بسام ابو شريف
لم يأتي رد فعل الرئيس محمود عباس على الموقف الرسمي الاسرائيلي المعلن ، والذي يرفض حل الدولتين حلاً قاطعاً ، لم يأتي هذا الرد من فراغ.
بل جاء نتيجة تراكم الحقائق والمواقف المعلنة سراً له من قبل غانتس والادارة الامريكية ، هذا التراكم الذي جعله يقتنع ، بأن الحديث عن حل الدولتين هو حديث فارغ من مضمونه وغير مرتبط بخطة عمل او بحسن نية او برغبة حقيقية من الإدارة الامريكية بأن تفعل هذا الحل بغض النظر عن الاشكال المختلفة الذي قد يتخذه حل الدولتين كما سبق ان كتبنا وحللنا.
اذا أخذنا مواقف الرئيس محمود عباس منذ بداية عهده حتى الان نرى انها مواقف تراهن على الحل السلمي والعمل الدبلوماسي على انه العمل الذي يستطيع ان يحقق للشعب الفلسطيني أهدافه وآماله في بناء دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
ما قاله الرئيس محمود عباس أمس جاء نتيجة قناعته بعد سلسلة طويلة من التراكمات التي أصابت آماله وأهدافه وسياسته الدبلوماسية بضربات قاصمة أفقدتها في نهاية الأمر وعيها و أوقعتها في غيبوبة دائمة.
لكن الرئيس محمود عباس كقائد لعب دوراً تاريخياً في مسيرة الشعب الفلسطيني، لا يمكن ان يترك الأمر هكذا، فهو رجل متمسك بأهداف الشعب الفلسطيني وحقه في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، لكن هذه الظروف التي نمر بها الآن ، لطمت الرئيس محمود عباس أكثر من لطمة لدرجة أنه أيقن ان ما يراهن عليه وحسن النية التي أبداها ومراهنته على الإدارة الأمريكية واللجنة الرباعية والموقف الأوروبي ، كل ذلك ذهب هباء منثوراً نتيجة رضوخ كل هذه الجهات للموقف الصهيوني الذي لم يحد لحظة واحدة عن أهدافه وهي إبتلاع الأرض الفلسطينية واستنادا لهذه القاعدة الاستيطانية العنصرية على أرض فلسطين من أجل الهيمنة على المنطقة بأسرها.
كذلك أيقن الرئيس محمود عباس أن المبادرة العربية والموقف العربي سواء تمثل ذلك في قرارات الجامعة العربية او في قرارات الدول التي تتحكم بالجامعة العربية الآن، هي أيضاً كلام يذهب هباء منثوراً لأن النتيجة كانت هي الهرولة نحو التطبيع والخضوع لمعادلة بنيامين نتنياهو وهي القوة التي تجلب السلام ، أي أن السيطرة الإسرائيلية بقوتها المتفوقة هي التي ستجلب كل هذه الأنظمة طواعية أو مجبرة للسير خلف النظام العنصري الصهيوني للتحكم في المنطقة بأسرها وهذا يعني …
ان هدف الصهيونية من تمزيق الأمة العربية وتشتيت قواها وإبتلاع ثرواتها بقيت هي الأهداف الاساسية للحركة الصهيونية وما سحق القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني الا لبناء منطلق ومنصة ينطلق منها هذا النظام العنصري المدجج بالسلاح للسيطرة على كل ثروات المنطقة وتمزيق الأمة العربية والإسلام السياسي أو الاسلام غير السياسي.
لكن علينا ان نقول الكلام بصراحة ففي الوقت الذي نقر فيه ان نية الرئيس محمود عباس هو خدمة اهداف الشعب الفلسطيني قد اصيبت بضربات قاتلة أدت بها الى غيبوبة دائمة ، هذا القول يجب ان يضاف له قولًُ آخر ، وهو ان ما طرحه الرئيس محمود عباس من خيارات بديلة امام الشعب الفلسطيني رغم صحتها النظرية ، أي قرار التقسيم الخاص بالعام 1947 في الوقت الذي شكل شهادة ميلاد دولة للعدو الصهيوني وأيضاً شكل شهادة ميلاد للدولة الفلسطينية ، وأعطى تلك الدولة مناطق حساسة تطل على البحر الأبيض المتوسط كيافا وغيرها من المناطق ، ولكن الصهيوينة التهمت الوثيقتين ، وثيقة ميلادها ووثيقة ميلاد الدولة الفلسطينية لتشكل دولتها الصهيونية.
هذه هي الترجمة الواقعية العملية التي سعت القوى الاستعمارية والصهيونية لتنفيذها على الأرض وليس ما أقرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
إذن قول الرئيس محمود عباس حول قرار التقسيم يجب ان يراعي هذه الحقيقية قبل الشروع فيها وان يعلم ان تنفيذ قرارات الأمم المتحدة كلها سواء قرارات مجلس الأمن او الجمعية العمومية للأمم المتحدة تتطلب ميزان قوى لفرضها على الأرض وتنفيذها وليس ميزان قول او نشاط دبلوماسي معزول عن ميزان القوى.
وطرح الرئيس محمود عباس حل الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين التاريخية وهو الحل الذي بدأت الثورة الفلسطينية بطرحه في العام 1965 لا بل في العام 1964 ، وهذا برأيي نظرياً هو الحل الوحيد القابل للحياة أي ان تكون هنالك فلسطين خالية من العنصرية والطبقة الحاكمة العنصرية بغض النظر عربية كانت او يهودية ، وان يكون مواطنو هذه الدولة متساوون في الحق والواجبات وان تكون ديمقراطية حقيقية ، وهذا أيضا حتى يصبح أمراً واقعاً حقيقياً وفعلياً عليه ان يستند لميزان قوى ، ليس ميزاناً محلياً فقط، بل ميزان قوى إقليمي ودولي يصر على إقامة مثل هذا المجتمع الديمقراطي حيث تتساوى كل القوى بالحقوق والواجبات.
كذلك علينا أن نكون صريحين مع الرئيس محمود عباس ، واننا نقول له اننا نؤيد كل كلمة قالها ، لأنها تعني إعلان هزيمة كل المفاوضات السابقة والمراهنة عليها وإعلان الغاء كل الاتفاقات السابقة لأنها مجحفة بحق الشعب الفلسطيني ولا تتضمن أية آلية لتنفيذ ما هو مفيد ولصالح الفلسطينيين بل تعطي المجال واسعاً للعدو الصهيوني لفعل ما يريد وخلق حقائق على الأرض لا تؤدي الا للسيطرة الكاملة للصهيونية على أرض فلسطين وسمائها ومائها وحدودها.
من هذا ننطلق لنقول ان الرئيس محمود عباس اذا اقتنع فعلاً بأن الإدارة الأمريكية من خلال تصريحاتها العلنية الأخيرة والتي مثلها ولخصها وزير الخارجية بقوله لا وقت لدينا للعمل وتفعيل عملية السلام في الشرق الأوسط ونحن نؤيد حل الدولتين ولكنه بعيد وصعب المنال ، اذا استند لهذا القول وما باح به له مباشرة غانتس الوزير المتنفذ في وزارة بينيت ، اذا استند والذي أعلمه مختلف تماماً معه أيدولوجياً أي انه لا يوافق على حل الدولتين وان السيادة المفروضة على كامل أرض فلسطين هي الحل الذي يراه هو ومجموعته حلاً مناسباً.
اذا اقتنع الرئيس محمود عباس بأن هذه هي المواقف الحقيقية والفعلية للذين راهن عليهم للتغير دبلوماسياً وسياسياً ، فإن عليه ان يكون في طرحه ليس من باب التلويح والاشهار او الانذار بل من باب التخطيط والعمل الفعلي على تحقيق أهداف تلك الخيارات.
اقامة مجتمع ديمقراطي على كامل التراب الفلسطيني تتطلب ميزان قوى ، تتطلب اجتثاث العنصرية من جذورها في فلسطين ، وما العنصرية في فلسطين الا ما تجسده الحركة الصهيونية وطبقاتها الحاكمة والمافيا المالية الاقتصادية اليهودية التي تستخدم هذه القاعدة ملاذاً لكل العمليات غير المشروعة والشرعية عالمياً ومحلياً واقليمياً ،فمحلياً هي فهي تسلب حق شعبٌ بأكمله في الحياة وتقرير مصيره وهي التي تسيم هذا الشعب عذاباً قياماً قعوداً كل يوم من الفجر الى النجر وهي التي تأسر من هذا الشعب ما بلغ عدده حتى الان ، كل الشعب، اذا حسبنا بشكل دوري من اعتقلتهم اسرائيل منذ قيامها حتى الان ، سنجد ان إسرائيل إعتقلت كل الشعب الفلسطيني وأدخلته السجون على مدى حياتها القصيرة.
لكن في واقع الحال سواء كانوا في الزنازين ام خارجها فإن هذا الشعب أسير منذ العام 1948 للعصابة الصهيونية العنصرية التي تتوسع بإستمرار وأصبحت تسيطر على كامل التراب الفلسطيني بغض النظر عن وجود السلطة الفلسطينية المجبرة ان تكون خادمة للإحتلال بالتنسيق والتعاون وبالخضوع لإملاءات العدو الصهيوني التي حول فيها بقرارات من الكنيست كل اعتداء على الشعب الفلسطيني قانوناً ساري المفعول.
القصد هنا ان نقول، هذا التغير ليس ميدان الانذار او التحذير او اللهو بالكلام.
هذا التغيير مطلوب بالفعل نتيجة التراكم العملي لجرائم العدو الصهيوني وابتلاعه الأرض الفلسطينية قضمة قضمة ، وانطلاقه للهيمنة على المنطقة عبر تطبيع مع أنظمة حُكمت لتحكم لصالح الامبريالية والصهيونية وتتيح المجال لهما لنهب ثروات الأمة بأسرها.
الخيار هذا سوف يعني ان الشعب الفلسطيني لن يكون وحده في المعركة ، بل عليه ان يخوض المعركة متحالفاً ومنسقاً ومتلاحماً مع محور المقاومة بكافة فصائله.
اذ لا بديل عن اختيار لون واضح لا رمادياً فيه اما أبيض أو أسود، وكما يقول العراقيين ماكو رمادي لو أبيض لو أسود.
أي ان موضوع الدولة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني ليس موضوعاً للتلويح او للتهويل او للإنذار او للتحذير، بل هو موضوع استراتيجي هام ، وفي الحقيقة من يدرس تجارب التاريخ ومن يستطلع المستقبل لا يرى حلاً على أرض فلسطين سوى حل الدولة الديمقراطية حتى صلاح الدين عندما حرر بيت المقدس كان خياره الدولة الديمقراطية فكل من بقي على أرض فلسطين هو فلسطيني ، سواء أكان أصله من الفرنجة أو غير الفرنجة وصلاح الدين سمح ببقاء من أراد من الفرنجة ان يبقى على أرض فلسطين وتحول الى عائلة فلسطينية وأصبحت الفلسطينية هوية من يعيش على أرض فلسطين بحقوق وواجبات متساوية مع كل الذين يقطنون شعباً وزوراً ومقيمين.
ورفع هذا الشعار يحول استراتيجية منظمة التحرير مرة آخرى الى تلك الاستراتيجية التي تطالب باجتثاث الصهيونية من أرض فلسطين ، وهذا يتطلب آليات مختلفة لكن العنوان الرئيس لجعل هذه الآليات فاعلة وعملية وتحرث ذهاباً وإياياً هو أن تصبح منظمة التحرير الفلسطينية عضواً فاعلاً وأساسياً في محور المقاومة الإقليمية التي تمثله الفصائل التي تتصدى لكل هذه الهجمة الصهيونية الإمبريالية للهيمنة على الشرق الأوسط وابتلاع ثرواته واستعباد شعوبه والأمة العربية وكل من يسكن على أرض العرب.
نعم للرئيس أبو مازن ولكن نعم لأن يتحول كلامه لألية فاعلة وإستراتيجية تسير على عجلات متينة ، هي بناء القوة مرة آخرى، والبدء بمحاصرة الاحتلال من خلال تنمية الحشد الشعبي العارم للتصدي أولاً للمستوطنات والمستوطنين، وثانياً لحماية الأقصى ومنع تهويده وحماية القدس ومنع تهويدها، وثالثاً من خلال التصدي لأي محاولة لبناء أي مستوطنة جديدة على أرض فلسطينية مصادرة في الضفة الغربية ، والاستمرار في العمل الشعبي ضد ما أقيم من مستوطنات اخرى في كل المواقع الاستراتيجية في الضفة الغربية ، الخطوة الأولى اذن في هذه الاستراتيجية هي الانضمام لمحور المقاومة وثانياً تفعيل مخطط شعبي واضح لمحاصرة المستوطنين والمستوطنات وهذا يعني محاصرة الحكومة الإسرائيلية والمافيا التي أعلنت أن السلام هو نتيجة قوة إسرائيل وليس مقابل الأرض.
كاتب وسياسي فلسطيني
Source: Raialyoum.com