الشاعر المغربي عبد الجواد الخنيفي: الشعر سيد الفصول.. ضد الضجيج العام
[wpcc-script type=”5758ca0a031e6d6c2ccdf4b4-text/javascript”]
يعد الشاعر المغربي عبد الجواد الخنيفي، أحد الشعراء المغاربة القليلين الذين يخطون مسارهم الشعري بكثير من الرصانة والهدوء والثقة، وبضجيج أقل، وهذا الملمح ينسحب أيضاً على قصيدته التي تتسم بالهدوء والصوت الهامس، وباحتفائها بالمكان والزمان والذوات في تحولاتها، وبالذاكرة المشحونة بالحنين والألم والأمل.
حول تجربته الممتدة عبر مجموعتين متميزتين: «الخيط الأخير» (منشورات وزارة الثقافة المغربية، سنة 2007) و«زهرة الغريب» (منشورات بيت الشعر في المغرب، سنة 2014)، وخصوصاً حول ديوانه الثالث «أبتسمُ للغابة»، الصادر مؤخراً عن منشورات رابطة أدباء الشمال في المغرب، كان هذا الحوار:
■ عنوان ديوانك الجديد «أبتسمُ للغابة» يحمل رمزية وهوية بنائية ودلالية مغايرة لما ألفناه من عناوين الدواوين الشعرية، حدثنا، كيف جاء هذا العنوان؟
□ في الكتابة الشعرية أو السردية يبقى المتخيل أو المعيش، هو المرتكز أو النافذة التي من خلالها ننصت إلى تلك الحوارية التفاعلية مع الوجود ومع جوهر الإنسان. ووفق هذا المؤشر فديوان «أبتسمُ للغابة» يتسم بصبغة حوارية، وبالنظر إلى الذات والهوية والوطن، وإلى الفرد في علاقته بالجماعة، في محاولة لفهم الآخر والعالم والأشياء والأفق الإنساني في انكساراته وتطلعاته وأحلامه، مستنداً في ذلك إلى بعض المكاشفة، واستحضار التفاصيل المرئية والانفعالات اليومية في الحياة/الغابة. حاولتُ، جهدَ الإمكان، أن يكون الديوان جسراً مختلفاً إلى القارئ، بتوجهاته الدلالية والأسلوبية باعتبار أن الكتابة تجربة في اللغة والحياة.. وكل تجربة هي رحلة متصلة، وهي بداية جديدة أيضاً.
■ تسكنك شفشاون حتى أنها لا تغيب عن قصائد مجموعتيك السابقتين، إلى أي حد تحضر أسئلة المدينة وتحولاتها في مجموعتك الجديدة؟
□ الصلة بين الشاعر والمكان، ومنذ أزمنة القبيلة والشعر الجاهلي، كانت ولا تزال هي المركز أو المحور الذي يطل من خلاله الشعراء على العالم. المكان في تعدده وفوضاه، في صخبه وهدوئه؛ هو جزء من الإرث الثقافي والانفعالات الإنســـانية، ومنبت الجذور وشرفة تفيض عن مساحتها، فهو الحاضن للتجارب والأفكار والأحلام عــــبر نافذة الإبداع. وهو يمدني بالكثــير من الجسور الرابطة بين الماضي والحاضر.. فهو الفضاء والرحم النقي، والفطرة الأولى والطفولة التي لا تنتهي، وقد يبرز حضوره الظاهر والخفي في الوجدان كما في الكتابة، وفي الرمز والكشف والإيحاء.
لا حاضر بدون ماض والعكس كذلك، فالنص ينبني على الاستحضار قبل انطلاقته في البحث عن أفق المعنى، وقد يرى الحاضر من زاوية انطلاقه من الماضي.
■ قصيدتك تشتغل على الذاكرة واسترجاعاتها، إلى أي حد يمكن أن يكون الأمر مساعداً على بناء عوالم شعرية. كأن قصيدتك بحث في الماضي لا بحثا عن المستقبل.
□ الذاكرة جزء من اليومي، والذاكرة شاشة الأيام، هي الصفاء والتجلي، وهي النفاذ من الفردية إلى الكونية، وهي الطريق التي تستوعب تلك الغيوم الطافحة بالسحر والغموض وهي كذلك الأقدر على ملامسة الكثير من هموم النفس البشرية في الحضور والاسترجاع. وبالتالي فهي تشكل ذخيرة رمزية في كل كتابة، فضلاً عن أنها شرارة المبدع في استلهام الماضي والتطلع إلى المستقبل.
■ قصائد مجموعتك تعبر عن حال زمنين وتتأرجح بينهما: الماضي والحاضر. حدثنا عن هذه الثنائية.
□ لا حاضر بدون ماض والعكس كذلك، فالنص ينبني على الاستحضار قبل انطلاقته في البحث عن أفق المعنى، وقد يرى الحاضر من زاوية انطلاقه من الماضي. فالماضي هوية لغوية ونفسية وشرفة نائية متعددة الروافد، تخضع لتأثيرات كثيرة وتموج بالتوتر والتلقائية التي تنهل من الفرح ومن الحزن، من الليل والنهار، من الضوء والظلمة، من الحيرة واليقين، ومن الخيبة والأمل.
■ ديوانك الجديد يحمل رسالة واضحة إلى العالم وإلى قراء الشعر؛ هل تؤمن بقدرة القصيدة على تغيير العالم؟
□ أعتقد أن زمن الشعر المؤثر أو الشاعر النجم قد أفلَ نوعاً ما، فقد فقد الشاعر الصلة مع جمهوره لاعتبارات وتقاطعات عديدة، منها ذلك التصحر الثقافي على مستوى ذهنية المتلقي الذي لم يعد يعنيه غير الوجبات السريعة في كل شيء، ولم تعد له القدرة أو النفس على احتمال دلالات وأبعاد النصوص الأدبية إلا في معابر قليلة. فالشاعر الصوت أضحى يغرد داخل عولمة تكتسح المظاهر والظواهر. لكن رغم كل هذا، مازالت هناك القصيدة التي تترك أثراً مستديما وتضاعف من نسبة الأوكسجين، تلك القصيدة التي لا تفقد راهنيتها الحسية، وتكشف عن العمق وتموجات الذائقة الجمالية وتلقائية التعبير ومحاربة القبح بحدائق الجمال. تلك القصيدة التي تراعي جانب الصفاء وتفتح مجالات جديدة في الكتابة، باعتبار القصيدة كائنا حيا كما يرى جون كيتس. أوليست هي كذلك نسغ الحياة؟ تجعل منظورنا إليها أكثر رقياً وتجعل الجمال ينفذ إلى العالم. فالشاعر اللبيب هو من يفتح آفاقاً واحتمالات غير متوقعة في تجربته الشعرية ويبرهن عن طاقته الخلاقة.
■ مدينة شفشاون مدينة قريبة من العالم، لكنها بعيدة عن المركز المغربي، إلى أي حد يساهم هذا القرب ــ البعد في بناء قصيدة مختلفة؟
□ كل مدينة هي محور العالم أو هي مركزه، ولا حدود في الكتابة بين الـ»هنا» والـ»هناك»، والمبدع الحقيقي ابن تجربته ومحور الابتكار الذي لا يجعله يفقد الصلة مع المدينة/ المركز. فالأمكنة سلسلة من التحولات، مثلها مثل المطر الذي يُكسب كل شيء معنى جديداً ومختلفاً، بعيداً عن ضغوط الواقع ومتطلباته الملحة. فالشاعر أو الكاتب وإن لم يزر كل الأمكنة، فهو يسافر روحياً بين خزانة كونية من الكتب ويُصافح العديد من الأصدقاء من أدباء وأساتذة تركوا في روحه مساحات شاسعة من الجمال.
الصورة الشعرية جزء أساسي من اشتغالي الشعري ومن نضج المخيلة، وهي الصلة المقرونة بالدهشة التي أحاول القبض عليها باستمرار.
■ إحدى قصائد مجموعتك مهداة إلى الفنان الفوتوغرافي مولاي أحمد بن الأمين العلمي، وأنت أحد المهتمين بهذا الفن، إلى أي حد تتشابك الفنون وتسهم في بناء قصيدتك؟
□ الصورة الشعرية جزء أساسي من اشتغالي الشعري ومن نضج المخيلة، وهي الصلة المقرونة بالدهشة التي أحاول القبض عليها باستمرار. والصورة الفوتوغرافية أو التشكيل أو باقي الفنون والجماليات، كل شعري مترابط وإن اختلفت طرق اشتغالها وتقديمها. والأهم في كل هذا هو المعنى والمناخات المميزة التي تجمعهم وفق رؤى متعددة لا تخلو من إبداع، ومن نحت للفكرة والموضوع، ومن مراعاة لطبيعة الاشتغال المؤثر.. وهي رحلة داخل القيم والأشكال. ترتحل في طيات النفس وتكشف حقيقتها ونوازعها.
■ يعرف الشعر اليوم حركية مهمة على مستوى النشر، لكنه يعيش مأزقا على مستوى التلقي، كيف تنظر إلى هذا المأزق؟
□ قد يكون الأمر كذلك، وأن النص الشعري يعيش غربة بشكل أو بآخر، نظراً لعدة تحولات موضوعية وغير موضوعية في راهن الوضع الإنساني والأدبي، وخريطة الحياة بصفة عامة، وهيمنة منطق الاستهلاك على منطق الذهن والتذوق الأدبي، لكن في نظري المتواضع أن الذات تظل ميالة إلى الجمال وإلى تفاعل العقل والإحساس. فمازال هناك المتابع الحصيف الذي يمدنا بالنبض ويتخذ من الإبداع منطلقاً للجاذبية، ويتغيا عبره القبض على الظاهر والخفي والدهشة والثراء. فالشعر كيفما كانت حالات الطقس والنفس، يبقى سيد الفصول يعبر عن تموجات الأعماق، ونتطلع إليه ضداً على الضجيج العام.. كما يبقى أثراً أدبياً ممتداً عبر أزمنة وعصور، وهذا سر وجوده إلى الآن وإن اختلف مجرى النهر والتيار.
■ حظيت مجموعتك الأولى والثانية بمتابعة نقدية مهمة من طرف أقلام نقدية لها مكانتها، كيف تلقيتَ هذا الأمر؟
□ المواكبة النقدية هي المرآة التي نرى بها وجوداً إبداعياً مختلفاً، هي نوع من الاعتراف والتقدير لتجربة المبدع ورد الاعتبار إليه، وفق حس نقدي ومسعى جمالي، وهي المنطلق نحو المزيد من السفر والمغامرة واستقراء العالم بلغة مغايرة ومستقطرة.. وهي كذلك التحول الذي يجعل صاحب النص الأدبي يرى ذاته من زاوية أخرى مختلفة.. زاوية تجسد حقيقته وتحولاته. فالشاعر الطموح هو من يوسع من قدراته الإبداعية ونفسَه الشعري ويشتغل بدقة الباحث عن الجوهري، وبمنطق التطريز الجمالي على مستوى نصوصه.