الروائية المصرية سهير المصادفة… الروايات الكبرى ذات هوية إنسانية وهي التي تلهم الواقع وليس العكس
[wpcc-script type=”ff1ab972676a170f52f1c225-text/javascript”]

الرواية هي فن السرد الأكثر انتشارا اليوم والأكبر جماهيرية؛ سواء في سوق الكتاب أو في الإعلام بكل وسائله، ومع سيادة الرواية ظهرت أسماء عديدة على المستوى العربي والدولي، تميزت بأعمال روائية جديدة لها خصوصيتها في التجربة والطرح ومن هذه الأسماء الروائية والمترجمة المصرية سهير المصادفة، التي صدرت لها مجموعة أعمال كان آخرها «لعنة ميت رهينة» توجهنا للحديث معها في حوار يكشف عن أهم قضايا الكتابة وحساسية تعامل الكاتبة مع مشاريعها الإبداعية
■ بداية .. ماذا عن النشأة والكتابة؟
□ كانت النشأة الأولى في أسرة من الأسر المصرية التي كافحت طويلا لتعلم بناتها، كنت محظوظة بأب مستنير، صوفي وقارئ عظيم للتراث وأم غير متعلمة، ولكنها كانت تريد تحقيق أحلامها بأن تتعلم بناتها ويستقللن ماديا ويرين العالم. أما الموهبة فظهرت بالقراءة المبكرة، والتفوق الدراسي بمحبة الشعر في المدرسة الإعدادية. كتبت الشعر في سن مبكرة، وألقيته في الإذاعة المدرسية، ثم اكتشفت واكتشف مَن حولي أنني أبدل في نهايات الحكايات التي تُحكى لي أو الأفلام أو أؤلف أنا الحواديت قائلة إنني سمعتها هكذا، ثم بدأت من لحظتها أكتب بدون توقف.
■ فيما تتمثل هوية الكتابة عندك .. في اللغة أو المكان؟
□ كلاهما، اللغة والمكان، روايتي الجديدة التي أراجعها قبل نشرها قريبا تجيب عن هذا السؤال الذي أرقني أيضا قبل كتابة «لعنة ميت رهينة». اللغة والمكان مرتبطان لتشكيل الهوية بطريقة تذهل المرء، تدور رأسي عندما أفكر في لغات الكرة الأرضية، لغات بلدانها، ثم لغات مناطقها المحلية النائية الدارجة، حاولت كل الدول قديما وحديثّا الاكتفاء بالمكان كمحدد للهوية، حيث إن اللغات يسهل تعلمها، ولكن ظلت الحيرة تخيم على هذه المحاولات، مثلا محاولة تذويب أمريكا لكل جنسيات الأرض في هوية جديدة، نعم، نجحت، ولكنك وأنت في أمريكا ستجد لغة الأفارقة الإنكليزية وإشاراتهم مختلفة تماما عن لغة البولنديين أو الجالية العربية، ولحظتها سيتبادر إلى ذهنك فورا سؤال الهوية، وهل هم بالفعل أمريكان؟ أم أن هويتهم الأصلية تبحث عن مكانها لتنتفي هذه الحيرة. من ناحية أخرى كل رواية تفرض عليّ أسلوبها بناء على مكانها وزمانها وشخوصها، واللغة جزء لا يتجزأ من الأسلوب والأجواء، وفضاء الرواية يقترح اللغة، أظل أتأمل أوّل جملة من عملي الجديد طويلا، أهرب منها وأحاول إعادة كتابتها بأكثر من طريقة، ولكنني في النهاية أرضخ لسطوتها حين أعرف أنها مفتاح الرواية وملهمتي، وأنه لا سبيل إلى تغييرها، هذه الجملة/المفتاح تفرض لغة الرواية كلها في ما بعد.
روايتك «لعنة ميت رهينة « التي صدرت مؤخرا تدور أحداثها على أرض كانت أوَّل عاصمة في مصر القديمة بعد وحدة الشمال والجنوب. هل هي عودة لتاريخ منسي أم هو نبش في أسرار التاريخ؟
لا، الرواية هربت من فخ أن تكون رواية تاريخية كما كتبوا عنها، زمن «لعنة ميت رهينة» يدور في اللحظة المعاصرة من تاريخ مصر، ولأنها رواية أجيال فقد امتدت الأحداث منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى عام 2017، حضرت قرية «ميت رهينة» الأثرية في الرواية كبطل لسُكانها الحائرين بين لحظتهم الحاضرة المشوشة وماضيهم الذهبي الأسطوري الذي يحاولون دائما سرقة آثاره، فيقعون في فوهة الزمان اللامحدد.
ما زلت أصدق كثيرا الشاعر الروسي رسول حمزاتوف حين قال: «إذا لم نر المؤلف في أثره الأدبي فكأننا نرى حصانا يعدو بدون فارس»، نعم ظلال حياتي في أعمالي الإبداعية، ولكن ليست حياتي نفسها.
■ وامتداد التاريخ في الحاضر ماذا يضيف؟
□ تكون عقدة الرواية أحيانا أن التاريخ غير ممتد في الحاضر، ففي مصر مثلا أو اليونان، كأصحاب حضارات عريقة ومدهشة حدث انقطاع في امتداد التاريخ، وتعثر كلاهما الآن في اللحظة المعاصرة، مثلا أنظر إلى مصر صاحبة معجزة الهرم الأكبر الهندسية، وانظر إلى عماراتها الآن! أتأمل منحوتاتها الحضارية مثل رمسيس الأوّل وأقارنه على الرغم مني بميادينها الراهنة، في «لعنة ميت رهينة» يريدون نهب تراث أجدادهم، وهم يتساءلون مثلي تماما: لماذا لم نكن امتدادا لهذا الجمال؟
■ وهل يمكن أن تبوحي بأسرارك الحياتية في عمل روائي؟
□ ما زلت أصدق كثيرا الشاعر الروسي رسول حمزاتوف حين قال: «إذا لم نر المؤلف في أثره الأدبي فكأننا نرى حصانا يعدو بدون فارس»، نعم ظلال حياتي في أعمالي الإبداعية، ولكن ليست حياتي نفسها، وأظن أن الروايات التي قرأتها مؤخرا وكانت معنية بفضح حيوات أصحابها السرّية لم تكن جيدة ولم تعجبني، فحياة الكُتاب إذا لم تكن صالحة للكتابة لفقر أحداثها تكون بالفعل كارثية، أظن أيضا أن الرواية أكبر من مجموعة أسرار أو بوح أو حتى عدد من الحكايات، الرواية خلق عالم كامل مواز لهذا العالم.
■ وماذا عن الاحتفاء بالجسد في أعمالك؟
□ الجسد هو الموضوع وهو الرحلة وهو مفجر الأحداث لأنه ببساطة هو مرآة الروح الوحيدة التي نعرف أثناء حياتنا، بالجسد نكتب ونصلي ونحب ونكره ونثور ونحارب ونعاني، إذا ما فقدنا منه ساقا أو ذراعا أثناء حروبنا، الجسد أيضا التجلي الأكثر وضوحا للنفس البشرية الشائكة والمركبة والمعقدة والغامضة، في بعض الثقافات ومنها بعض الثقافات الشرقية، يتم تحقير الجسد وإهانته في سبيل الإعلاء من الروح، وفي بعضها الآخر يتم الاحتفاء بالجسد والصعود به إلى مراتب عليا بناء على فكرة أنه هو السكن الوحيد للروح، ولن تسكن الروح سواه، وهذه الثقافات والتجليات المتنوعة للتعامل مع الجسد تظهر كلها في رواياتي.
■ وهل يعطل الرقيب الذاتي عملية الإبداع عند المبدع؟
□ بالنسبة إليَّ، لا أظن، فأنا اعتدت الصراع مع هذا الرقيب منذ سن مبكرة، نعم كنت أخفي أوراقي لأكتب بحرية كاملة، ونعم تعذبت كثيرا وأنا أعيش في زحام عائلة كبيرة، ولكنني كنت أنجح، كانت عائلتي عادة تفاجأ بأعمالي مطبوعة، لم يكن أمامي وسيلة أخرى، ولكن وبعد نشر روايتي الأولى: «لهو الأبالسة»، واجهني أبي بعد قراءتها بدهشة حقيقية: «أنتِ الهادئة الخجول يخرج منكِ كل ذلك؟» ولكنني لمحت أيضا على وجهه ابتسامة فخر يحاول إخفاءها، ومن يومها وأنا أحاول التملص من الرقيب الداخلي بالطريقة نفسها.
■ ما هي الإجابات والبدائل المطروحة لما هو سائد في الواقع أمام أسئلة الرواية؟
□ بدائل الواقع وإجاباته ليس من المفترض أن تجيب عن أسئلة الرواية، فالرواية بذاتها عالم مخلوق قد يكون بطينة الواقع، ولكنه مختلف عنه وسابق له، الروايات الكبرى الجيدة هي التي تلهم الواقع وليس العكس، هي التي تفتح له آفاقا ليفكر ويتحرك بطريقة مختلفة وبشكل أسرع، عندما نتأمل المنجز الروائي المكتوب عن فترة الأبارتيد، نندهش أنه لم ينطلق من أسئلة الواقع، ولا من إمكانية طرح الواقع لبدائل، وإنما انطلق في معظمه من حقيقة أن الزنوج بشر ولديهم مشاعر وبواطن عبقرية ربما تفوق العرق الأبيض الذي يتاجر فيهم بيعا وشراء، كان الواقع يطرح الأمر كأحد المستحيلات، فالاقتصاد والبنية الاجتماعية آنذاك ورأي أكثرية من العبيد أنفسهم لا توافق على هذا التحرر، حيث إنهم لم يعرفوا حياة سوى الحياة التي عاشوها، ولكن الأدب والفلسفة اقترحوا بدائل وأوصلوها إلى أن يحكم أمريكا نفسها رئيسا من أصل إفريقي، وقد كان.
الجوائز الأدبية مهمة جدّا للكاتب أولا وللقارئ ثانية، فهي تؤدي في الغرب إلى احتراف الروائي للكتابة، وتفرغه التام لها، كما أنها دليل للقارئ ليتعرف إلى الأهم في الإصدارات الجديدة.
■ هاجس البحث عن هوية الرواية التي يكتبها كُتاب عرب كيف ترينه؟
□ معجزة الرواية أن هويتها إنسانية، فلا توجد هوية عربية أو إسبانية أو إنكليزية، بل يوجد أسلوب ومرجعيات سردية كبرى وأسماء تشير إلى موقع أحداث الرواية، والقارئ بعد عدّة سطور ينسى كل شيء عن الأسماء والمرجعيات التي تصير يوما بعد يوم عالمية ولا تخص هوية بعينها، ويحب شخوص الرواية ويهيأ له أنها تشبهه، فماركيز مثلا الكاتب الكولومبي يكتشف باحثو ونقاد الأدب أن مرجعيته الأولى في السرد هي الحكايات العربية ألف ليلة وليلة، كما أن شاعر روسيا الأشهر بوشكين نكتشف أنه تأثر كثيرا بلغة وأسلوب التراث الديني الإسلامي، وتستطيع أن تجد كذلك أصداء كافكا وتشيخوف في عدد غير قليل من القصص القصيرة المصرية والعربية، أظن أن الرواية الجيدة والكبرى هويتها إنسانية.
■ ما رأيك في الاحتفاء المبالغ فيه بالكم اللامحدود من الإنتاج الروائي الأسبوعي والشهري والنصف سنوي وربما يصبح يوميا بعد هذا؟
□ ظاهرة صحية للرواية، ومع ذلك العرب يصدرون أقل عدد ممكن من الروايات سنويّا، فأقل دولة غربية تصدر روايات أكثر كثيرا من العالم العربي مجتمعا، ولكن ولأن الغرب يسبقنا في صناعة الكتاب والصناعات الثقافية بشكل عام، ومنها صناعة شهرة الكاتب بآليات حفلات التوقيع والأكثر مبيعا والجوائز، فهو منتبه أن تكون صناعته حقيقية وذات جودة عالية، وبناء عليه وكما في ماراثون العداء هو لا يحتفي بالكاتب الكسيح الأقل موهبة ليمنحه الجوائز ويصدره إلى الخارج، بل هي محطات شديدة التعقيد لتصعيد كاتب يستطيعون المراهنة عليه في المشهد الأدبي العالمي، ويدفعون غاليّا حتى يكون موجودا ومعبرا عن صوتهم، وبقية الروايات التي تصدر كل عام تمثل نهرا متدفقا يجب السير فيه من أجل الوصول، أما نحن فلقد أفسد أداؤنا وفهمنا للأمر هذه الآليات.
■ وما رأيك في الجوائز التي تقدم للرواية بشكل خاص وانتشارها بشكل لافت؟ ماذا أضافت؟
□ الجوائز الأدبية مهمة جدّا للكاتب أولا وللقارئ ثانية، فهي تؤدي في الغرب إلى احتراف الروائي للكتابة، وتفرغه التام لها، كما أنها دليل للقارئ ليتعرف إلى الأهم في الإصدارات الجديدة، بشرط أن تكون هذه الجوائز ذات مصداقية كبرى، وسمعة طيبة، كما أنه من الطبيعي أيضا أن يكون نصيب الجوائز للرواية كبيرا، فهي على أي حال الأغزر إنتاجا ومقروئية في العالم ، ولذلك تعتبر جزءا من صناعة النشر الثقيل.