نتابع الحديث الذي بدأناه حول العذاب الذي يصيب الناس، ودور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درء العذاب العام، بعد أن استعرضنا الأدلة من عدم وقوع العذاب على المصلحين…
فهذه وغيرها أدلة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لمنع العذاب العام، فإذا قيل فما بال القرى ترتجف فيهلك فيها الصالح والطالح، أجيب بأن الصالح لا يلزم أن يكون مصلحاً، وإن كان صالحاً، فإن تركه الأمر والنهي قد يكون معصية لا ترفع عنه وصف مطلق الصلاح، وبخاصة مع تأوله وتركه الهجرة، ولهذا قال: عمر بن عبد العزيز كان يقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم(1). قال أبو الوليد الباجي: “يريد قول الله _عز وجل_: “وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” [الأنعام:164 وغير آية]، وقوله _رضي الله عنه_ ولكن إذا عمل المنكر جهاراً يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله، إلا أن يكون المنكر له مستضعفاً لا يقدر على شيء فينكره بقلبه فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحشر على نيته”(2).
وقال ابن العربي في قول الله _تعالى_: “وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً” [الأنفال:25]: “وتحقيق القول في ذلك أن الله قال: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ” [البقرة:286]. وقال: “وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” [الأنعام:164 وغير آية]، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاص؛ هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله”(3).
ثم إنه ربما قام بعضهم بالأمر والنهي ولكن قام بهم مانع يحول دون تحقق وصف الصلاح أو الإصلاح فيهم، وإن خفي هذا على البشر فليس بخاف على الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وقد يكون السبب المانع من العذاب قائماً متحققاً كأن يكون الأمر بالمعروف لا يكل عنه المصلحون، والنهي عن المنكر لا يمل منه الطيبون، ومع ذلك ينزل الله العذاب، فيكون هذا من قبيل تخلف النتيجة مع تحقق السبب بقدر الله وأمره لاقتضاء الحكمة له في ذلك الموطن، كتخلف الولد على الرغم من حصول سببه وهو الزواج، ونحو ذلك مما هو مخالف للأصل، فيقدر بقدره.
والأصل هو أن الإصلاح من أسباب نجاة الداعين، وتقليل خبث المخبثين، وتأخير العقوبة عن عامة الناس أجمعين.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يستجب لصاحبه فقد يكون سبباً لإكرام الله له بالنجاة عند حلول العذاب.
ويمكن تقسيم تعلق النجاة بالأمر والنهي؛ بالعرف وعن النُكر إلى أقسام:
– فإن وضع المصلحون المعروف ورفعوا المنكر بأمرهم ونهيهم، سلموا وسلم الناس جميعاً.
– وإن تركوا الأمر والنهي هلكوا وهلك الناس، ومثال صورة هذين الفريقين هي المذكور في حديث السفينة؛ حديث النعمان بن بشير في الصحيح والذي قال فيه النبي _صلى الله عليه وسلم_: “مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك! قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء! فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم”(4).
– فإن أمروا ونهوا وبذلوا ما في وسعهم فلم يستجب لهم، ففارقوا قومهم وفاصلوهم، كما فعل كثير من أنبياء الله قبل حلول العذاب بأقوامهم، حينها تكون المفاصلة نجاة لهم، كما كانت نجاة لأنبياء الله ورسله، وعندها يكون البقاء محرما لوجوب الهجرة، وهذا المعنى يمكن انتزاعه من حديث السفينة فقد ضربت صورة للمسألة وبُيّن المآل لاحتمالين، وسكت عن تبين المآل فيما إذا لو حاول الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الأخذ بأيدي الواقعين في محارم الله فلم ينتهوا وأصروا على الخرق بالوقوع في المحارم، فهنا يتعين على الآمرين والناهين المفارقة لينجو بأنفسهم قبل أن يدركهم الغرق، وقد استدل غير واحد من أهل العلم على وجوب المفارقة إن استشرى الفساد بالآثار المؤذنة بحلول العذاب العام، قال الزرقاني: “وفي الاستذكار هذا يقتضي أنه لا ينبغي المقام بأرض يظهر فيها المنكر ظهورا لا يطاق والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب”(5) ونحوه نقل ابن حجر. أما إن لم يأن أوان المفاصلة فيظل الإنكار والقيام بأمر الله صارفاً للعذاب، قال الله _عز وجل_: “وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون” [الأنفال:33]، ولذا قال ابن عباس _رضي الله عنه_: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي _صلى الله عليه وسلم_، ويخرج المؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا(6).
– وقد يأمر أهل الخير بالمعروف وينهون عن المنكر فلا يستجاب لهم، ويستشري الفساد فلا يمايزون قومهم، وقد يكون هذا بعذر كعدم القدرة على المفارقة مع سعيهم لها، أو بغير عذر غير استمرارهم في الأمر والنهي طمعاً في أن يغير الله حالهم، فيدأبون على ذلك حتى ينزل العذاب، فهؤلاء قد يكرمهم الله بالنجاة وبالأخص إن سعوا في التمايز وبذلوا أسبابه، كما أكرم الله _سبحانه_ موسى وقومه بالمعجزة الباهرة يوم فرق البحر فأنجاهم، ثم أغرق عدوهم ودمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. وقد يأخذهم الله مع الهالكين وبالأخص إن لم يعمدوا إلى مفاصلة قومهم، ولم يسعوا في مفارقتهم، رحمة بهم وتداركاً لهم قبل أن تصلهم يد الباطل المفسدة، ثم يبعثهم على نياتهم، ولعل من لطف الله بعباده المخلصين أنه يقدر لهم في مثل هذه الأحوال ما هو خير لهم فيكتب النجاة لمن كانت الحياة خيراً له، ويقبض إليه من كان قبضه خيراً له.
وبهذا يظهر وجه احتجاج نبي الله الحليم إبراهيم –عليه السلام- على الملائكة بقوله: “إِنَّ فِيهَا لُوطاً” [العنكبوت:32]، أثناء مجادلته عن قوم لوط طمعاً في تأخير العذاب عنهم، فجاءه الجواب: “قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ” [العنكبوت:32].
فكان اعتراضه صحيحاً، ومراده منه تأخير العذاب عن القوم لعلهم يرجعون، كما قال الله _تعالى_ في الآية الأخرى : “فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ” [هود:74-75]، فاعتراضه بلوط كان من أجل قومه، ولهذا قال الله _تعالى_: “يجادلنا في قوم لوط”، فجاءه الرد بأن ما اعترض به لن يناله السوء هو وأهله المؤمنون به، فلم تبق حجة تمنع حلول العذاب بالمفسدين، وفي هذا إقرار لصحة الاعتراض الأول القاضي بمنع إهلاك الأنبياء بعذاب يعمهم وأقوامهم، وكذلك المؤمنين من أتباعهم، وقد أورد أهل التفسير ما يدل على هذا أثناء حكايتهم لمجادلة إبراهيم، ويشهد له ما سبق عن ابن عباس _رضي الله عنهما_.
شبهة عصرية:
إن الزلازل ونحوها آيات كونية يجريها الله لحكم عظيمة وأسباب كثيرة، إلاّ أن بعض الماديين الذين أعرضوا عن آيات الله السمعية، تمادوا فأعرضوا عن الآيات الكونية، فإذا رأى أحدهم كسوفاً أو خسوفاً جلّى أسنانه الصفراء بابتسامة مثلها فرحاً بما عنده من العلم، وبصدق ما تنبأت به أرصاده، ولأنه علم أسبابه.
وهكذا حال بعضهم مع غير الشمس والقمر من الآيات الكونية كالزلازل، فأسبابها عندهم معروفة، كما أن التنبؤ بها ورصدها لم يعد أمراً شاقاً في ظل العلم الحديث.
وقد تجرأ بعضهم فعزى الحوادث الكونية إلى أسبابها التي علمها ثم استطال فقال: إن فكرة الخالق لم تعد ضرورية.
يعني لأجل تفسير الحوادث. وربما كان هذا المنطق حجة على من ينكر قانون الأسباب، أما أهل الإسلام الذين يعلمون أن الله _تعالى_ قد أجرى هذا الكون على نواميس، وجعل النتائج متعلقة بأسبابها، فلا ينبغي أن يرد عليهم هذا، فإذا قال المسلم: إن الله هو الرزاق، فلا يعني ذلك نفيه أسباب الرزق المختلفة.
وكذلك إذا قالوا الزلازل أو البراكين أو الخسوف أو الكسوف آيات يخوف الله بها عباده، أو أنها من خلقه فلا يلزم من ذلك أن لا يكون له سبب أو قانون تجري عليه. أما من قصر نظره على السبب فمتى ما وجد أسباباً أو قوانين مطردة تمسك بها، ورفض أن ينسب الفعل إلى ما عداها، وغفل عن مسببها. فهؤلاء في الحقيقة لا يختلفون عن بعض الحمقى الذين وجدوا طفلاً تائهاً في البرية يتحدث بغير لسانهم فلم يفهموا منه شيئاً، فقال بعضهم: هذا خَلْقُ الله! ثم بحذق بعضهم أو بفضل مترجم عابر! تمكنوا من معرفة أباه فاستنتجوا من ذلك أنه ليس له خالق!
وهؤلاء كذلك فجميعهم عزا الأمر الحادث إلى سبب عرف طريقة عمله، وغفل عن أنه يفتقر هو بدوره إلى سبب آخر ينتهي في سلسلة تنتهي عند مسببها الذي أجراها لحكمة ومراد.
وإذا تأملت هذا المذهب وجدت أن له أصولاً قديمة قدم البشرية، فجل الأمم التي أخذها الله بذنوبها، جاء أخذها بعد أن بعث الله إليهم رسله فأنذروهم بالآيات السمعية، ثم بعث عليهم الآيات المرئية في أثر السمعية، فلما لم يرعووا دمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. ولعظم غفلة هؤلاء لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه مقتصرين على قولهم بالأسباب.
ولم يُذكر في القرآن أن الله أنجى قوماً بعد أن رأوا الآية الكونية المرئية إلاّ قوم يونس، قال الله _تعالى_: “فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ” [يونس:98]. فما أعقلهم من قوم آبوا جميعاً ورجعوا إلى ربهم مذعنين عندما رأوا الآية بينما قال غيرهم: “…هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا…” [الأحقاف:24].
قد يتعجب المرء! ما بال أولئك المكذبين؟ أليست لهم عقول؟ أولا يرون الآيات؟ فما بالهم لا يتعظون ولا يرجعون؟! أيُعقل أن يرى فرعون تسع آيات ثم يصر مستكبراً؟ ألا يَعقِل؟
والجواب بلى كانت لهم عقول، وكانت لهم حضارة، وكانت لهم علوم، ولكنهم اغتروا بها فاقتصر نظرهم على الأسباب القريبة ولم يتعده إلى مسبباتها وحقائقها وما ورائها، وتأمل معي قول العزيز الحكيم: “وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ” [غافر:81-85].
نعم قد سمعوا بالآيات التي نزلت بالأمم كما سمعنا بها، ورأوها كما شهدناها، وعلموا أن الهالكين أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض كما علمنا، وفوق ذلك كله قد جاءتهم الرسل بالبينات كما جاءتنا، ولكن؟
“فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ” (غافر: من الآية83) فكانت النتيجة الطبيعية “وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ” (غافر: من الآية83)، وعندها استفاقوا: “فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ”.
لقد كانوا يرون الآيات ولكن ما عندهم من العلم قادهم إلى بطر الحق، فإذا رأوا عارضاً في أفق من آفاق السماء، قالوا: هذا عارض ممطرنا. ومن أهلكوا بالريح، غضبت عليهم الطبيعة! وفق علومهم إثر تقلبات جوية، سببتها تخلخلات في الضغوطات الجوية بفعل تغيرات في السخونة والبرودة. وهكذا تنتهي الآية فلا ينظر عاقل في مسبب الأمر وموقته ومدبره، _سبحانه وتعالى_!
بل من أصبح على فراشه ميتاً حتف أنفه بغير علة فموته موت طبيعي! ومن أهلك بالريح العقيم مات موتاً طبيعياً أيضاً!
كان أحدهم يرى الخسوف فيقول من الطبيعي انعكاس ظل الأرض على القمر! وينسى الذي أوجد هذه الطبيعة بعد أن كوكب الكواكب وأجراها على ناموس مطرد فلا يتساءل من أوجده؟ وما باله اضطرب هنا، ولماذا؟
وإذا أُهلك قوم بالطوفان، ورأوا الآية فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: هزة أرضية ناجمة عن تخلخل للصفائح في قعر المحيط أدى إلى ارتفاع مد البحر، وتنتهي القضية دون نظر إلى من أوجد تلك الصحائف وأرساها وجعل بها صدوعاً في ذلك المكان ودون اعتناء بأمر من أمر تلك الصحائف أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت! فتلك سنة الله التي خلت في عباده تجري اليوم في هؤلاء.
فإذا تساءلت عن كل تلك العوارض وقلت: من المسبب لتلك الأسباب، وما هي الحكمة وراء تسبيبها، يخرس متفلسفة كل عصر، وينطق العجاج، من عاصر الجاهلية الأولى ثم منّ الله عليه بالإسلام:
الحمد لله الذي استَقَلَّتْ | بإذنه السماءُ واطمأنتْ |
بإذنه الأرض فما تَعَنَّتْ | وَحَّى لها القرارَ فاستقرتْ |
وشَدَّها بالراسيات الثُبَّتْ | رَبُّ العبادِ والبلادِ القُنَّتْ |
لقد رأى فرعون طوفان النهر أو البحر أحد تسع آيات ذكرت في القرآن فلم يعدها آية، بل ثورة كونية! وفرصة لكيما يطارد أتباع الأنبياء سانحة، ويرى اليوم بعض الناس الزلازل المودية بالألوف والفيضانات والأعاصير، فلا يعدها آيات بل هو غدر الطبيعة القاسي!
ثم يصر على عزو الحوادث إلى أسباب تفتقر إلى أخرى لا تنتهي إلاّ عند مسببها الغافل عنه، المصر على إنكاره بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا برهان تجريـبي أو عقلي واحد، فليس معه حجة في إنكاره غير الجهل، مع أنه يرى الحوادث تترى، وقد تقرر في ميزان العقول أن كل ما هو جائز الحدوث، من نحو هذه العوارض الأرضية وأسبابها التي يذكرونها، من الممكن أن تكون، ومن الممكن ألا تكون، فكونها جائزة قضى باستواء طرفي الوجود والعدم فيها، فلا يترجح أحد الطرفين فيكون موجوداً أو يكون معدوماً إلاّ بمرجح خارجي ليس بجائز بل هو واجب تختلف صفاته ونعوته عن ما يدركه البشر من الموجودات الجائزة فلا تجري فيه مقاييسهم.
إن المسلم لا ينكر الأسباب والنواميس التي أجراها الله في الكون ولكنه ينكر على بعض القائلين بها اقتصارهم عليها، ونسيانهم لمسببها وجهلهم بحكمته منها، فإن الله قد أجرى الدنيا على قانون الأسباب، فلا يقتضي القول بها إنكار الخالق، ولا يقتضي إثبات الخالق إنكاراً لها.
إن من فرح بما علمه من أسباب كونية وأصر على قصر تفسير الظواهر الأرضية بها فسينتهي به المطاف إلى الحيرة أو الاتكاء على سبب هش لن يجد له مسبباً إلاّ إن أقر بالخالق الرازق المدبر واعترف بعلمه وقدرته ومشيئته، وعلم أنه لا يحيط به علماً.
وعندها حري به أن يلهج بدعاء الأنبياء” سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ”، “لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”.
أسأل الله أن يرفع الضر والبأس عن المسلمين، وأن يتداركهم برحمته فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________
(1) موطأ مالك 2/991 (1799)، والأثر صحيح إلى عمر _رضي الله عنه_ ورجاله ثقات.
(2) المنتقى للباجي 7/316.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2/391.
(4) صحيح البخاري 2/882 برقم (2361).
(5) شرح الموطأ 3/434.
(6) ذكره القرطبي 5/427،وابن كثير 2/306، وأسند ابن جرير في تفسيره 9/273، وقد مر.