الرسم العراقي: انحياز أكاديمي في رؤية الطبيعة
[wpcc-script type=”11be4b18d8b3101ec4f87210-text/javascript”]

دائما ما كانت الطبيعة مصدر إلهام للرسام، نظرا لما تتميز به من سمات أبرزها الهدوء الذي بات يفتقده الإنسان في المدن، التي عادة ما تختنق بالضجيج والأصوات المرتفعة، إضافة إلى تلوث المناخ الاجتماعي بصراعات تبدو مركبة من مشاعر مبعثها الأنانية والحسد والكراهية والأحقاد العنصرية، كل هذه المؤثرات تشكل عوامل ضغط شديدة على نفسية الفنان، ولأن طبيعة عمله تقتضي الهدوء والعزلة والانفصال التام عن المحيط الاجتماعي، ساعة يبدأ في إنجاز ما يخطر في ذهنه ومخيلته من أفكار وصور، لذا تبدو المهمة أمامه متعبة جدا وسط جو متشنج بأصوات متداخلة ومتقاطعة في درجاتها، لن تهدأ أو تتوقف طيلة ساعات الليل والنهار، هذا المناخ المحتقن بصورة تبعث على القلق والاضطراب والتشنج، تدفع الرسام بالتالي إلى أن يلجأ بين فترة وأخرى إلى الطبيعة، باعتبارها ملاذا لروحه الباحثة عن الجمال، يستعيد فيها صفاءه ويمنح مخيلته فرصة التوهج والانطلاق بين ربوعها، وكأنه بذلك يعبر عن توق شديد إلى دفء الأمومة عندما يرتمي بين الحقول، فيشم عطر الورود ويعانق الجداول ويتسلق الجبال ويصعد الأشجار الباسقة.
مواجهة الوحشة
العودة إلى الطبيعة من قبل الفنان العراقي ومعانقتها، لا تعني فقط مواجهة مشاعر الوحشة والاغتراب، التي أمست تلازمه بينما هو محاط بجدران المدينة وكتلها الكونكريتية الصماء، وشوارعها المسكونة بصور الخوف والاحتيال والموت، إنما تشير عودته إلى علاقة تبادلية عميقة بينه وبينها، تحمل بين طياتها إحساسا عاليا بصور الجمال، التي عادة ما يختزن الفنان مفرداتها، وكل شيء قد يستثيره في المحيط الخارجــــي، ويجد في داخله مكنونات جميلة لا تبصرها إلا عيناه النافذتان ومخيلته الجامحة.
والطبيعة في الريف العراقي تتسم بالتنوع، وتحمل الكثير من أسرار الجمال الفطري، ما يصبح مصدر دهشة للرسام، وملاذا أثيرا لتقنياته في الرسم، يجد في سحر ألوانها وتنوع جغرافيتها ميدانا ملهما لقدراته الحرفية، واستفزازا تقنيا، يدفعه إلى أن يتحدى الجمال الطبيعي بإنتاج ما يوازيه من قيم جمالية في لوحته، حسبما يمتلكه من جرأة معبأة في رؤيته وأسلوبيته، غير أنه بقي يستقبل الطبيعة بذائقة فنية لا تخرج عن الظواهر التي أنتجتها المدرستين الواقعية والانطباعية، على العكس مما انساق إليه فنانو تيارات الحداثة في تفاعلهم مع الطبيعة، حيث اندرجت وجهات نظرهم إلى استراتيجية شاملة تتقاطع مع التماثل وتتكهن بتأسيسات جديدة تلتقي مع الضرورات الحياتية في مجتمعات تشهد تحولات فكرية، ولعل التكعيبية من وجهة نظرنا كانت أكثر وضوحا في تمردها العارم على الرؤية الكلاسيكية للطبيعية، عندما أخذت بها بعيدا عن ما تراه عين الرسام، فقد تعاملوا معها بأفكارهم، لأن سعيهم الفني كان القصد منه الوصول باللوحة إلى أن تعبر عن جوهر الموضوع بأشكال تعكسها أفكارهم، ولهذا بدت الطبيعة في لوحاتهم بخطوطها وأشكالها مستقلة تماما عن الطبيعة، وتعكس جمالها الخاص في شكلها الخاص.
تجليات الرواد
في معرض جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين الذي أقيم في النصف الثاني من شهر يونيو/حزيران 2019 تحت عنوان (طبيعة عراقية) يبدو تأثير المدارس الأوروبية الحديثة واضحا، ولكن محدودية الأساليب التي تعامل بها الفنانون لا تشير إلى انفتاح جريء على المرجعيات الأسلوبية التي أفرزتها المدارس الحديثة وما بعدها بقدر ما هيمنت اتجاهات معينة مثل الانطباعية والواقعية التعبيرية على مجمل الأعمال التي ضمها المعرض، والتي شارك فيها عدد كبير جدا من الرسامين الذين ينتمون إلى أجيال فنية مختلفة، وهذا يعني أننا لم نجد محاولات مغايرة في بنية الخطاب البصري إن صح التعبير، للأخذ بمشهد الطبيعة إلى مناطق من الاشتغال الفني تفتح أمامه آفاقا فنية جديدة، تكشف عن جدلية العلاقة القائمة بين الطبيعة وأسلوب الفنان، وينسحب ذلك حتى مع الخامات التي يستخدمها في الرسم. فمنذ تجربة الرواد كانت الطبيعة مادة خام أمام الرسام العراقي يعيد تشكيلها وفق رؤيته، ومن خلال لوحته يسعى لأن يعبر عن إمكاناته الذاتية في إعادة اكتشاف الجمال بوحي من مخيلته، وبما يمتلكه من تقنيات في معالجة الموضوع الماثل أمامه، فالمهم بالنسبة للرسام صاحب الرؤية أن لا يبقى أسير الموضوع، كما هو في طبيعته الجمالية الواقعية، بقدر ما يسعى إلى أن يشكل عالمه الخاص من وحي المثيرات الخارجية، ولأجل أن يصل إلى ما يبتغيه عليه أن يعثر على الزاوية الخاصة التي يرى فيها الطبيعة/ الموضوع بالشكل الذي تتكشف رؤيته الذاتية من خلالها، إلى جانب أن زاوية الرؤية تمنحه مساحة من الحرية في إنشاء لوحته التي تحمل قيما جمالية تنفرد بها، حتى إن كانت الطبيعة بكل ما تحمله من جمال هي المصدر الواقعي لها. وإذا ما تأملنا أعمال الرسامين العراقيين في هذا المعرض نجدها مازالت تنحاز إلى حد كبير للأساليب الأكاديمية التي تركها الرواد الأوائل في تلامذتهم أمثال فائق حسن وحافظ الدروبي.
جمال الطبيعة العراقية وتنوعها الجغرافي ما بين الشمال والوسط والجنوب، ينبغي أن لا يكون بمثابة قيد أمام حرية الفنان في أن يجرب اساليب ومدارس فنية حديثة، يتخذ منها منطلقا لمشاكة واستفزاز الذائقة الكلاسيكية.
الطبيعة واختلاف التلقي
جمال الطبيعة العراقية وتنوعها الجغرافي ما بين الشمال والوسط والجنوب، ينبغي أن لا يكون بمثابة قيد أمام حرية الفنان في أن يجرب اساليب ومدارس فنية حديثة، يتخذ منها منطلقا لمشاكة واستفزاز الذائقة الكلاسيكية، ومن الناحية التاريخية كانت الطبيعة مرتكزا أساسيا للرسام العراقي مثلما هي لكل الرسامين في العالم، لكنه وهو يتعامل معها لم ينسق كليا وراء قلقه الفني ليحيل إرهاصاته إلى تجاوز في الأسلوب والمعالجة التقنية، على العكس من ذلك عند ملاحظة تجارب الفنانين الأوروبيين بشكل خاص نجدهم قد أنتجوا لنا مدارس فنية مختلفة ومتنوعة في كيفية تعاملها مع الطبيعة، وبقية المفردات الواقعية، لنكون أمام الانطباعية والتجريدية وكل مدارس الحداثة وما بعد الحداثة. بمعنى أن الطبيعة وعلى الرغم من أنها كانت الحافز الأول الذي استثار مخيلة وقدرات الرسام العراقي، إلا أنها لم تكن القاعدة التي استند إليها للذهاب في سياق الحداثة ومنجزاتها الأسلوبية، إنما كانت أسباب خروجه من الأطر الكلاسيكية، وتمرده عليها باتجاه المناطق الفنية التي تتحرك وفق اشتغالات التجريد، تكمن في محاولة اقتفاء التجارب الغربية واستنساخ قصدياتها في اكتشاف ممكنات فنية تضع الفنان أمام فرص جديدة لخلق وابتكار علاقات جديدة بين الأشياء الواقعية عندما ينقلها إلى اللوحة، ورغم ملاحظتنا هذه إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن تلقي جمال الطبيعة لدى الرسام العراقي يختلف من فنان إلى آخر، وهذا ما يبدو واضحا في معرض الجمعية لهذا العام، من حيث انعكاس جمالها في الوعي وفي المخيلة. والاختلاف في التلقي أمر طبيعي، مرجعه التباين في ذوات الفنانين المشاركين والروافد الثقافية، التي عادة ما تتشكل منها ذواتهم، خاصة أنهم قدموا من بيئات جغرافية مختلفة بشكل واضح، فالطبيعة التي تحيط الرسام القادم من الموصل مثل خليف محمود، أو منهل الدباغ تختلف عن التي يحيا بظلها الرسام غسان داؤود القادم من مدينة الكوت في وسط العراق، إضافة إلى اختلاف الرؤى والتطلعات الفلسفية التي ينظر كل واحد منهم إلى هذه الطبيعة من خلالها، وعلى ذلك تجلت النتائج في أعمالهم، فهناك من وجد نفسه مهووسا في رسم التفاصيل الصغيرة بشكل دقيق، في محاولة منه لتحدي هذا الجمال الطبيعي، والوصول باللوحة إلى لحظة أشبه بأن تكون تلقائية ومترفة بغنى تفاصيلها. بينما وجد آخرون في تعاملهم مع الطبيعة نقطة ارتكاز لإيجاد علاقات لونية تعتمد على قوة وليونة ضربات الفرشات من غير الانشغال في إيجاد مقاربة واقعية مع الطبيعية، إنما تجلى سعيهم الفني إلى تفريغ اللحظة الشعورية على اللوحة، لتعكس مشهدا غير مرئي يتشكل حضوره في ذات الفنان، وهناك من أجهــــزوا على العـــلاقات القائمــــة بين الفـــنان والطبيعة، وبدلا من تجسيم الكتل انحازوا إلى تأكيد حدة الألوان، فكانت الأولوية لديهم قائمة في التركيز على طبيعة العلاقات البنائية بين مفردات اللوحة، وكأنهم قصدوا أن يخلقوا فسحة ذاتية لإفراغ انفعالاتهم في اللون والخط.
٭ كاتب عراقي