بوسع أحد، أن يتنبأ مسبقا بالشهرة التي ستتمتع بها تلك السفينة. فعندما دُشِنَت، كان العالم بأسره تقريبا، يتحدث عما سبق دخولها الخدمة ببضعة أسابيع، من تدشين سفينة أخرى حملت اسم “إس إس غريت إيسترن”؛ صممها المهندس البريطاني إسامبارد كينغدَم برونيل، وكانت تعمل بالبخار وذات هيكل مدعم بالحديد ويزيد طولها على 210 أمتار. لكن محدودية شهرة “تشالنجر” لن تستمر طويلا.
وبدأت قصة الرحلة، التي باتت أسطورية الآن لتلك السفينة، قبل 150 عاما؛ وتحديدا في عام 1870، عندما أقنع بروفيسور في جامعة إدنبره كان كذلك خبيرا في علم الكائنات البحرية يُدعى تشارلز وايفيل طومسون، جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية، والمعروفة اختصارا باسم الجمعية الملكية، بتقديم الدعم لرحلة بحرية طويلة الأمد، ترمي لاستكشاف محيطات العالم. لم تكن الفكرة مألوفة وقتذاك، وطُرِحَت في وقت كانت فيه أعالي البحار، تشكل ما هو أكثر من مجرد عائق، يعترض طريق التجارة البرية ويعوق استكشاف الأصقاع المجهولة من العالم. كما كانت الحياة في أعماق البحار والمحيطات، تشكل لغزا إلى حد كبير.
وحتى العالم الشهير تشارلز داروين، الذي كان قد قام برحلة بحرية رائدة بدوره قبل ذلك بنحو 40 عاما، لم يكن يرى في المحيطات سوى “مساحة ممتدة بشكل لا نهائي ومثيرة للضجر” ووصفها بأنها “صحراء من المياه”.
ولذا سعى القائمون على الرحلة، لنيل موافقة الحكومة البريطانية عليها، وهو ما حدث بالفعل. ثم استعار هؤلاء من الأسطول الملكي؛ السفينة “تشالنجر”، التي كانت في ذلك الوقت سفينة قوية ومتينة، قضت العقد الأول من حياتها في الخدمة الفعلية في البحار.
بعد ذلك، بدأت الاستعدادات الجادة للرحلة، إذ أُزيل 15 من مدافع السفينة الـ 17، بهدف إفساح المجال للمختبرات وورش العمل التي ستُوضع على متنها. كما أُعِدَت مناطق تخزين لعينات الكائنات البحرية، التي ستُجمع خلال المهمة. في الوقت نفسه، تم تجميع أفراد الطاقم، الذي زاد عدده على 200 بحار، بقيادة القبطان جورج ناريس، الذي سبق له أن كان في عام 1869 ربانا، لأول سفينة تمر عبر قناة السويس؛ الممر الملاحي الذي كان قد افْتُتِحَ حديثا في ذلك العام البعيد. وانضم للطاقم، فريق من ستة علماء، على رأسهم وايفيل طومسون نفسه.
اكتشفت السفينة خلال رحلتها الكثير من أنواع الكائنات الحية الجديدة، وصاغت طبيعة فهمنا لطبيعة الحياة في البحار
وبحلول أواخر 1872، كانت السفينة جاهزة للإبحار. وقد بدأت رحلتها يوم السبت السابع من ديسمبر/كانون الأول، من بلدة شيرنيس على الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا، تاركةً خلفها البلاد فريسة لأحد أكثر فصول الشتاء الأشد مطرا، منذ بدء التسجيل. واتجهت “تشالنجر” في البداية جنوبا صوب مدينة لشبونة وجزر الكناري، وذلك في مستهل رحلة ستستمر 42 شهرا، وستقطع خلالها السفينة قرابة 127 ألفا و600 كيلومتر. وتوقفت “تشالنجر” أثناء رحلتها في ما لا يقل عن 362 محطة، وذلك “على فترات منتظمة بقدر الإمكان”، كما جاء على لسان وايفيل طومسون. واستهدفت هذه التوقفات، جمع عينات من قاع البحر، ودراسة الحياة البحرية، وقياس درجة حرارة مياه المحيطات، وتقدير أعماقها.
وقد تسنى لنا تكوين فكرة عن ملامح الحياة على سطح “تشالنجر”، بفضل رسائل خطّها شاب يُدعى جوزيف ماتكين، كان يعمل خادما مساعدا على متنها، ولم يكن عمره يتجاوز 19 عاما حينما بدأت السفينة مهمتها. وفي خطاب كتبه خلال اللحظات الأولى للرحلة، قال ماتكين “كل العلماء على متن السفينة انشغلوا طيلة أسبوع كامل بتخزين معداتهم. هناك آلاف من القوارير الصغيرة محكمة الإغلاق، وكذلك الصناديق صغيرة الحجم. كُدِسَت هذه الأشياء في خزانات حديدية، لكي تحفظ فيها العينات التي ستحوي حشرات وفراشات وطحالب ونباتات وغيرها. هناك غرفة للتصوير على السطح الرئيسي للسفينة، وكذلك غرفة للتحليل والفحص”.
لكن المواد الغذائية المتوافرة على متن السفينة، كانت أقل من توقعات ذلك الشاب. فبعد بضعة أسابيع من مغادرة الساحل الإنجليزي، كتب في خطاب آخر يقول: “لم أكن قط جائعا بشدة كما أنا الآن”. واستطرد موضحا نظام تقديم الوجبات خلال المهمة بالقول: “يُقدم الإفطار في السادسة صباحا، وهو مؤلف من شراب الكاكاو والبسكويت. في الحادية عشر والنصف صباحا يتم تقديم طعام الغداء، الذي يتنوع ما بين لحم الخنزير المملح وحساء البازلاء في يوم، وفي اليوم التالي؛ لحم بقري مملح مع حلوى بالكريمة تحتوي على برقوق ودقيق وزبيب وبيض ولبن وغير ذلك من المكونات. أما في اليوم الثالث فيُقدم لحم الخنزير المملح من جديد، وفي الرابع بطاطس محفوظة ولحم أسترالي معلب”. ويعلّق ماتكين على قائمة الوجبات هذه بالقول: “إذا أصبح أي من الركاب أكثر بدانة خلال سنوات الرحلة الأربع، فسيعني ذلك أنه كان يتناول حصة أكبر مما هو مسموح له من الطعام”.
لكن حصيلة ما اكْتُشَفَ خلال الرحلة، كانت أكثر وفرة من ذلك بكثير. وربما يكفي للدلالة على ذلك، توضيح أن نتائجها عُرِضَت لاحقا عبر تقرير تألف من 29 ألفا و500 صفحة؛ وقُسِّمَ لـ 50 جزءا، وهو ما يعطينا فكرة عن القدر الهائل من المعلومات، التي جمعها العلماء الذين كانوا على متن السفينة.
ومن شأن إلقاء نظرة على المجموعة المتاحة على شبكة الإنترنت للعينات المادية التي جُمِعَت خلال الرحلة والبالغ عددها 4772 عينة، كشف النقاب عن صورة ثرية بشكل استثنائي للحياة البحرية. فهذه المجموعة تتضمن قواقع بحرية من جزر الأزور، وحيوانات حبار من المياه المحيطة باليابان، وأسنانا لأسماك قرش، وحيوانات سلطعون، وخنازير بحر وأسماكا من فصيلة الأنقليس الثعباني، بجانب ما يُعرف بـ “الكائنات المُتغذية بالترشيح” التي جُرِفَت من على عمق يصل إلى 550 مترا تحت جزر هاواي.
وتتوزع هذه العينات الآن، على متاحف مختلفة في المملكة المتحدة وأيرلندا والولايات المتحدة، مثل متحف التاريخ الطبيعي في لندن، وهناك البعض منها لا تزال معروضة للزوار بالفعل.
جابت السفينة مناطق مختلفة من العالم، واستهدفت بقاعا قصية مثل جزر الأزور
ولم تقل القراءات والقياسات العلمية التي أجراها الباحثون خلال المهمة، أهمية عن تلك العينات. وقد تمكن العلماء من إجرائها، باستخدام مقاييس زجاجية للحرارة وأدوات كانت تمثل أرقى ما توصل إليه العلم في تلك الحقبة. واستعان العلماء بحبال طويلة من ألياف القنب، لكي يُدْلوا بواسطتها تلك الأدوات والمقاييس، في قلب أعماق لم تكن قد اكْتُشِفَت حتى ذلك الحين.
ويقول الدكتور جيك غِبي، الأستاذ المساعد في معهد وودز هول لعلوم المحيطات، وهو أحد المراكز البحثية الشهيرة في هذا المجال في الولايات المتحدة، إن القياسات التي تم الحصول عليها خلال مهمة السفينة “مهدت الطريق نحو ظهور مختلف فروع علم المحيطات، فقد التقط علماء هذه المهمة، لحظة من الزمان كانت ستضيع للأبد لولا ما قاموا به. ولا يزال التقرير الذي يتضمن استخلاصات الرحلة، يُنتفع به حتى اليوم، في أبحاث ذات أهمية كبيرة”.
ولا تشكل دراسة التأثير، الذي خلّفته ظاهرة التغير المناخي على درجة حرارة مياه المحيطات، سوى مجال واحد من بين المجالات العديدة، التي أثبتت فيها مهمة “تشالنجر” أنها ذات قيمة لا تُقدر بثمن. ويقول الدكتور غِبي في هذا الشأن: “نعكف حاليا على تحويل المجموعة الكاملة من قياسات درجات الحرارة، التي جمعتها السفينة إلى ملفات رقمية”. ويشير إلى أن معهده يسعى أيضا لفهم الآليات الفيزيائية التي حكمت المحيطات، “على مدار تلك الفترات الزمنية التي يمتد كل منها لقرن كامل. ربما لم نكن سنستطيع متابعة الأبحاث على هذا المضمار، دون أن تتوافر لدينا البيانات التي جمعتها هذه السفينة”.
ومن بين الإنجازات البارزة العديدة التي حققتها مهمة تلك السفينة..
إن علماءها كانوا أول من تعرف على الحجم المذهل للمنطقة المعروفة بـ “خندق ماريانا”، وهي هوة سحيقة تقع في المحيط الهادئ، وتمتد إلى عمق يفوق ارتفاع جبل إيفرست. وقد أُطلِق اسم “تشالنجر دييب” – نسبة للسفينة – على أعمق نقاط هذه الهوة، وهي عبارة عن فجوة مظلمة تقع على عمق 10,929 مترا، وتعج بالأسماك المفلطحة بطيئة الحركة والأوحال الغنية بالطحالب. للمفارقة، وعلى الجانب الآخر تماما من جهود الاستكشاف البشري للكون، أُطْلِقَ اسم السفينة نفسها على مكوك فضاء مشؤوم الطالع، انفجر في الجو بعد أقل من دقيقتين من إطلاقه عام 1986.
بالعودة إلى رحلة “تشالنجر”، سنجد أنها تضمنت توقفات في كل الموانئ التي مرت بالقرب منها تقريبا، من جزر الرأس الأخضر إلى ملبورن مرورا بهونغ كونغ ووصولا إلى يوكوهاما. لكن من كانوا على متنها قضوا الجانب الأكبر من سنوات المهمة في عرض البحر، يعكفون على التسجيل والتوثيق، وهم يحدقون في أفق أزرق لا نهائي. ورغم أن الرحلة بدت طويلة على نحو يستعصي على التصور، فقد كانت حصيلتها – عندما عادت أخيرا إلى المملكة المتحدة في يوم ربيعي من أيام مايو/أيار 1876 – مجموعة كبيرة من المواد العلمية، التي لا تزال حتى اليوم، تحدد طبيعة فهمنا للحياة في البحار والمحيطات.
غير أن هذه المهمة مثلّت ما هو أكثر من قفزة هائلة للباحثين في مجال دراسة المحيطات. فقد شكلت – على المدى البعيد – رحلة تحتفي بالمحيطات وأهميتها، وخطوة سلطت الضوء، على ما يمكن أن يناله المرء من مكافآت وجوائز، إذا تحلى بصبر يكفي للقيام برحلة بحرية طويلة.
وحول هذه الرحلة، ألف الكاتب دوغ ماكدوغُل، كتابا حمل عنوان “الطُرَفْ اللا نهائية للاهتمام الاستثنائي: رحلة السفينة `إتش إم إس تشالنجر` ومولد علم المحيطات الحديث”. وأدرج في الكتاب سطورا خطّها أحد أفراد الطاقم ويُدعى جورج كامبل. وتقدم لنا هذه السطور، سببا محتملا يفسر لماذا يبدو ذاك التمثال، الذي جاب البحار والمحيطات مع السفينة قبل أن يقبع الآن ساكنا في ساوثامبتون، وكأنه يحدق بجدية وانتباه شديديْن، للأفق الممتد أمامه.
ففي سطوره، يروي كامبل..
كيف كانت المياه في الليلة الرابعة عشرة للرحلة، فسفورية الطابع إلى أقصى حد ممكن، وعلى نحو لم يتكرر خلال المهمة كلها. وأدى ذلك، وفقا لما كتب، إلى أن تتوهج أضواء؛ تتنوع ألوانها ما بين الأزرق والأخضر الزمردي، فوق الجزء الخلفي من السفينة، الذي تألقت حوله كذلك، شرارات صفراء اللون هنا وهناك.
أما المياه الواقعة قبالة مقدمة السفينة، فقد كساها – كما قال الرجل – ضوء ساطع، على نحو كان كافيا لأن يقرأ المرء على هديه – ودون عناء يُذكر – رسالة كُتِبَت بحروف شديدة الصغر.
وخَلُصَ كامبل للقول في النهاية:
“بدا المشهد وكأن مجرة درب التبانة، التي تبدو للمرء عبر التليسكوب كما لو كانت ملايين من ذرات الغبار المتلألئ، قد سقطت على مياه المحيط، وبتنا نبحر من خلالها أيضا”.