الشاعر الاردني محمد مقدادي: مشروعي الابداعي غير مكتمل لأن الحياة ظل لا يقيم طويلا
[wpcc-script type=”0342ee6e1b8fa47c0f6a05a4-text/javascript”]
تخلق التجربة الشعرية المتواصلة لمحمد مقدادي معاني وأفاقاً دلالية جديدة، قد تكون مغايرة أحياناً ومناقضة، للكلمات والأفكار التي تحضر بقوّة في الكثير مما يُكتب في الشعر الأردني اليوم، ولعلّ في ذلك؛ أحد وجوه قوتها ومتانتها واختلافها، وهو ما يمنحها على الدوام القدرة على تطوير ذاتها، كاقتراح فنّي جمالي.
ويرى الدكتور محمد مقدادي أن الشعر كائن حي متحرك يفعل وينفعل ويتفاعل مع مكونات الواقع الذي يحيا به ويتواصل معه، ويحاول بشكل دؤوب أن يواجه كل معطى، لتجويده، وجعل المجتمع يعبر إلى مستقبله عبوراً آمناً مبنيّاً على منسوبٍ عالٍ من الوعي بضرورات التقدّم والنهوض.
وهو يرى أن الانسداد العام يحدّ من قدرة الشعر على التنفس والحلم والتأثير، لكن الشعر المخلص لمشروعه العظيم بمقدوره كل يوم أن يجد سبيله للخروج من أشدّ الأزمات قسوةً وعمقاً، لأنه مطمئنّ إلى أن ما يمتلكه من الضوء كفيل بهزيمة العتمة الوارفة، وأن محموله من الوعي بالثورة، كفيل بإجهاض ومحاصرة جيوب الجهل والتخلف والاستعباد، لذا فإن حالة المدّ والجزر التي تنتابنا هي حالة صحية تماما، تشير إلى قدرة الشعر على التقاط أنفاسه، واستعادة دوره التاريخي.
واليوم، بعد عشرين كتاباً في الشعر والفكر والثقافة وعدد غير قليل من المخطوطات المودعة في أدراج مكتبته، أي بعد ثلاثين ونيف من سنوات الكدّ، بحثاً وتقصِّياً واستقراء، وبعد هذه المسافات التي قطعها على حافّة الجرح والسكين، يكتشف الدكتور محمد مقدادي أنه ما زال يتهجّى خطاه على الدرب الطويل، وعلى الصخور المسنّنة، خطاه الطّفلة ذاهبة إلى قمم لا يراها، ويحثّها على مواصلة الصّبر والأناة والمضيّ في مجاهل الدّنيا ومنعرجاتها، وهو يرى أنه لم يحقق سوى جزء يسير من مشروعه الإبداعي الذي سيظلّ مشروعاً غير مكتمل، لأن الحياة ظِلٌّ لا يقيم طويلاً، ونحن أبناء هذا الظلّ المتلاشي من حدائق العمر الجميل، والذي يتبدّل فيه المشهد وتتعدد الرّؤى، وتتغير التوجّهات.
التقيناه قبل أيام لإلقاء الضوء على رحلته مع الشعر والحياة، ومنطلقاته الفنية والثقافية والفكرية، وكان لنا معه هذا الحوار:-
* دكتور محمد دعنا نبدأ الحديث عن تجربتك الشعرية والفكرية في امتزاجها بحياتك الخاصة بمعنى امتزاج الخاص بالعام في حياتك زمنا ثم في شعرك فكيف يقدم الدكتور مقدادي تجربته إلى القارئ؟
* الحديث عن التجربة الإبداعية في مستوى الزمان والمكان سيأخذنا إلى كثير من المفارق والمنعطفات التي يصعب حصرها أو الوقوف عليها في مساحة ضيقة تتيحها صحيفة أو كتاب/ لكن أكثر ما يشغلني في هذا الصّدد ذلك السؤال الأهم والمرتبط أصلاً بوظيفة الإبداع وبالتالي المهمة التي يتصدّى المبدع لأدائها متأبّطاً ذراع اللغة كأداة للتعبير عن الواقع بشكل غير تأريخيّ، والمُضيّ قدُماً على مدارج النهضة والبناء ممن خلال التأمّل العميق للماضي وتحليل الرّاهن والأخذ بما يثري الحاضر ويضيف إليه وهو الذي يشكِّل مقفزاً للمستقبل المأمول.
هذا يعني أننا نؤرّخ للحظة التي يمتزج بها الخاص المُعبَّر عنه في بواكير التجربة، ربما، وبين العام الذي يُشغل فكر المبدع ويُغني أداءه وينعكس في منجَزه كلّما تقدّمت التجربة وازدادت عمقاً ورسوخاً في أرض الواقع نفسه، ونجحت في تشخيص الحالة المجتمعية على صعيد الفكر والوعي والعلاقات الاجتماعية/ الاقتصادية/ الثقافية/ السياسية المتشابكة والتي تنعكس على طبيعة السلوك الفردي والمجتمعي وتتحدّد بناء عليها النظرة المجتمعية برمتها لعلاقة المجتمع بالكون والحياة.
وهنا أستذكر ما كان يقوله لي والدي: يا بني …خذ عصاك وانطلق، فحيثما وضعت قدميك تجد أرضاً تحتفي بك وسماء أخرى تحتفي بها، وأناساً آخرين يُقبلون عليك، واركب موجتك المشاكسة لأنها تحملك إلى شاطىءٍ بعيد كي يسيل حزنٌ وديعٌ من أطراف أصابعك.
يا بنيّ يمارس الكائن إنسانيّته ما دام على الطريق، يلاحق اللحظات الهاربة من عمره الشّحيح، محاولاً الإمساك بها ليُقلِّبها بين يديه كالفراشات الضالّة، كلّما غطّت العتمةُ برماد الكآبة والنّدم. والتجربة الأعمق والأجلّ هي التي تجعل الأرض تنبسط عند قدميك، وتجعل الجبال تفتح لك أبواباُ، وتُسمِعُكَ الأوديةُ غناءَ رُعاةٍ آخرين بلغاتٍ شتّى، وثغاء جداءٍ وصهيل خيولٍ ونداءات يعاسيبَ أخرى، وبقدر اللغات التي تسمعها، تحترم أبجديَّتك الأولى.
وتجربتي مع الأسفار والمدن والفضاءات جعلتني حقّاً أرى بعيون أخرى، وأسمع بآذان أخرى، وعلّمتني أن تغنّي شفتاي نشيداً واحداً هو النشيد العظيم للإنسانية الكبرى، وأدركت أن ما يحقّقه الفقراء والمضطهدون والمهمشون من طُهرٍ وحرية وعدل في مكان ما، هو خطوة على طريق انعتاق آخرين من أعضاء الأسرة الإنسانية كلّها، ونحن حينما ندافع عن حريات أمم أخرى تجابه نفس الظروف وتنتظر ذات المصير من عدو واحد مشترك وإن تعدّدت أسماؤه وتنوّعت أساليب قمعه واستبداده.
هذا نفيٌ بائنٌ لزعمٍ سادَ حيناً من الدّهر، تلخِّصه مقولة: ‘الفنّ للفنّ ‘ و’ الشّعر للشّعر’ ذلك أن الانحباس في الأطر الشكلية للعمل الإبداعي، هو عزلٌ للمبدع عن قضايا الإنسان، موضوع الإبداع ومادته الأولى، وفصلٌ مميتٌ للجنين الإبداعي عن أمه الحانية التي تنتظر منه أن يتحمل بأعباء التغيير في مجتمع يفترض أن تعمل الثقافة على تعميق الوعي فيه، من أجل تحقيق التغيير الشامل الذي يحقق طموح الإنسان في العيش آمناً مطمئناً ينال كل مستحقاته من أوكسجين الحياة الكريمة، فإذا اكتفى الفن بمواصفاته والشعر بخصائصه، فكيف سيتسنّى لكل من الفنان والشاعر أن يؤدّي وظيفة التغيير المُرتجى من غير أن يسبر أغوار واقعه ويتفحّصه ويقدّم رؤاه التي تقود إلى الخلاص.
إن المآثر التي يحققها المبدع، أيّاً كان شكل الإبداع، تكمن في وضع الخطى على الدّروب، التي يتراكم عليها الوعي إلى أن يصل بالناس إلى عتبة الحلم، من هنا يمكنني بكل تواضع اشتقاق القيمة الأسمى للإنسان والتي تكمن في موقفه الرافض للظلم والتعدّي كمبدأ راسخ لا يقبل التأويل، سواء طالَهُ بعضٌ من شظايا هذا الظلم، أو لم يطَله، وهو موقف أخلاقيٌّ في المقام الأول، ويضع حدّاً للتطاول على إنسانية الإنسان الذي أراده الله كائناً سامياً، لا يجوز بحال من الأحوال أن يحطّ أحدٌ من كرامته تحت أيٍّ من الذّرائع التي تبتكرها قوى عاتية استمرأت اغتيال إنسانيته وإحالته إلى ترسٍ في مكائنها السياسية والاقتصادية والثقافية، وجرَّدته من فطرته في أن يكون حرّاً من غير حجرٍ على عقله ولسانه.
*محمد مقدادي، بعد هذا المشوار الطويل، حين تعيد قراءة ما كتبت، ماذا تكتشف؟
* بعد عشرين كتابا في الشعر والفكر والثقافة وعدد غير قليل من المخطوطات المودعة في أدراج المكتبة، أي بعد ثلاثين ونيف من سنوات الكدّ، بحثاً وتقصِّياً واستقراء، وبعد هذه المسافات التي قطعتها على حافّة الجرح والسكين، أكتشف أنني ما زلت أتهجّى خطاي على الدرب الطويل، وعلى الصخور المسنّنة خطاي الطّفلة ذاهبة إلى قمم لا أراها، وأحثّها على مواصلة الصّبر والأناة والمضيّ في مجاهل الدّنيا ومنعرجاتها، في محاولة دؤؤبة لاستكشاف المزيد من النوافذ المطلّة على تفاصيل هذا الكون المنشغل أناسُهُ بأناتهم ومصالحهم وشؤونهم الصغيرة التي جعلوا منها الغاية وابتكروا الوسائل التي تمكنهم من بلوغها بصرف النظر عن الضريبة التي يدفعها الناس إزاءها من الحرية واحترام الذات التي تحفظ الحياة آمنةً وحريّةً بأن نعيشها بسلام ونؤدّي رسالة الحب والإعمار فيها وأن نحقق أحلام القادمين إليها.
بعد هذا المشوار الطويل مع الكلمة أرى أنني أحقق جزءاً يسيراً من مشروعي الإبداعي الذي سيظلّ مشروعاً غير مكتمل، لأن الحياة ظِلٌّ لا يقيم طويلاً، ونحن أبناء هذا الظلّ المتلاشي من حدائق العمر الجميل، والذي يتبدّل فيه المشهد وتتعدد الرّؤى، وتتغير التوجّهات، لكن المهم أن لا تتراخى الأصابع عن زناد الموقف الأصيل، والكلمة النبيلة الصادقة، كي يظلّ الأدب حالة مستفزَّة للسكون المروِّع، باعثاً الحياة في مفاصل كثيرة أصابها الخدر والضمور، وليقف كل أديب ومفكر وفنان، ندّاً حقيقياً لحالات التشوّه التي تجتاح العالم، والتي غالباً ما تجيءُ ملبِّيةً لتطلّعات السّاسة المتغطرسين، الذين يسدّون نافذة الشمس، ومعهم رهطٌ كبير من الكمبرادور والتجار والسماسرة والمتنفّذين وبعض النُّخب التي تبرر الغزو والسّطو والهزيمة، وتعظّم الرّداءة، وتشرعن الاستبداد والغلوّ، وهو ما يجعل مشروع المفكّر مفتوحاً على احتمالات غير منتظرة في معظمها، ممّا يثقل كاهل العاملين في هذا الحقل المفخّخ .
بعد هذا كلّه، أكتشف أن ، ليست السّلطة السياسية الفاسدة، هي وحدها من يقف وراء تخلّفنا المريع، بل ثمّة قوى نخبويّة وأخرى اجتماعية تقف إلى جانبها راضية بما تفعل لتحقق منافعها الضيقة من خلال هذه الصيغة الاستتباعيّة، هناك ثمّة من يكذب وثمّة من يصدّقون، وثمّة من يضطهد وثمّة من يرتضون الاضطهاد ويستمرؤون التعسف ، ومواجهة الفكر لهذا الانحطاط تتطلب شجاعة أخلاقية ، تكشف عمّا يمور في داخل المجتمعات، وتكشف عن حالة الرفض، وتخرجها إلى فضائها الرّحب وتمكِّنها من المشاركة في صياغة المشروع الحضاري الذي يحقق للذات الإنسانية حضورها المشرق.
*ماذا يعني لك الشعر في اللحظة الراهنة ؟ وماذا أعطاك الشعر ؟ وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟
* الذات الشاعرة هي ذات منطلقة من حدود ‘ الخاص’ ومندغمة في أفق ‘العام’ وإذا حدث وأن أصيبت هذه الذات بشيء من الفصام عن سياقها العام واستنسخت تجربتها في حدودها المختزلة والمرتدّة إلى قوقعة الذات المنحسرة، تكون قد انحرفت عن مسار الفعل الإبداعي الفاعل في المجتمع والمتفاعل مع قضاياه ، وتمضي للعيش في حالة من الشوفينية المُفضية إلى إبداع مبتور لا صلة له بواقع الحياة بكل ما بها من تفاصيل وحيثيات، ويظلُّ قاصراً عن أداء دوره في التوحّد مع جروح الإنسان وقروحه وأفراحه ومعاناته وحلمه الموصول في سقف لا يُحدّ من الحرية، وأفقٍ شاسعٍ مكتظٍّ بقيم الحب والجمال والعدالة.
وأنا أزعم بأن تجربتي الشعرية قد عبرت بشكل يبعث في نفسي الطمأنينة، فقد أفاضت في الجهر بالثورة على الظلم، ولم تمالئ ظلماً أو احتكاراً لمالٍ أو سلطةٍ أو جاهٍ، ولم تقف خلف الشجرة التي تخفي معالم الأكمة، بل ولجت إلى الغاية وتعرّفت إلى تفاصيلها، ورصدت مجاهلها وكهوفها المسحورة، وكشف في جنباتها المزخرفة، عن الحقائق الموؤودة تحت الثرى في المدن التي تدّعي الفضيلة، في الوقت الذي يتبوّأ بها اللصوص والقتلة مراتب عالية ويتقدّمون صفوف المدافعين عن حقوق الإنسان وكرامته.
لقد حققت انتصاراً نهائياً على النفس الأمّارة بالسوء، صحيح أنني لم أستطع ومعي كثيرون- أن أكنس قطّاع الطّرق، أو أن أهزم جحافل الطّغاة، أو أن أشجَّ رأس المعتدي، لكنني لم أدَع فرصةً إلاّ وأشهرتُ في وجهه سلاح الشّعر كي يكفَّ عن رقصة الموت، ويوقف سيمفونية الفناء.
*أخي محمد، من وجهة نظركم، كشاعر وناقد، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته ؟ وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الآخرين؟
*لا أحد بمقدوره أن يحدد وظائف الشعر ومهامه ومسؤولياته، لأن الشعر إفراز إنسانيٌّ وإبداعي خارق للمعتاد، متجاوز للمشهد المرئي، حالة تعبيرية عن قضايا الناس وتطلعاتهم وأحلامهم المرصودة بعيون العسس من المرتزقة وآذان الطغاة الذين يعيثون فساداً وإفساداً في كل مناحي حياة البسطاء والمهمشين الذين يتضورون جوعاً ويعانون من وطأة الإقصاء المبرمج لتغييب حالة الوعي العام بالظلم والا ضطهاد والتجاوز، وهو بهذا يؤدي دورين رئيسين، في تصوري، أولهما تعميق الوعي وسبر أغوار الإحساس الجمعي بضرورة التصدي لكل أنماط العبث بمنظومة القيم العليا للمجتمع، وثانيهما دور فاعل في حراسة اللغة، واللغة هنا ليست مفردات التواصل التي تمكن المجتمع/ الأمة، من أداء مهام البناء والتنمية، فحسب، بل هي الهوية الجامعة التي تؤمن بالوحدة كضرورة تاريخية وجغرافية من ضرورات البقاء وركنا من أركان النهوض في مشروع التقدم الشامل الذي تخلّفت الأمة قرونا طويلة عن بنائه، وعاشت عصوراً من الظلام والجهالة جعلتها أمة ذيلية تتلمس خطاها التائهة نحو مستقبلها المجهول بعد أن فقدت بوصلتها، وتشتتت جهودها، وتبدّدت ثرواتها، وتعدّدت اجتهاداتها التي تراوحت بين تشبّث بأصولية – ظلامية- تكفيرية، وبين معاصرة غير مشروطة ولا مُتَحَفَّظٌ على مكوِّناتها، كوسيلة للخروج من حالة اليأس والتخلّف المريعين.
إزاء حالة مستعصية كهذه، لا يمكن للشعر وحده أن يؤدّي وظيفة النهوض بالأمة، وإحداث انقلابات جوهرية في طرائق التفكير والممارسة، لأن مشروع النهضة هو نتاج تراكمي لعمل فكري/ إبداعي/جماهيري/ مؤسّسي/ تتكامل فيه الأدوات والوسائل والرُّؤى، وتُحشد له كافة الطّاقات المجتمعيّة الكامنة تمهيداً لإطلاقها في فضاءات توظِّف كل ما يتوافر وما يمكن توفيره من موارد مادية وروحية في معادلات متوازنة تكون كفيلة بإحداث نقلات نوعية متلاحقة في البنية النّفسيّة والذّهنيّة لكافة فئات المجتمع.
أما سؤالك عن الحداثة، فإنني لا أعتقد أن الإجابة تنحصر في ‘نعم’ أو تنحسر في ‘لا’ ذلك أن المبدع الحقيقي هو مع التجدّد والتجديد من غير إسراف، لأن المكوث في كهوف الماضي هو تحنيطٌ للأعضاء الفاعلة في جسد الأمة التي انقسم مثقفوها إلى ثلاث فرق، فريق رأى في المعاصرة وانتهاج المنهج الغربي هو السبيل الأمثل لخروج من دوائر التخلّف المزمن الذي انبرى جسد الأمة تحت وطأته، وحمل هذا الرهط دعوة صريحة للتخلص تماما من المحمول التراثي، أما الفريق الثاني فقد وقف على النقيض من سابقه، إذ دعا بشكل فجٍّ للتشبّث بحقائق الماضي الذي كفل للأمة أن تكون رائدة في العلوم والمعارف المختلفة، ولا بدّ من الأخذ بما ورد في هذا التراث من غير تفريط أو مداورة، أما الفريق الثالث فقد اتخذ موقفاً وسطاُ بين الفرقين السابقين، إذ دعا إلى غربلة المخزون التراثي وتمحيصه والتدقيق في مكوِّناته واستحضار ما ينفع منها وتوظيفه في مشروع إعادة بناء الأمة ونهوضها مع الاستعانة بمخرجات التقانة التي أنجزها المجتمع الغربي، وأنا أميل للاعتقاد بأن المزاوجة بين ما يصلح من التراث وبين ما يمكن توريده وتوطينه من ثقافة وفكر غربيين كفيلة بالتغلّب على كثير من المعوّقات التي تعترض سبيل الارتقاء والتقدم.
*بعيداً عن الشعارات والمبالغات…ماهي القضية الرئيسة عند د.محمد مقدادي؟
*لم تكن عندي في يوم من الأيام قضية أكثر أولويّة وإلحاحاً من قضية الحرية كقيمة إنسانية عليا تشكل حجر الأساس في بناء المجتمعات بشكل يحافظ على بنائها راسخاً ويجعلها تمضي في سيرورة تاريخية تقود إلى تراكم الإنجاز وتحقيق المزيد منه، فهي سلاح انعتاق من الاستبداد والتعصّب والراديكالية الممعنة في تخريب البنى المجتمعية المتطلّعة للغد الأجمل، وحين يتحقق الانعتاق وتترسخ قيم الحرية في الخطابين الرسمي والشعبي، فإن المجتمع يثور على قيم ومخرجات الجهل والتخلف في كافة البؤر والمساحات ويمتلك سلاح المعرفة التي تنهض بالمجتمعات وتسير بها على طريق التقدم.
فبالحرية تخلّص الغربُ من جهله وتخلّفه ومن سلطة الدين الكاذب وعوامل الحجر على العقل المبدع، فانتقل من عصور الظلام إلى معاقل النور المفتوحة.
إن ‘ قابلية الاستعباد’ التي ‘ تتمتّع’ بها بعض الشعوب، هي مشروع أنجزته سلطة سياسية أرادت لشعوبها أن تستمريء العبودية وأن تقبل بالبقاء على هامش الفعل الحياتي المندفع، وأن تظل راضية بما تجود به السلطة عليها من مكارم وأعطيات، فنسيت هذه الشعوب حقها في الحرية والكرامة البشرية، وأغمضت عيونها عن جلاّديها الذين يتمادون في غيّهم كلّما أوغل الناس في الصمت والطأطأة، وارتفع منسوب ‘ قابلية الاستعباد’ إلى الحدود الذي تسود فيه حالة القطيعيّة، وعندئذ تكتفي الشعوب بالبحث الدّؤوب عن مائها وكلئها في المساحات الضيقة التي تتيحها السلطة السياسية السادرة في غيّها وظلالها والمتمترسة وراء كثبان هائلة من السّطوة والجنون.
والحرية هي الأساس الذي تنبني عليه الديمقراطية والتي تؤدي بدورها إلى تداول سلمي للسلطة حيث يسود القانون، وتتحقق العدالة وينخرط الناس في عملية البناء والتنمية، لأن مجتمع العبيد، هو مجتمع عاجز عن الفعل والمبادرة، ولأن الشاعر ضمير قومه وأمته ن فهو رائد من رواد الحرية باعتبارها هدفاً لفعل كتابته الإبداعية ووسيلته لقيادة مجتمعه المتطلّع للنهوض وتحقيق المستقبل الأفضل لأجياله المتعاقبة في مناخات تسودها روح العدل، وتكافؤ الفرص والمساواة في الحق والواجب، لذا فإنني أؤكد أن مساحة الإبداع الكلّي تتضاعف كثيراً كلّما اتّسعت رقعة الحرية وتجذّرت في تربة المجتمع المتعطّش لنيلها باعتبارها قيمة مقدّسة تتقدّم على العديد من الأولويات، بل وتؤسّس للكثير منها وينبني عليها المشروع الكلّي للتحضّر والتقدم والرفاه.
*في قصائدك نفس ملحمي، وأجواء درامية، تتداخل فيها الأصوات، وتتعدّد مستويات الدلالة، ونلحظ فيها موسيقى عالية، كيف تكتب وكيف تفهم القصيدة ؟
* بالغ أحدهم حين قال: إن القصيدة تكتب نفسها، وأن الشاعر غالباً ما يكون خارج لعبة الخلق الشعري، ذلك أن القصيدة تتولّد بغتة، وتتسلّل مثل عاشقة تأتيه حافية في آخر الليل..صحيح أن الشعر يداهمنا على حين غرّة من حيث لا ننتظر، مثل طائر أسطوري يجوب العالم ويعود محمّلاً ببهاراته وعراجينه، يحوم فوق رؤوسنا مردِّداً أنغامه وأحزانه، ويحطُّ على أوّل السطر، باثّاً لواعجه، محترقاً بجمرة النصّ والمعنى.
حينما تبدأ القصيدة رقصتها، أبدأ بمراودتها، وتبدأ بمراودتي، إلى أن يبوح كلانا بما يريد، وهنا يبدأ المشوار الحقيقي مع الكتابة، أي مع الشعر شكلاً ومضموناً، فينهمر شلاّله صافياً رقراقاً، ويأخذني النص إلى حدائقه وأصعد سفوحاً وأعتلي هضاباً،كان عصيّاً علي بلوغُها إلاّ بسلَّم الشعر العظيم، وفي تلك البراري العصية على التدجين والمخاتلة، أبدأ بغزل الكلمات على نول الحكمة، لأحاور النص ،فأعيد وأزيد، وأبني مداميك القصيدة بمفهم معياريّ قد يأخذني أحياناً إلى زوايا لا أدرك السبيل إليها لكنني غالبا ما أتأبّط ذراع قصيدتي وأمضي بها إلى حيث يكون التعبير عن الحالة واضحاً وشفيفاً كحبّة مطر طازجة، أو كقطرة النّدى على غصن رهيف؟
قد يتطلّب الغرض نصاً ملحمياً…فليكن له هذا النصّ الذي يشبع عنفوانه ورؤاه، وقد يتطلّب أن تتعدّد الأصوات في داخل القصيدة، فلتكن القصيدة مملوءة بحوارات داخلية تمنحها الكثير من الدّفء والحميميّة، وتجعلها أكثر جاذبيّة وإثارة، بكل ما فيها من مراوغات محبّبة،لأنها تهتف للضوء والحياة والحب، في واقع ازدحمت جنباتُه بالظلام والبغضاء والموت.
إن الحقن الذّهني بهذه الصور المروّعة من الدم والدّمار على مدار الساعة، بغية جعل الناس يعتادون المشهد، فلا يبالون بالرؤوس التي تقطع، والقلوب التي تُنتَزع من صدور القتلى ويلوكُها القتلة المفترسون على مرآى من العالم وبمؤازرة وتمويل من بعض أطرافه، يشكّل تحدّياً حقيقيا للأدب بعامة، وللشعر على وجه الخصوص، ويلقي على الشعراء مهمّة إعادة إحياء الضمير الإنساني المحتضَر، وإطلاق مشروع ثقافي يتبنّى ‘إعادة أنسنة بني البشر’ الذين يسعون بكل قوة لتأسيس ما يمكن أن أسمّيه ‘مجتمعات ما بعد الشرف’ التي تتسارع وتيرة إنجازها ليتحول العالم إلى مجتمعات بدائية في مستوى الأخلاق والقيم، لكنها مسلّحة بكل أدوات القتل والقهر والعدوان.
هكذا أفهم القصيدة بمحمولاتها الفكرية والإنسانية الفريدة المتسامية، وبدعوتها للذّود عن كرامة البشر، وصيانة إنسانيّتهم المسفوحة أمام المصالح والأحقاد والنّزوات وأكاذيب التاريخ والجغرافيا.
*ما يميّز مجموعاتك الشعرية الصادرة حتى اليوم هو انحيازها لقصيدة التفعيلية، فما هو السبب وراء ذلك؟
*أنا لا أنحاز لشكل شعري على حساب شكل شعري آخر، فالأمر متعلّق بمزاج القصيدة نفسها، والذي بناء عليه تختار القصيدة شكلها، فكأنها هي التي تحدّد ملامحها وتفرّعاتها واشتباكاتها مع المحمولات الفكرية والنفسانية التي تتناسل في رحمها، والموسيقى التي ترافقها، وتنبجس من جنباتها المسكونة بأرواحٍ مجنّحةٍ تسعى وتتراقص صعوداً وهبوطاً، وتعمل على ثأثيث فضاء القصيدة بما يكفي من الحلل والجماليات، وتقدّمها على الشكل الذي يتناوله المُتلقّي.
لقد بدأت كتابتي للشعر بقصيدة العمود، وكنت أكتب القصيدة في البدايات المبكرة على شاكلة أحد الأبيات الشعرية للشعراء العرب من مختلف العصور، أكتب على نفس الوزن والرويّ، وقد تعثر في بعض كتاباتي على إحدى القصائد التي تمزج بين القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحديثة، وفقاً لضرورات النص والفكرة الأساسية التي يدور حولها، وغالباً ما يُلحظ هذا المزج في القصائد الملحميّة الطويلة مثل تلك التي وردت في مجموعتي الشعرية’ أحدٌ…أحدْ’ نظراً للتباين الموسيقي وتعدّد الأصوات المتحاورة والمتجاورة في القصيدة مما يتطلّب هذا التنويع.
ومع كل هذا، لا بدّ من الاعتراف بأن قصيدة التفعيلة قد منحتني فضاءات أكثر سعة وقدرة على المناورة في مساحات من الحرية والانفتاح نظراً لتعدّد أبوابها وانفتاح نوافذها المُطلّة على العالم، ولأنها تمتلك قدراً كبيراً من الشفافية والبهجة، ما تُمكِّنُ بهما العالم من ملامسة مباهجها ومواقع الفتنة الطاغية فيها.
*د. محمد، إذا انتقلنا للحديث عن الواقع النقدي في الأردن، كيف ترى واقع الحال، وهل تأخذ النقد بعين الاعتبار، وكيف تفهم العلاقة بين النقد والإبداع، وهل أنصفك النقد؟
*المشكلة الحقيقية في نظري لا تتمثل في العلاقة بين النقد والإبداع كفعلين أحدهما يكمل الآخر ويتقاطع معه ائتلافاً واختلافاً، بل هي في العلاقة بين الناقد والمبدع والتي تأخذ في معظم الحالات بعداً شخصانياً/ فصائلياً/ شلليّاً، يمكن إدراج الكثير من الأعمال النقدية تحت هذه العناوين فيما عدا القلّة القليلة من تلك التي تتناول أعمالاً إبداعية محدّدة من غير أن تلتفت إلى ذلك ‘ الوازع ‘ النقدي المهيمن على توجهات العديد من النقاد على الساحة الأردنية.
ومن الواضح أن النقد الذي تابعناه منذ زمن غير قصير، إما أن يكون على يد نقادٍ انطباعيين لا يمتلكون أدوات النقد الحقيقية وهو حالة نقدية قد تقدم شيئا عن العمل الإبداعي لكنها لا تضيف له شيئاً ذا أهمية على الإطلاق.
وهناك أعمالاً نقدية تتراوح بين أن تكون أعمالاً (غاضبة) أو أعمالاً (مجاملة) فالغاضب منها يشوه الإبداع ويقسو عليه ولا يكشف عن إمكاناته، أما المُجاملُ فيعمل على تشويه المبدع ومنجزه الإبداعي في آن واحد حين يستر عيوبه ويتغاضى عن تخلف أدواته في الوقت الذي يعلي من شأن إمكاناته المتواضعة فيقدم المبدع على أنه رائد من الرواد أو قمة من القمم التي لا يُشقُّ لها غبار، وهو م عمل على تكريس كثيراً من الفقاعات الإبداعية التي مكّنها المتمكنون من مفاصل الإعلام والثقافة، من احتلال مواقع لا تستحقها حين يُطبِّق الناقد شروط النقد الأصيلة ويتناول بشكل موضوعي العمل الإبداعي بعيداً عن المبدع أو ما أطلق عليه البعض ‘موت المؤلّف’.
إن حضور المؤلّف ،على المستوى الفكري والنفسي والبيئي والتفاعلي، شرط مكمِّل لشروط النقد وعامل مساعد لأدواته، إذ به يستعين الناقد في العثور على بواعث العمل ومفاتيحه للولوج إلى النص، والتجوال في مساحاته والتمحيص في تفاصيله والكشف عن الغائم فيه واستحضار الغائب منه، وكتابة نصّ إبداعي موازٍ للنصّ الإبداعي نفسه.
في الأردن، هناك ثمة ثلاثون جامعة بما فيها من كليات للآداب وأقسام اللغة العربية ومدرسين وباحثين، لكن القليل منها يتناول في المؤتمرات العلمية الأكاديمية ورسائل الباحثين في مستوى الدراسات العليا إبداعات أردنية معاصرة، بل يبذلون جلّ جهودهم لدراسة الأدب الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي وإبداعات عربية أخرى، إلى درجة أن رفوف مكتباتها قد غصّت بمثل هذه الدراسات وقلّما تجد أساتذة يوجهون تلامذتهم للتنقيب في مكنونات الإبداع الوطني المعاصر، وهو أمر يثير الكثير من الأسى والأسف عند العديد من مبدعينا ممّن لم ينالوا شيئاً من هذا الجهد الذي يشكل إحدى ضرورات دعم الإبداع وتطويره على الصعيد الكيفي والكمي معاً، ويضعه على خارطة الإبداع العربي في سياق الثقافة العربية الواحدة.
*من وجهة نظرك كشاعر وناقد وأكاديمي، إلى أي حدٍّ عبَّر الأدب الأردني الحديث عن التحولات التي تعيشها الأردن منذ الاستقلال؟
*باستثناءات قليلة، فإن المتابع لما تنجزه الساحة الإبداعية في الأردن يكاد يلحظ شيئاً من الأدب الأردني الحديث الذي استطاع أن يقدّم التجربة الأردنية والذي فعل ذلك من الأدب ‘ القليل’ فإن فعله هذا لم يتجاوز الحدود الضيّقة التي لا تعمّر في ذاكرة المتلقّي طويلاً.
ويعود هذا إلى حملة من الأسباب الذاتيّة، بعضها ذو صلة بالمبدعين أنفسهم الذين انخرط جلّهم في محاورة الحالة العربية بمختلف قضاياها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، أمّ القضايا جميعاً، والتي استحوذت على أكبر مساحة من المنجز الإبداعي في الأردن التي اعتبرها الأردنيون قضيّتهم تماماً هي قضية الأشقاء الذين ألحق بهم الاحتلال الصهيوني أشدّ أنواع الأذى، قتلاً وتهجيراً وتنكيلاً واستباحة، وهي حالات عايشها الأردنيون وذاقوا مرارتها وتقاسموا مع المهجّرين عذاباتهم وأشكال الحرمان التي عانوها..وما زالوا يعانون.
ومن بين الأسباب الذاتية الأخرى التي تقف وراء انحسار دور الأدب في هذا الاتجاه هو الدور السلبي الذي لعبه الإعلام بمختلف أشكاله في تهميش الأدب الجاد والملتزم بقضايا شعبه، خاصة ما يتعلق منها بالقهر والفقر والأمية والجهل والعنف المجتمعي والتخلف وانسداد آفاق التنمية وغياب أدوات التقويم والمراجعة وتغييب الوعي عن مواقع اتخاذ القرار وتجاوز المثقف العضوي وإحلال المثقف الانتهازي الذي يكتب ويتقاض على القطعة وتمكين الثقافة السّاذجة من الطفوّ على سطح المستنقعات الراكدة وتحويلها إلى حالة من ‘المسخرة’ و ‘ التندّر’ لدى العامّة من الناس، مما أفقد المثقف دوره، وأفقد الثقافة مكانتها.
ومثل ذلك فعل النقد في الأردن، إذ لم يعالج نصوصاً هامّة وهادفة، ولم يعمل على تقديمها في الساحات الثقافية العربية مثلما يفعل أساتذة جامعيون ونقاد جادّون من أقطار عربية أخرى (تونس، المغرب، لبنان، الجزائر، مصر…وغيرها) وهم يشاركون في مؤتمرات وملتقيات ذات صلة ويقدّمون أعمالاً شعرية وروائية وقصصية ومسرحية، تعبر عن بيئتها المحلية، وتتيح الفرصة لذلك الأدب في ذلك القطر أن يقدّم رؤاه وتصوراته لما تمور به تلك البيئة من إرهاصات وأحداث وتفاعلات.
* كيف تنظر إلى خريطة الشعر الأردني اليوم ؟ وهل صحيح أن الشعر دخل في طريق مسدود ؟
*ليس بالشعر وحده نفكّ طلاسم الكون ونتغلّب على رداءات الواقع، ونسوّي تضاريسه، ونتجاوز نتوءاته، ومواقع وهنه وانحداره، مع أن الشعر طريق موصل إلى كل النوافذ الموصودة، لكن الواقع المأزوم يكاد لا يتيح لنا أن نُحدِث فجوة في الجدار، أو أن نلحظ خلاصاً في الشعر على أهمية خطابه المنحاز للحياة بمعناها الأعمق وبما تحمله من قيم إنسانية، ذلك إن قضية التخلف أو التقدم، هي كلٌّ لا يتجزّأ، فحينما يكون المجتمع بلا أفق، ينسدّ كلّ أفقٍ فيه، وكلّ أفقٍ يؤدّي إليه، والشعر مثل أي عمل إنسانيّ خلاّق، يحتاج إلى بيئة ينهض بها وتنهض به، في عملية تبادلية، وحينما يكون الواقع صافياً ودافعاً يكون الشعر رافعةً من روافع البناء والصعود.
الشعر كائن حي متحرك يفعل وينفعل ويتفاعل مع مكونات الواقع الذي يحيا به ويتواصل معه، ويحاول بشكل دؤوب أن يواجه كل معطى، لتجويده، وجعل المجتمع يعبر إلى مستقبله عبوراً آمناً مبنيّاً على منسوبٍ عالٍ من الوعي بضرورات التقدّم والنهوض باعتبارها مشروع الشعر الذي يأبى التخلّي عنه أو المساومة عليه.
صحيح أن الانسداد العام يحدّ من قدرة الشعر على التنفس والحلم والتأثير، لكن الشعر المخلص لمشروعه العظيم بمقدوره كل يوم أن سبيله للخروج من أشدّ الأزمات قسوةً وعمقاً، لأنه مطمئنّ إلى أن ما يمتلكه من الضوء كفيل بهزيمة العتمة الوارفة، وأن محموله من الوعي بالثورة، كفيل بإجهاض ومحاصرة جيوب الجهل والتخلف والاستعباد، لذا فإن حالة المدّ والجزر التي تنتابنا هي حالة صحية تماما، تشير إلى قدرة الشعر على التقاط أنفاسه، واستعادة دوره التاريخي، والوقوف في خندق واحد مع قوى الإصلاح والتنمية الداعية للحرية باعتبارها معطى إلهيّاً رافقت الخلق الأول، ولا تتحقق إنسانية الكائن البشري إلاّ بها، وهذا التبنّي لهذه القيم ولمفاهيم العدالة هو ما يجعل الشعر مشروعاً إبداعياً على الصعيد الفردي ويحيله إلى مشروع مجتمعي إنساني في آن واحد.
*هل أنت استفزازيّ مشاكس بطبعك؟
*ربما يراني البعض استفزازياً على نحو ما، فأنا كاتب أرى أن من العار على الأشجار العالية أن تنحني لقبضة الريح، فلينحني العشب ليضمن حياةً آمنةً وبقاءً مسطّحاً تحت أقدام العابرين، لقد جُبلتُ على أن لا أعيش في المنطقة الوسطى، أُحِبُّ الرّماديّ لوناً، لكنني أكره أن أسجن روحي المنطلقة في دائرة الرّمادي المخاتلة، لأنها دائرة رياء ونفاق ومداهنة وازدراء للنفس وهزيمة للكينونة الإنسانية التي أرادها الله معبِّرة عن صفاته العليا، وهي الحق والخير والعدل والجمال، فإذا كانت المشاكسة هي المعادل الموضوعي للثورة على الاضطهاد والبغي والظلم والتجبّر، دفاعاً عن الفقراء والمهمّشين وفاقدي السّند من المستضعفين في أرض الله الواسعة، فإن من يضعني في صفّ المشاكسين يمنحني وسام شرفٍ أتمنى أن أكون من مستحقّيه بعد هذا العناء.
*ماذا عن إصداراتك الجديدة؟
*صدر لي، عن دار الكتاب الثقافي/ عمان، كتابان، أحدهما مجموعة شعرية بعنوان ‘ كتاب الموت’ والثاني بعنوان ‘عودة المقدس وانبعاث الصحوة’.
اشتملت المجموعة الشعرية على جزأين، الأول نصٌّ نثري، تناول الموت أسطورةً، وتجربتي معه مذ كنت طفلاً حينما كانت مواكبه تعبرُ الأزقة الضيّقة في قريتنا الأليفة، تشقّ صفوف النساء الودودات المتَّشحات بالسواد المعتّق، وصولاً إلى المقبرة حيث تُستكمل مراسم مواراة الجثامين والاستماع إلى طقوس التلقين والترانيم المصاحبة لذلك الحدث التراجيدي الذي لا يغتسل الناس من رواسبه، إلا في بيادر أفراحهم الشّحيحة الغلال.
أما الجزء الثاني، فهو شعرّ خالص، تناولت فيه تجربتي الشخصية الموجعة، وأنا أفتقد ولدي البكر ‘الدكتور عاكف’ في حادث سير صبيحة مغادرته مستشفاه، بينما كنت أنتظر عودته إلى البيت لأودِّعه قبل سفري للمشاركة في فعاليات ‘أيام سيراييفو الثقافية’ في أيار 2009، حيث جاءني خبر الفاجعة التي حلّت على غير انتظار، اعتصرني الألم مثل قطعة من الإسفنج، ككلِّ والد يفتقد ولده الأجمل، افتقدت الإبن الذي ربّيته على عيني، ولم يزل يوقد في أحشائي جمرة الغياب لتنهش نيرانها هشيم قلبي الصغير، وأبقاني أحمل ناياً مكسوراً يرسل أحزاني السرّية في فضاء مفتوح، مثل حلمٍ أفاق مشلوحاً على ناصية اليباب، هكذا رأيتني أحدّق مليّاً في فخاخ الموت المنصوبة في كل ركن، لكننا لا نقبض على مفصل من مفاصله، ولا نستبين شيئاً من ملامحه، ولا نحفظ سطراً واحداً من سطور آياته العقيمة السوداء.
لكنني أدركت بعد هذا الإعصار – الذي أطاح بكواكبي وأشجاري وخلخل أركاني من الأعماق – بأن الموت ليس في الموتى، بل هو فينا، نحن الأحياء الناجين منه إلى حين، المرتدين ثياب حدادنا، إنّهُ في قلوبنا الراجفة، وعيوننا المحدِّقة في ابتسامات الذين رحلوا هكذا فجأة بين إغماضة عينٍ وانتباهتها، لتنهشَ أنيابُ الموت أجسادَهم الطريّة الملساء.
أما كتابي الآخر ‘عودة المقدس وانبعاث الصحوة’ فهو مؤلّفٌ يمثل امتداداً للفكر الذي اعتقدتُ به وأخلصتُ له، الفكر المناهض للظلم والفساد وأسباب التخلف والتغوّل والاحتكام لمنطق حق القوة لا قوة الحق، على حساب قيم الحياة العليا.
كتبت حول مكابدات الكاتب العربي الذي لم يتكيَّف ـ كما أُريدَ له- ولم يُلقِ مراسيه في مرافيء الذلّ والخنوع، ولم يقبل أن يكون خشبةً طافيةً في عرض البحر، أو حارساً على أبواب السلاطين والقياصرة الصّغار، وكتبت عن الإرث الثقافي العربي الواقع بين مطرقة التلفيق وسندان التوفيق، في سياق الصراع الحضاري الذي افتعلته قوى حاقدة، تقودها أيديولوجيات الغلوّ والاستعباد والتهميش للآخر الذي بات عليه أن يبحث عن جبلٍ يعصمه من الطّوفان، ذلك أن الكائنات الرخويّة التي لم تُعِدّ نفسها للبقاء، ولم تمتلك منظومة تدافع بها عن نفسها، تلوذ إلى قوقعة تقيها شرور الآخر الآتي إليها من كلّ صوب، بكامل عدّته وعتاده، لإقصائها وافتراسها والهيمنة عليها، وهكذا هي حال الشعوب المستضعفة على المستوى الكونيّ،والتي تعاني من اضطهاد سياسي، وتشوّه اجتماعي، وتخلّف اقتصادي، وضمور ثقافي، وليس لها من ‘أَمامٍ’ إلاّ ذلك ‘الوراء البعيد’ الذي تحاول اللجوء إليه، والتنقيب في زواياه المعتمة، عن منجزٍ يبعث فيها شيئاً من العزّة والكبرياء المفقودتين.
جاء هذا الكتاب في مختلف فصوله مؤكّداً على أن الطريق الأوحد للتقدم والنهوض هو في إقامة العدل، والتمسّك بقيم الحرية والديمقراطية والتصالح مع النفس والانفتاح على المنجز الحضاري للأمم المتقدّمة والاستفادة من منجزاتها التقنية والعلمية على أوسع نطاق بعد توطين المعرفة وتكييفها بما يتناسب مع خصوصيات الأمة وفي حدود ردّ الإعتبار للهوية والتأكيد عليها.
إنني أعتقد بأن ‘بعض’ الذي يحول بين أمتنا وبين نهوضها وارتقائها ثلاثة أسباب في حدود اجتهادي، أولها: التناقض العميق والمزمن بين السياسي المتمترس خلف جدر مصالحه وبيروقراطيته الرثّة، وأناه التي تضيع بها ملامح الوطن وتختصره تاريخياً وجغرافياً وديمغرافياً، وبين المثقف الذي يحمل خطاباً منافياً للمشروع السياسي الممعن في إقصاء المثقف وإخصاء الأصوات الخارجة على طاعة وليّ الأمر العمياء الذي يعتبر الحرية والخبز والأوكسجين والغيث الذي يهطل من السماء، شكلاً من هباته ومكارمه.
وثاني الأسباب، تكمن في تخلّف التنمية المستدامة للمجتمعات العربية وسوء توظيف وإدارة المتاح من الموارد البشرية والثروات الطبيعية التي صار للإتّجار بها لتحقيق مصالح الفئات المتنفّذة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي محدوديّة ما يمكن توظيفه في الحقل الثقافي والمعرفي وفي خدمة البحث العلمي، وهو ما يُبقي هذه المجتمعات قابعة في قواقع تخلّفها، تواصل انحدارها في الوقت الذي تتصاعد، عند غيرها من المجتمعات، وتيرة النماء والتنمية وتراكمات الإنجاز على كافة الأصعدة.
وثالث الأسباب، تتمثل في بطء الاستجابة للكمّ الهائل من المعلومات والمعارف التي تنساب عبر قنوات الاتصال والتواصل في الفضاء الكوني المفتوح، وهذا يعني بقاؤها على شكل مستنقعاتٍ معلوماتية راكدةٍ، ويجعلها عاجزة عن الدخول في عملية التحديث والعصرنة.
*دكتور محمد، اليوم، بعد مرور أربعين عام على غياب الشاعر والروائي الأردني تيسير سبول، باعتقادك،…من القاتل ومن القتيل؟
غالباً ما يتحدث الناس عن القتيل وينسون قاتله، ويتجاوزون ملابسات الجريمة لأن إدانة الموتى أسهل كثيراً من إدانة الأحياء، بل إنهم في معظم الأحيان يحمّلون الموتى مسؤولية بلوغ آجالهم بهذه البساطة وعلى هذا النحو، في الوقت الذي كان بإمكانهم أي الموتى تحاشي الاقتراب منه، وهو أمرٌ مرفوض عقديّاً لأن الموت هو الحقيقة التي تحدّد مكانها وزمانها وأسبابها وظلّ هذا الأمر مخبوءاً في خزائن الغيب خلف أبواب موصدة عصية على الإدراك.
إن التشوّهات التي لحقت بالمجتمعات العربية إثر الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة شكّلت ضغوطاً إضافية على ‘تيسير سبول’ الذي لم تسمح له حساسيته المفرطة إزاء الواقع المأزوم من ابتكار وسائله الخاصة للمواجهة في طريقه النضالي الطويل من أجل تحقيق وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية، وقد آمن ‘ تيسير’ بأن غيابهما هو السبب الرئيس الذي يقف وراء هزائم الأمة وأعتقد أننا في اللحظة الراهنة لم نزل نعاني غياب هذه القيم الذي دفع تيسير سبول حياته احتجاجاً على غيابها، وهو ما يرشّح الأمة لتحقيق المزيد من الهزائم والانكسارات المتلاحقة بجدارة متناهية، لاسيما وأن المؤسسات القمعية الرسمية منها والشعبية، تعمل على تكميم المثقف وتحرم عليه المطالبة بحقه في الحرية والكرامة، وكأني بتيسير سبول قد رافق الموت في الحياة، فآثر أن يعيش الحياة في الموت، فذهب إليه راضياً مرضيّاً.