الشاعر والتشكيلي الأردني محمد العامري الفن حالة عرفانية تختار وسيطها الإبداعي

أصدر الشاعر محمد العامري ــ مواليد قرية القليعات الأردنية ــ مجموعته الشعرية الأولى عام 1990 بعنوان «معراج القلق»، وألحقه بعدة مؤلفات منها «خسارات الكائن» 1995 الذي حاز جائزة أفضل ديوان شعر عربي، «الذاكرة المسننة – بيت الريش» 1999، «قميص الحديقة» 2003 و«ممحاة العطر» 2017. أما في مجال الفن التشكيلي فقد صدر له في عام 2006 […]

الشاعر والتشكيلي الأردني محمد العامري الفن حالة عرفانية تختار وسيطها الإبداعي

[wpcc-script type=”d07320c97b8a6fa375ae075e-text/javascript”]

أصدر الشاعر محمد العامري ــ مواليد قرية القليعات الأردنية ــ مجموعته الشعرية الأولى عام 1990 بعنوان «معراج القلق»، وألحقه بعدة مؤلفات منها «خسارات الكائن» 1995 الذي حاز جائزة أفضل ديوان شعر عربي، «الذاكرة المسننة – بيت الريش» 1999، «قميص الحديقة» 2003 و«ممحاة العطر» 2017. أما في مجال الفن التشكيلي فقد صدر له في عام 2006 كتاب بعنوان «فن الغرافيك الأردني»، وآخر حول تجربته في الفن التشكيلي عام 2011 بعنوان «التفكير باليدين»، ثم كتاب حول سيرته الذاتية بعنوان «شجرة الليف» عام 2015، إضافة إلى عدة أبحاث ومعارض تشكيلية. عمل العامري مديرا لتحرير أكثر من دورية ثقافية منها مجلة «الفنون»، «التشكيلي العربي»، «أوراق» و«مدارج». كما حاز مجموعة من الجوائز أهمها جائزة (بينالي الكويت) لدورتين وجائزة (أفضل عمل فنّي من كلية الفنون والآداب جامعة فيلادلفيا) والجائزة الأولى في المعرض السنوي لمهرجان جرش وجائزة (لوركا) من معهد ثيرفانتس. وكان رئيسا لرابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين عام 2002، والآن رئيسا لمؤسسة عرزال الثقافية. التقته «القدس العربي» فكان هذا الحوار..

■ من بين المجالات الأبداعية المختلفة هل تجد نفسك أقرب للشعر أم الرسم؟
□ إن التمازج العضوي بين النص البصري والنص الشعري، هو من قديم الأزل ولم يكن هناك فصل بائن بين هذا وذاك، فالكلمات التي تشكل القصيدة عبر منظومة الجملة الشعرية وشكلها على الورقة هي أيقونة من المصفوفات الحروفية المركبة بعلاماتها وترقيمها، وهي حواس تتمازج بها صورة الصفحة وطبيعة الإيقاع في الحكي الشعري وصولا إلى الفواصل والهمزات التي تورق وتسقي شكل السطر الشعري، سواء كان قصيرا أو طويلا، وهناك تجارب كثيرة لم تر ضرورة للتعامل معهما بوصفهما منفصلين، لكننا نتورط في كثير من الأحيان بوصف الأشياء عبر مرجعيات سابقة تعلمناها من الموروث القديم.

التمازج العضوي بين النص البصري والنص الشعري، هو من قديم الأزل ولم يكن هناك فصل بائن بين هذا وذاك.

علما أن شكل القصيدة العمودية ما قبل الإسلام يقوم على التماثل الدقيق في طبيعة الإيقاع والتقطيع، وهي أقرب الى طبيعة التماثل في الفنون الإسلامية التطبيقية والزخارف التكرارية المتوالدة، التي تشي بنظام توالدي محكم. ورغم قِدم عبارة (سيمونيدس) «الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت»، فهي دلالة واضحة المعالم على العلاقة العضوية والجوهرية بين النص البصري والنص الشعري. فأنا لا أهتم كثيرا بتلك العلاقة كوني أدرك أن العلاقة محسومة في خضم التنزيل الإبداعي، فهي لحظات خاطفة تقودني إلى فعل الرسم أو فعل الكتابة، وأرى تداخلا ذهنيا في ما بين المناخين، لكنني أدركت أن القصيدة تحتاج إلى ليل وإعتام، أما الرسم فيحتاج إلى ضوء.
■ فهل نتحدّث عن التمثيل البصري للقصيدة في اللوحة أم التمثيل البصري للوحة داخل النص الشعري؟
□ إنها الحالة العرفانية العالية في النظر إلى جوانية الأشياء وحيويتها، فالألوان والأشكال ما هي إلا وسيط بصري يتحقق على السطح التصويري، لنقل ما تيسر من الحالة الصوفية في الرؤية إلى مشاهد جديد يحدق في روحك الماكثة في مربع اللوحة، يكشف عشقك عبر رصد علامات اللوحة كجغرافيا ترحل بك إلى عتماتها ونورها الخافت والساطع، ويكشف مسارات خطوط يدك في اللوحة؛ عنفها ورضاها، نعومتها وقوتها الكامنة في مكوناتها الجمالية. قراءات تراكمية لتاريخ روحك على الجدار، دهشة مناكفة تكشف عبرها خساراتك في الحياة وتجلياتك العالية. تربح تلك الخسارات كي تعود إليها مرّات ومرّات. إن التجريد الذي أفعله هو في المحصلة واقع يتحرك في محيطنا؛ واقع لا تراه العين الأمِّية؛ واقع يحتاج إلى عين حاذقة، عين مثقَّفة، فالوصول إلى التجريد هو بمثابة تقطير للأشكال الواقعية بلغة فنية عالية. إنها حالة لا تتحقق إلا عبر الخبرة والوعي العميق بماهية الفن. فواقع السحر الذي تعنيه تلك الاحجار في القصيدة واللوحة، أحجار كانت تنام بالخواتم، وأخرى أراها في النحور، تلصف كما لو أنها عين قط مذعور، في تجربتي كشفت عن تلك الكنوز التي كانت تختبىء داخل صندوق الجدة، وألقيت بها في أرض اللوحة لتضفي عليها معنى آخر، معنى يخصني، ويخص ذاكرة ذلك الطفل المشاكس.
الأحجار طلاسم غامقة
عيون اقتلعت من باطن صخرة بعيدة
ملاسة أقرب إلى صوت الغدير
الأحجار أحجيات لا تنتهي
ومعانٍ مقذوفة بجغرافيا البدن.
■ وهل يمكن القول بأن الطابع التجريدي لأعمالك هو الذي يثير الدهشة ويكسبها أفقها التأويلي؟
□ ذهبت إلى التجريد عام 2002 بعد بحث في تفاصيل صغيرة في جسد الصخرة، فوجدت تجريدا بفعل الطبيعة يحتاج إلى إحياء عبر تاريخ جديد في العمل الفني، فوجدته الأفق المفتوح الذي من الممكن أن أسكب فيه فيوض خيالاتي، وما أفكر به من تحولات في الشكل والمساحة والعلامات، وصولا الى تداعيات اللون في المساحة. وهو الأقرب إلى روحي، يعطيني مساحات هائلة للقراءات المركبة.

الألوان والأشكال ما هي إلا وسيط بصري يتحقق على السطح التصويري، لنقل ما تيسر من الحالة الصوفية في الرؤية إلى مشاهد جديد يحدق في روحك الماكثة في مربع اللوحة.

■ لك أعمال مستوحاة من شعر شربل داغر. ماذا عن هذه الحالة؟
□ أثارني شربل داغر بشعرية تمتلك وعورة لذيذة، وعورة المعرفة العمودية، فشعره أقرب إلى التصوف الجديد، تصوف يخصه هو، فهو متأمل كاهن لا يقف عند مفتاح الباب، بل ينظر من رائحة الخشب ليرى من مرّوا عليه، يقبض على رائحة الاشياء ككاهن يرش الماء المرشوم بالحروف لينعش شجرة اللغة. فكانت تلك القصائد تقدم لي حفريات من الصور التي أثارت لديّ الرسم والمحو والتطريس والإضافة، في محاولة مني للوصول إلى مناخات روحه العالية التي تسيل من النص. ففي كتابه «ترانزيت» على سبيل المثال يقدم داغر مغامرة جديدة، كعادته يختبر الأشياء، فحين قرأت «ترانزيت» وجدتني قد سافرت إلى عوالم مركبة، فهناك الشعرية العالية في مقاطع الكتاب ومفاصله، وهناك ديالوغ «حواريات» بين الذات والعالم، إضافة إلى بيرفورمانس قوي في جسد اللغة، كتاب يحتاج إلى مجموعة من الاختبارات التي ترحل إليها الفنون لتأوي إليه، كما لو أنه يصنع إلياذته الخاصة. نجد اللون «سينوغرافيا» كذلك الحركة والتساؤلات العديدة بين الذات والمتكلم، وبناء أمكنة مليئة بالخسارات والانتظارات، وأعتقد أن ذلك ليس غريبا على شربل فهو مطلع على مغامرات الغرب، في ما يخص تثاقفات الفنون في ما بينها. إن التعامل مع هذا الكائن الثقافي «شربل» يحتاج إلى خيال مركب، متجاوز الاعتياد، فكتاب «ترانزيت» دراما شعرية أيضا يقدم جرعة مركبة ومعقدة أحيانا فمن أراد أن يتعامل مع هذا النص يحتاج إلى جهد إضافي كي يصل إلى أرومة النص.
■ «أثر الفراشة» عملٌ فني كبير تحيّة لمحمود درويش، كيف ترى التجربة؟
□ كنت في تلك اللحظة مشغولا برسم فضاءات كتاب ”أثر الفراشة” للشاعر محمود درويش. فعلى مدار أكثر من خمسة أشهر وأنا أحاور هذا الكتاب الذي شغلني بجماليات اللغة المقطرة، وما وصلت إليه من تصوير شفيف لدى الصديق درويش. فهاتفته في لحظة انغماري بعمل فنّي ساد فيه اللون الأبيض وتجلياته الشفافة، فرد على هاتفي الشاعر درويش وتبادلنا حديثا ناعما وحنونا فيه من الحزن العميق والحشرجة المخنوقة، وأخبرته لكسر ذلك المزاج عن مشروعي في رسم «أثر الفراشة». وقال عظيم يا محمد وأردف قائلا: متى ستعرض تلك الأعمال؟ قلت: عام 2009 في شهر فبراير/ شباط في غاليري المشرق فردّ قائلا: بعيد! وانتهت المكالمة بعد ذلك بقليل وأخبرت أخي الفنان جهاد بأن درويش راحل، واندهش أخي من سوداويتي في هذا الحدس. وواصلت بحزن إكمال العمل كما لو أنني لن أرى درويش مرة أخرى، فكان الأبيض الشفاف ينتشر على سطح الورقة، كما لو أنه شاشة طاهرة أقرب إلى الرحيل، بل أقرب إلى موت ما ولكن ذلك اللون كان فرحا كأن رحيل الأبيض لا يحتمل سوى الخفة والرشاقة. ذلك الأثر الذي انتشر على جسد الورقة لم يغادرني بعد، كما حليب فائر يرضع من ريشة سريعة تارة وتارة أخرى متوقفة في نقطة ما، تلك النقطة التي تكاثرت في لحظات كانت تشبه رشقة ماء على تراب ناشف، نقاط متتالية تتبادل مواقعها في اللوحة وتأخذ ألوانا تشبه بقعا على أجنحة فراشة بريّة. لمعانٌ تشكل من طيرانها المرتبك في حقل مهجور، فالفراشة جنةٌ صغيرة تذهب وتؤوب للحظات ثم تغادر وتؤوب كما لذة في حين انتهائها نريدها مرات ومرات. هكذا كان كتاب «أثر الفراشة».

نعيش اليوم في أزمان مركبة اختلطت فيها العصور، فهناك سلوكيات تنتمي لعصور غابرة إلى جانب رفاهية التكنولوجيا التي اجتاحت الأرض.

■ إلى أي حد يمكن للفن والإبداع الإنساني أن يلعب دورا في أنسنة العــــالم ونحن نعيش زمن مآسي الحرب والإرهاب؟
□ منذ أن كانت الضحية تقاد إلى المذبح كقربان للآلهة، كان الإنسان ضحية معتقدات سادت في تلك الحقب، فقد دفعت الضحية سيلا من الدم جراء ذلك. نعيش اليوم في أزمان مركبة اختلطت فيها العصور، فهناك سلوكيات تنتمي لعصور غابرة إلى جانب رفاهية التكنولوجيا التي اجتاحت الأرض، كما لو أننا أمام أرجوحة تاريخية تذهب بنا إلى الوراء ثم تلقي بنا إلى آخر ما توصل إليه العلم، سيريالية الإنسان المعاصر الذي يمكث في صندوقه الإلكتروني، ليشتبك مع عوالم صادمة شكّلت وعيه الإنساني الجديد، فأصبح في حيرة من أمره في المقاربة بين الخطأ والصواب، فالإرهاب والحروب بشتى أنواعها، سواء كانت أهلية، أو من قبل عدو خارجي، كانت مصدرا مهما للمقاومة عبر الإبداع الإنساني، بل شاهدا على تلك المآسي التي خلفتها، فأصبحت تلك الأعمال وثائق بصرية دائمة تتحرك في وجدان الأجيال، عبر الحوار والمشاهدة والكتابة عن تلك الأعمال الخالدة .ولم يكن الفن بمنأى عن تلك التحولات، حيث حبرت الروح الإنسانية عبر الفن منجزات هائلة تنقد تلك السلوكات اللاإنسانية، وأذكر هنا ما ذهب إليه فرانشيشكو دي غويا في لوحة «الإعدام رميا بالرصاص» الذي قدم من خلالها كشفا مهما عن أعمال نابليون بونابرت في احتلاله لإسبانيا، وقام بقتل من يقف ضده، حيث شكّلت اللوحة مادة فاعلة لإدانة بونابرت على مدى التاريخ، وإلى يومنا هذا واللوحة تعرض الآن في متحف «دي برادو» في مدريد .وما فعله بابلو بيكاسو في لوحة «الغورنيكا» يعد انتصارا للفن ضد الإرهاب وضد أفعال فرانكو تحديدا. فأصبحت معلما مهما للتذكير بمآسي الحروب وتجلياتها السوداوية على الإنسان، وتجولت اللوحة في معظم متاحف العالم كدعوة للسلام، ونبذ الحرب ومآسيها.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *