السبع العجاف… من رؤيا إلى استعارة متجددة
[wpcc-script type=”af828ea23585eae71d9f3e46-text/javascript”]
لم يكن النبي يوسف عليه السلام، لسانيا عرفانيا حين فسر للملك تلك الرؤيا التي حدثنا عنها القرآن الكريم، بل كان – في اعتقادنا- يتحرك بآليات عمل عرفانية مكنته من تلك القدرة، فبخلاف العناية الإلهية، وما يتميز به من توجيه رباني كان إنسانا محكوما بخلفيات عصره، وثقافة أهله في تلك الفترة، ما جعله يقتنص التجربة الحسية والاجتماعية والثقافية ليبني عليها فهمه في تفكيك رؤيا الملك. وليس هذا الإقرار في شكله العام إضعافاً من ذلك الجانب العقائدي، وإنما تكريس لمنطق التفاعل البناء بين العلوم والمعطى الديني عكس ما قد يتوهم البعض.
وقد يتساءل نفرٌ في هذا السياق، كيف ساعدت التجربة الحسية والاجتماعية والثقافية النبي يوسف في تفسير رؤيا الملك، بعيدا عما ما كنه منه ربه من قدرة؟ والجواب هنا مرتبط بذلك البعد الإدراكي الذي استدعاه يوسف في تفكيك قول الملك، ويجد هذا البعد الإدراكي مسوغاته في تصورات العرفانيين اليوم، حيث يرون أن نظام تفكيرنا استعاري بطبعه، وأن هذه السمة تمكن الإنسان من بناء التمثلات، والقيام بجملة من الإسقاطات بين الصور والمجالات، وهذا على رأي لايكوف وجونسون. وعلى هذا الأساس، فالبشر في تفسيرهم للأحلام والرؤى يخضعون إلى هذه الخطاطة الذهنية ويمارسونها فعلاً. فقد اعتبر الأزهر الزناد استنادا إلى جورج لايكوف «أن من مظاهر تجذر الاستعارة في التجربة الحسية والاجتماعية الثقافية أنها أساس في نشأة الأحلام وفي تفسيرها، إذ تمثل الأحلام تراكما في النظام المفهومي» (الزناد، نظريات لسانية).
وبناءً على ما تقدم، فما قام به النبي يوسف هو ضربٌ من التناسب بين مجالين تصوريين، حيث تمثل مجال السبع السمان والسنبلات الخضر على كونه الرخاء الذي تلتهمه السبع العجاف والسنبلات اليابسات في ثوب سنوات القحط والشدة، وعلى هذا نبه يوسف الملك وحاشيته من وجود سنوات قحط في الواقع الفعلي ستمر بها مصر في المستقبل. وعلى هذا الأساس نسجل معطى مهماً مفاده أن تراكم التجربة الفعلية في ذهن النبي يوسف بكون السنابل اليابسة والسبع العجاف دليلاً على أمر سيئ وسلبي والعكس كذلك، هو الذي جعله يفهم رؤيا الملك.
تراكم التجربة الفعلية في ذهن النبي يوسف بكون السنابل اليابسة والسبع العجاف دليلاً على أمر سيئ وسلبي والعكس كذلك، هو الذي جعله يفهم رؤيا الملك.
ومن هذا المنطلق يؤكد كل من لايكوف وجونسون على انسجام التصورات الاستعارية مع التجربة الفعلية في الواقع، فكوننا نعلم في الواقع الفعلي أن العجاف والقحط مرتبطان بتمثلات سلبية هي التي تجعل التناسب ممكنا بين الرؤيا والحقيقة في ما يخص تفسير يوسف. وهذا ليس بغريب حتى في حياتنا اليومية، باعتبارنا اليوم نفسر كثيراً من الأحلام بناءً على هذا الضرب من التناسب بين المجالات. ففي عُرف تفسير الأحلام عند التونسي والعربي على وجه العموم أن رؤية الحية في المنام دليل على وجود امرأة تتربص بذلك الشخص، فتلك الحية في مجال الحلم أو رؤيا (على اختلافهما) تفسر على أنها امرأة في الواقع الحقيقي، وهذا الضرب من الإسقاط بين الخطاطتين أو التناسب يُفسَر عرفانيا اليوم بسيطرة النسق الاستعاري على الذهن، حيث أن منطق تفكيرنا استعاري بطبعه. وربما نذهب إلى أبعد من ذلك في تفكيك هذا الحلم وتحديدا ضمن التصورات المتراكمة في الذهنية العربية حول المرأة، التي بدورها تسربت من ثقافات أخرى (الإسرائيليات)، حيث أن تمثيل المرأة بالحية يعود بنا إلى قَصَص التكوين الأول وخروج آدم من الجنة.
إلى حدود هذا نكون قد بسطنا المسألة من وجهة نظر عرفانية، تثبت كيف تحركت ذهنية النبي يوسف في تلك الفترة. غير أن تلك الرؤيا في فضائها الأول الذي نشأت فيه لم يمنع من رحيلها عبر الأزمان تحت المنطق نفسه، أي منطق الإسقاط التصوري بين الصور والمجالات، فنعثر اليوم – وفي كثير من الخطابات- على استعمال هذه العبارة في شكل استعارة، حيث يستدعيها الكثير في توصيف أحداث ومشاهد، فيقومون بضرب من الإسقاط، وهو إسقاط ترحل فيه العبارات محملة بكامل الأبعاد التي أثثتها في نشأتها الأولى، فتكون استعارة متجددة ما دام الإنسان يحيا بها. ففي تونس على سبيل المثال وبعد مرور سبع سنوات من عمر الثورة يكثر استعمال استعارة «السبع العجاف» التي لا يجهد البعض نفسه في استدعاء مثل هذه الاستعارة باعتبار تراكمها في الذهن، أو باعتبار ترسبها في التجربة الثقافية للإنسان العربي أو المسلم على وجه التحديد، فهي تنبع من تمثل ديني مرتبط بسورة يوسف في القرآن الكريم، وهذا معلوم لكل متطلع، حيث أن السبع العجاف هي سنوات القحط التي مرت فيها مصر في تلك الفترة. وقد لاحظنا أيضا استعمالها في توصيف الثورة اليمنية وسوريا، وهذا دليل على انسجام النسق التصوري العام بين الجميع.
إن ما يقوم به العربي على اختلاف الأقطار حين ينعت عمر الثورة «بالسبع العجاف» هو ضربٌ من الاستعارة التصورية، فهو يقوم بنوع من الإسقاط بين الصور والمجالات، فالسبع العجاف في تكوينها الأول الدالة على القحط في رمزيتها والمرتبطة بالشدة، يقع إسقاطها على السنوات السبع من عمر ثورات الربيع العربي، ليقول بها القائل إننا في قحط سياسي واجتماعي بعد مرور هذه السنوات، وما يجعل الاستعارة مقبولة ومستساغة في ذهن القائل ومقنعة أيضا هو التناسب حالةً وعدداً، وإنْ شئنا المغامرة أكثر، نضيف حمولتها الدينية لنعود ونقول إن الفصل في قراءة الظواهر وهم من الأوهام، وأن تحرك النبي يوسف تحت منطق رباني يحميه لا يعني البتة تحركه خارج منطق الجماعة اللغوية في تلك الفترة.
٭ باحث تونسي