الشاعر السوداني بحر الدين عبدالله أحمد: دارفور احتضنت أرقى الحضارات الإسلامية في افريقيا
[wpcc-script type=”4a1b1e38793ec5348d5d0e83-text/javascript”]
يرى الشاعر السوداني بحرالدين عبد الله أحمد أنَّ تجاوز الذات والخروج عن النسق، هما أول شروط الإبداع. وبحرالدين شاعر ومترجم ودبلوماسي سوداني، من مواليد مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور. حائز ماجستير الأدب المقارن في جامعة كنت البريطانية. نقل العديد من القصائد من الفرنسية والإسبانية والإنكليزية إلى اللغة العربية من خلال الترجمة لبعض أعمال (بابلو نيرودا وفديريكا لوركا، لامارتين وغيرهم)، وأتاح له تحدثه بخمس لغات حية إلى جانب اللغة العربية فرصة إثراء تجربته من الثقافات الأدبية المتنوعة.
نشرت له عدة قصائد في الوسائط المسموعة والمرئية، ولديه مخطوطة ديوان شعري بعنوان «ثُمَّ يختفي الرمادْ». التقيناه على هامش فوزه بالمركز الأول في جائزة مهرجان المختار اللغماني للشعر الفصيح في تونس فكان هذا الحوار:
الشعراءُ ـ تماماً كالعصافير- منذ الريشة الأولى مجبولون على الغناء والتحليق ومسكونون بالحرية.
■ يقول محمد المكي إبراهيم» الشعر والسياسة لا يجتمعان في قلب شاعر» ، فكيف تصالح الشاعر مع الدبلوماسي في داخلك؟
□ الشعراءُ ـ تماماً كالعصافير- منذ الريشة الأولى مجبولون على الغناء والتحليق ومسكونون بالحرية، وهكذا الطيور حتى وهي في القفص تجد مُتَّسَعاً لطقوس أجنحتها، بل تفتح نافذةً على نهر الحياة لتُواعد صبايا الأغنيات. ثُمَّ، وهل كان للملك العظيم سليمان أن يأتي بعرش عابدةِ الشمس لولا خروج الهدهد توأمِ الشعراء عن سطوته؟ كما أنني لستُ بدعاً من أولي الخيال الذين جمعوا الدبلوماسية بالشعر، على أنَّ الثاني أجلُّ وأكبر من أن يُؤَطَّرَ، وسماواتُه أوسع من أن تُحَدَّ إلا بتخومِ المجازات، ويكفي أن نذكر من بين الشعراء الدبلوماسيين صاحِبَ «الشَّفَقِيَّات الشاعر التشيلي ريكاردو أليسير الشهير ببابلو نيرودا وصنوه العربيَّ ناحِتَ «أبجدية الياسمين» وكاتبَ «تاريخِ النساء» مُوجِد الهوامش الذي قالت له السمراءُ ما قالتْ، القُطْب الشِّعري نزار قباني.
■ كيف تقرأ المشهد الثقافي الشعري في السودان هذه الفترة؟
□ قبل الحديث عن المشهد الشعري في السودان، الذي هو في تقديري إطارٌ لمحتوىً ما، دعينا نتحدث أولا عن أولئك الذين يشكِّلون هذا المشهد ويلوِّنونه بريشة إبداعهم من جيل الشعراء الشباب، الذين ليسوا فقط حاملين للواء الشعر السوداني الباذخ، بل هم صانعوه ومثبِّتوا ساريته على رمال الخيال البعيدة. هو جيلٌ ـ وإن كان لا يزال في أمشاج التشكُّلِ- إلا أنه يُبدي جيناتٍ إبداعيةً كبيرة تمكِّنها من تجاوز محدوديات الذات، وفي هذا الجيل ثمَّةَ مَنْ أخرجَ شطأهُ وثَمَّةَ مَنْ استوى زرعُهُ على سُوقِ القصيدة، وعليه فإن نظرتي للمشهد الشعري في السودان تُركِّز على نوعِيَّة المحتوى لا هشاشة الإطار.
■ من خلال تجربتك في ترجمة الشعر إلى العربية، ما أهم معايير النجاح في ترجمة الشعر، وهل يمكن العبور بالنص حيا بدون أن يفقد روحه في الطريق بين لغتين؟
□ ترجمة الشعر عندي بمثابة محاكاة الظل للجسد فالظلُّ يبقى ظلاًّ وإن تقَمَّصَ حركاتِ الجسد وحاول التنزُّلَ على بعض مقاييسه وأبعاده، ولكن في الوقت ذاته يمكن للمترجم المبدع الذي يمتلك أدوات الترجمة الإبداعية من لُغةٍ عالية وخيال مُتَمرّد أن يتجاوز الظل إلى صناعة تمثالٍ يُحاكي الجسد تماماً، إلا من الروح بل قد يتمكَّن بعضُهم من نفخِ الروح في طين الجسد المُوازي.
■ ظهرت تجارب شعرية سودانية عديدة مؤخرا، فهل مارس النقد سطوته معها فخرجت من خلاله، أم أن النقد ما زال نائيًا عن المنجز الجديد؟
□ أظنُّ ـ وبعضُ الظن إثم، هذا إن لم يكن الظن بمعنى اليقين- أن النقد لم يكدْ يُطاول المُنجز الشعري في السودان، على الأقل في الوقت الراهن مع وجود بعض المحاولات، وهو الأمر الذي قد يتسبب في عدم التخمير الجيد للتجارب الناشئة واختبارها، بما في ذلك تجربتي الشخصية، ونقلها إلى مرحلة الاستقلال، حيث لا يحتاج فيها الشاعر إلى النقد بصورة كبيرة، لذلك كان لا بد من ظهور ثورة نقدية حقيقية تُواكب المنجز الشعري الكبير في السودان الذي أحسبُهُ من أخصب بلاد الله شعراً وفنَّا.
■ ما أهم دور يجب أن تلعبه الحركة النقدية في صياغة وترتيب بيت الشعر السوداني؟
□ أول ما يحتاجُه الناقد هو أن يستعير بعض الريش المُبلَّلِ بالثقافة والإبداع ليُحلِّقَ مع الشاعر في سماوات اللغة والتصوير والإيقاع والموضوع، حتى يكون بذلك أهلاً للتمييز بين النوارس واليمامات وطيور الزينة والنسور، لأن عالم الشعر هو عالمٌ فوقِيٌّ بيد أنَّ جذورَه كالبحر ضاربةٌ في عُمقِ الحياة، ولا بد للذي يوَّدُّ الولوج إليه أن يجمع بين الإخلاد إلى ما هو أرضِيُّ والعلُوِّ فوق ما هو سماويّ.
■ كيف تقيم دور المؤسسات الثقافية الرسمية في السودان من حيث دعم جيل الشعراء الشباب؟
تجاوز الذات والخروج عن النسق هو أول شروط الإبداع.
□ دائماً ما يتطلع الإنسان إلى ما هو أفضل والشاعر هو أكثر الناسِ تطلُّعاً إلى الأفضلية، لذلك رغم وجود بعض الرعاية من المؤسسات الثقافية في السودان للشعراء، خاصةً في الآونة الأخيرة وعلى رأسها بيت الشعر وبعض المؤسسات والمراكز الثقافية، فضلاً عن دعم وزارة الثقافة ودورها الإشرافي وبعض المسابقات هنا وهناك، إلا أن الشعر يستحق أكثر مما هو متاحٌ له الآن، طالما هو صوت الأمة وكتاب تاريخها الأول ومدوِّن حضارتها وصانع حاضرها ومرآةُ مستقبلها.
■ حرية ممارسة الإبداع بمعزل عن الرقيب الذاتي والمجتمعي، هل يستطيع المبدع تحقيقها؟
□ في تقديري أنَّ تجاوز الذات والخروج عن النسق هو أول شروط الإبداع فالمبدع الحقيقــي هو الذي يمتلك الجرأة لتمزيق الأزياء الجاهزة التي تُفصِّلُها العادات والتقاليد المُجتمعية ليُعيد تفصيلها من جديد، بما يتسع لإبداعه والقيم الإنسانية الكُبرى وهو قادرٌ كذلك على دكِّ الأصنام البشرية وهدمِ السقوف ليس فقط في عقلِه وحياته، بل وفي عقولِ وحياة الذين يتبرَّكون بماء وعيِهِ وخياله.
■ أخيرا، وبصفتك شاعرا من أهل دارفور التي عانت وما زالت تعاني، هل يمكن للشاعر أن يبدع بمعزل عن الهم المجتمعي؟
□ دارفور، تلك البُقعةُ المُقدَّسة التي لا يعرف الكثيرون عنها سوى خمسة عشر عاماً من عُمْرِها، ترتكز على إرثٍ حضاريٍّ مهول وتاريخٍ أقل ما يُوصف به أنَّه عظيم، دارفور هي الأرض التي احتضنت أرقى الحضارات الإسلامية في افريقيا، وهي التي تشرَّفت لسنوات طويلة بكسوة الكعبة وإطعام الحجيج وإيواء أهل العلم من شمال افريقيا وغربها، ومن الحجاز والشام وتكريمهم في عصرٍ كان التخلف أبرز سماته. أرضٌ كهذه قادرة بما أوتيت من حكمة أن تتجاوز محنتها، وجديرٌ بكلِّ من خالطتْ مشيمتُه أعشاب تلك الأرض الطاهرة أن يكون مرآةً لوجهِها الحقيقي الذي طالما خبَّأتْهُ أقنعةُ صُورِ الحرب النَمَطِية التي لا تعكسُ عن دارفور التي أعرفُها إلا الصبر وقوة التحمل.