فضيلة الشيخ أ.د ناصر بن سليمان العمر(المشرف العام على موقع المسلم ) بحر لا ساحل له إن أبحرت من شاطئ العلم أبحر بك، و إن أبحرت من شاطئ التربية أبحر بك، و إن أبحرت من شاطئ الحكمة أبحر بك ، في هذا الحوار والذي امتزج خلاله علمه بخبرته وحكمته ، يحل فضيلته ضيفاً عليكم لنناقش من خلاله قضايا مهمة تهم الأسرة والمجتمع في آن واحد، بل وتهم الأمة أجمع .
**فضيلة الشيخ : كنت ولا زلت ترى أن الطريق لإعداد الأمة هو البناء التربوي التراكمي المؤصل ، فهل يمكن توضيح هذا المصطلح ؟***
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :
بادئ ذي بدء ، فإنني بعد شكري لله وتوفيقه ، فإنني أتقدم بشكري للإخوة القائمين على هذا الركن لما أراه من إبداع وتجديد ومتابعة لقضية من أهم قضايا الأمة ، ألا وهي القضية التربوية فجزاهم الله خيراً، وبارك الله في أعمالهم ، وثبتنا وإياهم على الحق حتى نلقاه .
بالنسبة للسؤال فإنني أقول : نعم ، إنني كنت ولا أزال أرى أن من أهم الطرق لإعداد الأمة هو البناء التربوي التراكمي المؤصل ، وعندما أطرح هذا الأصل فإنني ألفت النظر إلى أن البناء التربوي التراكمي المؤصل يندرج تحته عدة معان:
فهو أولا من البناء ، والبناء يخالف الهدم فهو عمل إيجابي .
ثم هو عمل تربوي، أي: يتعلق بتربية الأمة رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً ، شباباً وكهولاً ، بنين وبنات ، فهو بناء تربوي يدل اسمه على الفئة المستهدفة ، والبرنامج المتخذ لتحقيق هذا الغرض .
ثم هو أيضا تراكمي ، أي أنه لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها ، وإنما يبنى بعضه على بعض حيث إن اللاحق يستند على السابق ، والمتقدم يكون لمابعده ارتباط به .
بمعنى آخر : عندما نضع نوعا أو منهجا من هذه المناهج يجب أن لا نجعل المناهج منفصلة – أي : ينفصل بعضها عن بعض – بل ينبغي أن تكون مترابطة متماسكة ، كترابط الجسم فكل عضو في الجسم له ارتباط بالعضو الآخر كما بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فهو يدل على الترابط الوثيق بين جميع أجزاء البدن ، فكذلك البناء التربوي التراكمي هناك ترابط بين جميع أجزائه ، وهو أيضاً يتصف بالمرحلية ، ففي الوقت الذي هو مجموعة من الأجزاء في الوقت الواحد ، فكذلك لا يمكن – كما بينت في أول الجواب – أن يكون في مدة معينة واحدة ، وإنما في أوقات زمنية قد تستغرق سنوات عدة ، بل قد يستغرق البناء التربوي التراكمي أحياناً عشرات السنين ، عشر سنين ، عشرين سنة ، ثلاثين سنة .
بل إن المؤمن ما دام حياً فإنه يتلقى التربية حتى آخر لحظة من حياته .
أما كلمة المؤصل ، فإننا نقول :إنه بناء يعتمد على أصول عريقة ، يعتمد على الأصلين الشريفين على الكتاب والسنة وما استمد منهما من منهج السلف الصالح – رضوان الله عليهم- ، فهو بناء مؤصل قاعدته ضاربة في الجذور عميقة في دلالتها ومنطلقاتها لا تهزها رياح ؛ لأن هناك بناء تربوي تراكمي لكنه ليس مؤصلا ، مثلاً : كالبناء المبني على العرف أو العادة هذا يتغير بسرعة عندما ينتقل الإنسان من مجتمع إلى مجتمع ، فإنه يتأقلم مع المجتمع الجديد وينسى ما كان عليه وربي عليه في المجتمع السابق ؛ لأنه لم يرب تربية مؤصلة ، أما المسلم الذي يربى تربية تراكمية مؤصلة فإنه في أي أرض كان ، وفي أي زمن كان لا تتغير سيرته ولا منهجه ولا قناعاته ، مادام قد ربي على منهج أصيل على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح .
فبهذا ، بهذه العناصر يكون البناء التربوي التراكمي المؤصل ، فهو بناء ، وهو بناء تربوي ، وهو بناء تربوي تراكمي ، ومع ذلك فهو بناء تربوي مؤصل قاعدته صلبة ، قاعدته لا تهزها الرياح كما بين الله – جل وعلا- في سورة إبراهيم 🙁 ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، وكما بين النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث ابن عمر أن النخلة أشبه بالمسلم ، النخلة فيها شبه بالمسلم ، والمسلم أيضا فيه شبه من النخلة ، فالنخلة نجد أنها تغرس غرساً قوياً ، النخلة لا تؤتي أكلها فجأة كبعض البقولات وغيرها قد تؤتي ثمرتها خلال أيام ، أما النخلة فلا .. إنها تستغرق عدة سنوات من أجل أن تؤتي أكلها ، فهو تراكمي ، وهي قاعدتها عميقة ، ولذلك ضرب الله – جل وعلا – بها المثل وكذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فلعل بمثال النخلة يتضح ما أريده عندما أقول : البناء التربوي التراكمي المؤصل .
**بناء على ما ذكرتموه – حفظكم الله – يتبادر لكثير من المربين سؤال كبير وهو : ما أهمية التربية في بناء الأمة ؟ وكيف يمكن توظيفها بصورة إيجابية في إحداث التغيير الاجتماعي ؟ ***
بالنسبة لهذا السؤال أقول :
**وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل ***
هل هناك شك أو ريب في أهمية التربية في بناء الأمة ؟
بل السؤال ينبغي أن يكون : هل يمكن أن تبنى الأمة بدون تربية ؟ لاتوجد أمة من الأمم يتم بناؤها إلا بالتربية الجادة بالتربية المؤصلة ، فالتربية هي الأساس الذي تبنى عليه الأمم ، ولذلك فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما بعث أول ما بدأ عندما بلغ ودعا للتوحيد سراً كانت الوسيلة لتبليغ رسالة ربه وللقيام بالمهمة العظمى التي بعث بها هي التربية ، فبقي ثلاث سنوات – صلى الله عليه وسلم – وهو يربي الأمة في دار الأرقم سرا ، وعندما كون جيلا صلبا وإن كان عدده قليلا ، ولكن التربية التي تلقاها كانت ضخمة ومؤصلة وقوية هنالك أعلن دعوته ، حيث وجدت الأركان والدعائم التي تبنى عليها الأمة ، وتكون منطلقاًُ للرسالة والدعوة .
أما الشق الثاني من السؤال ، وهو : كيف يمكن توظيفها بصورة إيجابية في إحداث التغيير الاجتماعي ؟
أقول أولاً : يجب علينا أن ننظر في المجتمع ما الشيء الذي ينقصه ؟ أي : ما الشيء الذي نصبوا إلى أن يكون المجتمع عليه ؟ وما الأشياء التي نرى أنه لابد من إزالتها من هذا المجتمع ؟
فالمربون والقادة التربويون والمعنيون بشؤون التربية عندما يأتون للمجتمع عليهم أن يشخصوا حالته ضمن هذين المنطلقين . من هنا يجب أن نهتم بأمرين عند التغيير الاجتماعي الإيجابي :
**الأول*** : أن هناك قضايا موجودة في المجتمع يريد المربي أن يزيلها أو يغيرها ؛ لأنها لا تمثل البنية التربوية الصحيحة ، وهي مخالفة للمنهج وللهدي النبوي .
**الثاني :*** أن يكون هذا المجتمع تنقصه أشياء لا بد من إيجادها فيه فيسعى المربي من خلال التربية نفسها لإزالة ما يرى إزالة ، وإيجاد ما يرى أنه ليس موجوداً ، فتكون التربية هي الوسيلة أو من أهم الوسائل في إحداث التغيير الاجتماعي ، وبخاصة أن المرحلية هي من أهم سمات التربية ، فالتركيز على أجيال جديدة ناشئة تركيزاً قوياً لتحقيق الأمرين فيها إزالة ما نرى إزالته مما هو موجود في المجتمع من عادات أو تقاليد أو أنماط اجتماعية خاطئة ، فيربى الجيل الجديد بعيداً عن هذه الأشياء .
ثانياً : إيجاد سلوكيات وأنماط اجتماعية وفق المنهج النبوي لم تكن موجودة في هذا المجتمع ، بهذين المسارين يتحدد التغيير ويحدث التغيير الاجتماعي .
لنأخذ مثلاً يوضح هذه القضية ، فمثلاً : في بعض المناطق كانت قضية كشف الوجه عادة من العادات ، وقل أن تجد امرأة وهي متحجبة ، حتى عند بعض الطيبين وبعض الأخيار يرون أن هذه من عاداتهم ومن أمورهم الاجتماعية ، لكن البعض يقول : أنا لا أقر هذا ولكن يصعب أن أغيره ، ونعم توجد بيوتات ملتزمة – والحمد لله – بالحجاب ، ولكنها لم تكن تشكل نسبة كبرى في ذلك المجتمع أو تلك البيئة ، المربي هنا يحاول أن يركز على إزالة هذا الشيء ، كيف ؟
يبدأ في الجيل الجديد من البنات والفتيات في تربيتهن على الحجاب من خلال قنوات تربوية كثيرة جداً ، المدرسة ، المسجد ، الدور النسائية ، الكتيبات ، الأشرطة ، الرسائل .
وفي الوقت نفسه أيضاً يعنى بالآباء والأمهات ، ما مرت سنوات قرابة – والحمد لله – عشرين سنة – نستطيع أن نقول – إلا حدث العكس فإذا ذاك المجتمع الذي قل أن تجد فيه امرأة محتجبة – وإن كانت والحمد لله تغطي رأسها وسائر بدنها – أصبح العكس تماماً حيث قل أن تجد فيه امرأة سافرة ، حتى النساء الكبيرات اللاتي مضى شطر طويل من عمرهن وهن كاشفات الوجوه أصبحن الآن يحتجبن .
إذن ، فالتركيز على الجيل الجديد خلال عشرين سنة – ودائماً ينشأ الجيل الجديد بحدود عشرين سنة تقريباً إلى ثلاثين سنة – فنشأ جيل جديد من الفتيات ، تعلمن وتربين على الحجاب ، ولم يتربين على تقاليد وعادات أهلهن ، فأثر ذلك حتى في الأمهات الكبيرات ، خاصة أنه صاحب ذلك وسائل أخرى ساعدت على تحقيق هذا الأمر ، وهذا فيه إزالة مظهر كان سلبياً وإيجاد مظهر إيجابي عملي .
أيضاً من الأنماط الاجتماعية التربوية مثلاً : قبل أربعين سنة ما كانت العمرة معروفة في المجتمع إلا في رمضان وفي الحج ، ونادراً ما نجد مثلاً إنسانا يذهب في الصيف إلى أخذ العمرة ، بل كنا نجد كثيراً من العوائل تسافر للسياحة ، حتى أحياناً خارج المملكة ، بل حتى كانت العمرة في رمضان محدودة جداً لا يذهب إليها إلا بعض كبار السن .
من أجل إيجاد نمط تربوي عبادي لم يكن موجوداً بشكل كبير ، بدأ الدعاة وبدأ التربويون يربون أجيالاً جديدة لإيجاد هذا الشيء الذي لم يكن موجوداً ، فأصبحت العمرة الآن لا تؤدى في رمضان فحسب، بل تجد كثيراً من الناس يؤدونها في الصيف ، تأتي إلى مكة الآن وكأنك في رمضان ، مع أنها في الصيف وجو مكة حار ، أصبح كثير من الناس يقضي عطلته أو جزءا من عطلته مع عائلته في مكة ، أما رمضان فأصبح الآن موسماً لم يكن هذا الأمر معروفاً قبل ثلاثين أو أربعين سنة أبداً. هذا نمط تربوي فهو تغيير اجتماعي، وتغيير اجتماعي ؛ لأنه لم يعد قاصراً على الشباب ، بل إن المجتمع كله تغير ، تذهب العوائل بأكملها لمدة شهر ، عشرة أيام ، عشرين يوم في مكة فهذا تغيير اجتماعي تربوي إيجابي ، فهذا إيجاد ما لم يكن موجوداً بشكل كبير .
إذن ، التربية هي الأساس إذا وظفت توظيفاً صحيحاً في تغيير الأنماط الاجتماعية .
**فضيلة الشيخ : هل ترون أن ثمة جوانب مهمة للتغيير الاجتماعي غفل عنها المربون والدعاة، سواء في مجالات التغيير أو وسائله أو الفئات المستهدفة ؟ ***
نعم ، هناك جوانب قصر فيها المربون والدعاة فيما يتعلق بالتغيير الاجتماعي ، فمثلاً في جوانب في مجالات التغيير التي أرى أن فيها تقصيراً ظاهراً هي ما يتعلق بتوحيد كلمة المجتمع وإزالة الفوارق بين فئات المجتمع المختلفة ، فهل نجح الدعاة والمربون في تضييق هوة تلك الفروق الاجتماعية التي لم تبن على أسس شرعية ؟ سواء أكانت بسبب الاختلاف في الفقر والغنى أو الاختلاف في النسب والانتماء أو الاختلاف في المناطق ، أي: في الانتماء لمنطقة أو السكنى في منطقة غير أخرى ، نجد فروقاً اجتماعية ، واختلافاً اجتماعياً في هذا الجانب ، وكان من المهم أن يولي المربون والدعاة هذا الجانب عناية كبرى لما له من أثر في التغيير الاجتماعي الإيجابي ، ولما له من أثر سلبي عندما يستغله الأعداء ، وهكذا فعلوا ، فها نحن نرى أن هناك فئات ينظر إليها نظرة دونية، سواء بسبب انتمائها لبلد دون آخر ، أو لانتمائها لعائلة دون أخرى ، أو نظراً لحاجتها المادية ، أو نظراً لمراتبها الوظيفية … وهلمّ جرّا .
فكان هذا الأمر يشعر الذات ، ويظهر التقصير فيه – كما أشرت – .
ومن الوسائل المهمة التي تؤثر في المجتمع للتغيير الاجتماعي ما يتعلق بالعادات والتقاليد ، وما يتعلق أيضا بالوسائل الموصلة للتغيير كوسائل الإعلام ، فنجد أن هناك تقصيراً أيضا ظاهراً بالسيطرة أو بالتمكن من وسائل الإعلام ، فلو أخذنا مثلاً : القنوات الفضائية ، كم يملك الدعاة والمربون من قنوات فضائية ؟ كم يملكون من محطة إذاعية؟ مع سهولة إنشاء المحطات الإذاعية فهي ليست كالقنوات الفضائية ، كم يملكون من مجلة إسلامية ؟ كم يملكون من صحيفة يومية أو أسبوعية ؟ فهناك تقصير واضح فيما يتعلق بالوسائل المؤثرة في التغيير الاجتماعي ، وإعادة البنية الاجتماعية نحو الاتجاه الصحيح .
وكذلك الفئات المستهدفة ، نجد أن هناك أيضاً تقصيراً في توجيه الرسالة لبعض الفئات المستهدفة ، فمثلا : فئة الملأ وهم من يعدون في المجتمع من أصحاب السلطة ولهم مكانتهم الاجتماعية بسبب جوانب اعتباريه كالجانب المالي ، أو الوظيفي ، أو نحو ذلك ، هل نحن وجهنا عناية خاصة لهؤلاء أم أن الأعداء سبقونا إليها ؟
في داخل المجتمع نفسه أيضاً الآباء والأمهات كم نصيبهم من الرسالة التي نوجهها إليهم من أجل التغيير الاجتماعي ؟
نحن غفلنا وقصرنا في هذا الجانب ، وكان من المهم أن توجه عناية كبرى للآباء وللأمهات بشكل أكبر مما هو موجود الآن من أجل أن يكون التغيير الاجتماعي تغييراً متكاملاً ؛ لأنك لا تستطيع أن تغير فئة دون أن يكون التغيير قد شمل من حولها والقريب منها ، فلا تستطيع أن يكون التغيير في جيل الأبناء بمعزل عن التغيير في جيل الآباء ؛ لأن ذلك سيحدث عائقاً كبيراً ظاهراً ، بينما لو أن الرسالة وجهت للجميع وأعطي عناية خاصة لكان التغيير أسرع وأولى ، والله أعلم .
**ألا ترون – حفظكم الله – أن الأمة تواجه هجمة كبيرة للتغيير الاجتماعي في مختلف الجوانب التربوية ، فما دور العلماء والدعاة والمربين بصفة خاصة ، والأمة بصفة عامة لمواجهة هذا التغيير ؟ ***
نعم الأمة تواجه هجمة كبيرة للتغيير الاجتماعي في مختلف الجوانب التربوية وغيرها ، والعلماء والدعاة والمربون يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الجانب ؛ لأنهم هم القادة ، ولهم الريادة ، ولأنهم يملكون من الأدوات والوسائل ما لا يملكه غيرهم .
ولهذا فإن دورهم يتركز في قيادتهم الأمة نحو التغيير الاجتماعي الإيجابي ، وأن يقفوا سداً منيعاً ضد أي تغيير سلبي ، فالتغيير الاجتماعي الغربي أو نحو ذلك كما هو سائر في المجتمع ، ويتمثل هذا بالتزامهم شخصياً في مُـثــُل وسلوكيات يبثونها في المجتمع ، والناس يقتدون بهم بفعلهم ، وبأفعالهم أكثر من أقوالهم ، وأيضاً أن يكونوا رسل خير وإصلاح _كما هم كذلك والحمد لله_ لتحذير الناس من خطورة التغيير الاجتماعي الذي يتسلل إلينا عبر وسائل الإعلام وغيرها ، وهو تغيير اجتماعي نحو الأسوأ ، نحو التبعية الغربية بأنماطها المختلفة ، فيأتي العلماء والدعاة والمربون ويحذروا الناس ، ويحذروا العامة والخاصة ؛ لأن الناس لا يدركون خطورة ما يفعلون .
لنأخذ مثلاً يبين هذه القضية ! المطاعم التي انتشرت في بلادنا من مطاعم غربية كهذه التي نراها الآن يصعب حصرها في كل زاوية وفي كل شارع ،( ماكدونالدز وغيرها ) من المطاعم التي جاءتنا من الغرب . كثير من الناس بل لا أجافي الحقيقة إذا قلت : إن بعض الدعاة أو بعض طلاب العلم أو بعض المربيين أو بعض المثقفين لا يدرك خطورة هذه المطاعم ، ويتصور أنها مجرد وسائل تسويقية لنوع من الطعام والأكل ، بينما في الحقيقة تحمل نمطاً اجتماعيا خطيراً ، ففيها مظاهر سلبية كثيرة جداً في الجانب المالي ، في الجانب الصحي ، في جانب التفريق بين الأجيال في تناول الطعام، فبدل أن كان الناس يجتمعون على نوع واحد من الطعام كما في الأجيال الماضية ، إذا كل واحد من أفراد العائلة يأكل وحده سواءً في ذات المأكول ، أو في الوقت هذا يتعشى في أول الليل أو في الوسط ، وهذا في آخره ، وهذا أحدث نوعاً من التغيير الاجتماعي ، بالإضافة إلى ربطهم بالحياة الاجتماعية الغربية من خلال مصطلحات ما كنا نعرفها ، وهذه تتسلل إلى القلوب وإلى الأفئدة وتحدث نوعا من التغيير الاجتماعي .
فكثير من الناس لا يدرك خطورة هذا الجانب ، المربون ، الدعاة ، العلماء مسؤوليتهم كبيرة في إيضاح خطورة هذه الأنماط الاجتماعية الغربية وتأثيرها ، ففي الوقت نفسه الذين هم قدوة في المقاطعة لبعض المنتجات الغربية ، مثلاً كالمنتجات الأمريكية عندما تدخل بيت أحد العلماء أو الدعاة وتجده قد قاطع نوعاً من الأنواع الغربية ، أنا لا أقول على سبيل الوجوب ؛ لأن هذا الأمر حكم شرعي، والقطع بتحريمه فيه نظر ، ولكن لا شك أن مقاطعة المنتجات الغربية وأخص منها الأمريكية واليهودية مطلب شرعي مؤثر في المجتمع ، ويتعلق به وسائل كثيرة تتعلق بالولاء والبراء ، نخلص من هذا إلى أن العلماء والدعاة والمربين ، قادة الإصلاح هم الذين في المقدمة لمواجهة هذا التغيير الذي يراد بالأمة ، أما السكوت ، أما الاستسلام ، أما المساهمة – أحياناً – بغير قصد بهذا التغيير نحو الأسوأ ، أي في التغيير نحو العادات الاجتماعية الغربية فهي مصيبة ، على قادة الأمة أن ينتبهوا إليها قبل فوات الأوان ؛ لأنه يصعب بعد ذلك إذا تغير المجتمع أن يعاد إلى نقطة البداية ، لا أقول يستحيل ، ولكن لا شك أنه يصعب وفيه مشقة ، بينما إذا كان التغيير في أوله فإنه بالإمكان أن يعالج وتعالج المشكلات قبل استفحالها ، والله أعلم .
**ما قول فضيلتكم في العوائق التي يمكن أن تضعف الدور التربوي في التغيير الاجتماعي ؟ وكيف يمكن التغلب عليها ؟***
العوائق التي يمكن أن تضعف الدور التربوي في التغيير الاجتماعي كثيرة جداً ، ويصعب حصرها في هذه العجالة ، ولكن نشير إلى بعضها على سبيل الإشارة .
سبق أن أشرت إلى أن البناء التربوي بناء تراكمي ، قد يحتاج إلى وقت طويل من أجل أن يحقق أهدافه ، إذا أضفنا إلى ذلك أيضاً الجانب التربوي يحتاج إلى وقت وتدرج ومرحلية ، وكذلك التغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها ، طبيعة التغييرات الاجتماعية لا يمكن أن تكون في خلال أيام أو شهور ، وإنما تستمر سنوات حتى تكتسب الأمة عادات جديدة، وتتخلى عن عادات أخرى، سواء كانت سلبية أو إيجابية .
هذا الجانب لا يستطيعه كثير من المربين والدعاة وهو الصبر والتحمل وطول الأمل ، طول النفس وعدم الاستعجال .
إذن نجد أن الاستعجال وقصر النفس أو عدم تحمل المشقات وتبعات الطريق عائق كبير ، ولذلك نلاحظ أنه يتساقط بعض المربين بين فينة وأخرى ، نجدهم أعلاماً في المجتمع وبعد سنوات فإذا نحن لا نرى منهم أحداً ؛ لأن العملية _كما قلت_ التغيرية التربوية والاجتماعية تحتاج إلى مراحل وإلى وقت وإلى تدرج ، هذا جانب مهم .
أيضاً كذلك نجد أن موضوع التغيير الاجتماعي موضوع حساس ، فمثلاً إزالة الجوانب الطبقية ليس من السهولة أن تأتي فقط للناس وتقول: هذا الأمر الذي تقومون به لا يجوز، أو ما أنتم عليه من تقسيم طبقي لا يجوز، إنما يحتاج إلى نوع من السلوكيات ، ونوع من القدوة ، ونوع من التغيير الهادئ حتى يصل الناس إلى قناعة من أجل أن يغيروا هذا السلوك الاجتماعي الخاطئ ، وينتقلوا إلى السلوك وإلى الجوانب الاجتماعية الصحيحة . الحساسية الشديدة في هذا الموضوع هي عائق كبير ، ولذلك نجد أن نسبة التغيير فيه ضعيفة جداً كالجوانب القبلية مثلاً أو الطبقية ، ولذلك نلحظ أن نسبة التغيير فيها _كما قلت_ محدودة جداً لا تتناسب مع جهود العلماء والدعاة والمربين والمصلحين في المجتمع ، نجد أن هؤلاء المصلحين قد حققوا قفزات كبيرة جداً في مجالات دعوية كثيرة إيجابية يحمدون ويشكرون عليها، لكنهم في المجالات الاجتماعية والتغيير الاجتماعي، نجد أن التغيير لا يتناسب مع المكانة الكبرى لهؤلاء، مشكلة هذا الجانب أن البعض قد لا يسمع له، ليس كل العلماء القادة المصلحين يستطيعون القيام بالتغيير الاجتماعي ، وهذه مسألة لحساسيتها تجعل الإنسان يدرك الصعوبة التي يتحملها من يسمع له ويقتدي بهم في تغيير أي نمط من الأنماط الاجتماعية الخاطئة، إذن أقول : هناك عوائق تحتاج إلى أن نفصلها ونضعها في مناهجنا بطريقة توجيه دون أن تثير أي حساسيات، أن نضعها في أولوياتنا في أحاديثنا في خطب الجمعة في المحاضرات في الدروس، أن نضعها في أولوياتنا في جانب الاقتداء؛ لأنه عندما يأتي أحد كبار العلماء أو كبار المصلحين والقادة ويغير ويقوم بنفسه بتغيير نمط اجتماعي دون ضجيج ، يبدأ يقتدي به الناس شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الأمر الذي لم يكن يتصور الناس أنه يمكن تغييره إلى أمر مألوف، أما الاكتفاء بمجرد الكلام والوعظ والتذكير ، وعندما نرى ممارسة بعض من يتحدثون في هذا الأمر إذا هي تخالف ما يقولون وما يدعون إليه، هنا يصبح التعبير فيه صعوبة وفيه مشقة وهو من أكبر العوائق.
**فضيلة الشيخ نلاحظ أن الشباب بصفة خاصة لهم مساحة كبيرة في اهتماماتك، فلماذا تهتم بهذه الفئة كثيراً؟ ***
سبحان الله ..! إن لم نهتم بفئة الشباب فبأي فئة نهتم ، وأنا عندما أهتم بفئة الشباب لا ألغي من اهتماماتي بالكبار والرجال والنساء، بل إنني الآن عندما أدعى لمحاضرة في هذه الإجازة الصيفية من المراكز الصيفية مثلاً قد اعتذر ؛ لأنها موجهة للشباب بصفة خاصة، ولكن عندما أدعى فيما يتعلق بموضوع المرأة أستجيب مباشرة، وقد استجبت لعدة دعوات في هذا الصيف، فكل فئة من المجتمع لها نوع من الاهتمام، لكن العناية بفئة الشباب ؛ لأنها مستهدفة في الأصل من الغرب، فالغرب الآن يستهدف بصفة خاصة الشباب ، فلذلك لا بد أن نقابل هذا الاستهداف باستهداف مماثل، الشباب كما بينت في إحدى الإجابات على أحد الأسئلة أنه عن طريقهم يتم التغيير، فكثير من السلوكيات والعادات التي كانت في المجتمع عندما وفق الدعاة والمربون إلى تغيير أنماط الشباب وأوضاع الشباب تغير آباؤهم وأمهاتهم ومجتمعهم، الشباب هم أيضاً من يكون التغيير عن طريقهم أو في ذواتهم أسهل من التغيير في صفوف الكبار؛لأن الغصون إذا عدلت وهي غصون يسهل تعديلها ولا تلين أو يصعب أن تلين إذا كانت خشباً، ولا يعني ذلك أن نهمل جيل الآباء، جيل الأمهات، الكبار، الصغار أبداً ، بل نجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عني بالشباب عناية خاصة، الذي يتابع الأحاديث ويقرأ السيرة يلحظ العناية والاحتفاء بشباب الصحابة _رضوان الله عليهم_ ثم هم الأمل – بإذن الله – في المستقبل عندما ينتهي الجيل الأول يأتي جيل ثان، يأتي جيل الشباب وهو الجيل الثالث، هؤلاء يصبحون الجيل الثالث ثم يصبحون الجيل الأول، فإعدادهم وتربيتهم وتهيئتهم يمثلون قيادة للمجتمع ، فأعتقد أن السؤال ليس لماذا نهتم بجيل الشباب؟ ولماذا لا نعنى بالشباب؟ إنما يكون السؤال: لماذا لا نهتم أو لماذا لا يهتم بعض الدعاة بالشباب؟ لماذا لا يفتحون صدورهم للشباب؟ ثم يا أخي الكريم لأكن صريحاً معك، انظر إلى التفجيرات التي حدثت مثلاً في الرياض في هذه السنة على حسب الإعلام الرسمي فإن جميع، أقول: جميع الذين شاركوا فيها من الشباب لا أقصد بالضرورة من الشباب الصالحين، وإنما هم في السن العمرية في سن عمر الشباب، فإذن لم نر منهم رجالاً كباراً في السن ، بل عندما ننظر إلى الجهاد في أفغانستان مثل ذلك، وفي ميادين الجهاد الكبرى نجد أن أغلب من شارك فيها هم الشباب صحيح بعض كبار السن، بعض العلماء، الدعاة، لكن النسبة الكبرى من الشباب الذين الآن يتفاعلون مع الأحداث بشكل كبير للغاية ويمثلون ضغوطاً نفسية واجتماعية في كثير من القضايا الكبرى من قضايا الأمة هم من الشباب ، انظر إلى الذين يقدمون أنفسهم في فلسطين مَن؟ هم من الشباب ، انظر إلى جيل الانتفاضة في فلسطين هم جيل الشباب ، فإذن السؤال ليس لماذا أهتم أو اهتم غيري بذات الشباب ؟ إنما السؤال الكبير: لماذا لا نهتم، ولماذا نقصر في حق هذه الفئة ؟
نجد عندما ننظر إلى الدروس والمحاضرات التي يحضرها الناس للعلماء والمشايخ أغلب من يحضرها هم جيل الشباب، وهذا أمر طبعي ؛ لأن الأجيال المتقدمة أجيال السن المتقدمة تكون التزمت التزامات معينة قد انشغلت قد تربت على أمور معينة بخلاف الشباب الذي يعدون ويتطلعون إلى مستقبل مهم للغاية.
**فضيلة الشيخ : ما أهمية توثيق الصلة بين الشباب والعلماء ؟ وكيف يمكن توثيقها ؟ وما دور العلماء والشباب في ذلك ؟***
الحديث عن أهمية توثيق الصلة بين الشباب والعلماء حديث ذو شجون، لما نراه من تقصير ظاهر يتحمل مسؤوليته الطرفان، فالعلماء قد قصروا في توثيق علاقاتهم بالشباب، والشباب أيضاً يتحملون مسؤولية في نوع من النفور لديهم من العلماء، العملية مشتركة وبدون هذه الصلة الكبرى بين العلماء وبين الشباب فلن يصل الشباب إلى ما يصبون إليه من أهداف في قيادة الأمة ؛ لأن الله – جل وعلا – قد أثنى على العلماء في محكم التنزيل ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ” (فاطر: من الآية28)، “هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ” (الزمر: من الآية9)، ” شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ” (آل عمران: من الآية18) فإذا تخلى الشباب عن هؤلاء الذين أثنى الله عليهم فإنهم قد قصروا بمقدار تخليهم وابتعادهم عن علمائهم وقادتهم ، وهذا الأمر أرجو أن يكون واضحاً في أذهان الشباب وأن يبادروا قبل غيرهم للاتصال بمشايخهم وعلمائهم وقادتهم حتى لو حدث من بعض المشايخ شيء من الجفاء أو عدم الاستجابة ، إن تكرار المحاولة مرة ومرتين وثلاثاً تجعل العالِم يفتح قلبه لهؤلاء الفتية لهؤلاء الشباب ، وبهذا – بإذن الله- يتم الاتصال ويتم التلاحم، وفي المقابل فإن مسؤولية العلماء كبيرة _كما بينت في عدد من الإجابات خلال هذا الحوار_ ؛ لأن إصلاح الوضع وإصلاح المجتمع أقوى وسائله هم الشباب ، أكبر العوامل في إصلاح المجتمع والتغيير الاجتماعي هم الشباب مواجهة الأعداء عن طريق الشباب ، تماسك المجتمع الشباب لهم دور كبير فيه، ولهذا فإني أحث إخواني من المشايخ وطلاب العلم والدعاة والمربين إلى أن يفتحوا صدورهم للشباب ، وأن يتحملوا ما يحدث من تصرفات قد تؤذي بعض العلماء وبعض طلاب العلم ؛ لأن الشباب ليسوا على درجة واحدة من الوعي والفهم والطبيعة والإدراك وحسن الخلق، السن العمرية للشاب قد تدفعه لتصرفات لا تتماثل مع الشيخ وطالب العلم ، فمسؤولية العلماء أن يتحملوا من هؤلاء ، وأن يفتحوا صدورهم ، وأن يوجهوهم التوجيه المناسب ، وأن يحلموا عما يحدث منهم من تجاوزات، لكن الذي أقوله: على العلماء ألا يفتحوا صدورهم للشباب فقط ، بل أن يذهبوا إليهم ، وأن يسألوا عنهم ، وأن يوجهوهم، وأن يشعروهم بالأبوة والرفق، أن يشعروهم بعنايتهم بهم ، وأنه لا فرق بيننا وبينهم ، وأنهم الجيل اللاحق للجيل السابق ، وأنهم – بإذن الله- خير خلف لخير سلف ، إذا تم هذا بين الشباب وبين العلماء، وأقبل الشباب على علمائهم ومشايخهم ، وتحملوا أيضاً ما يحدث من بعض طلاب العلم من تقصير أو غلظة أو جفاء هنا نستطيع أن نضع أيدي بعضنا ببعض ، وأن نوثق علاقات بعضنا ببعض ، – وبإذن الله- يسير المجتمع وقد ترابط شبابه وعلماؤه ، صغاره وكباره بعضهم مع بعض يداً واحدة ضد العدو المشترك ، وبذلك يتكامل البناء ويتكامل النمو ، وعندها نكون سداً منيعاً ضد هجمات التغريب وهجمات التغيير وهجمات العدو المشترك ، أما هذا النفور والافتراق الذي يحدث أحياناً وهو موجود ولا شك بسبب الخلل والتأخر وله تأثير على المدى البعيد والقريب ، حقيقة- يا أخي – آمل من شبابنا أن يكفوا ألسنتهم عن الحديث عن سلبيات علمائهم ومشايخهم ، وأن يكثروا من الثناء عليهم والدعاء لهم ، وكذلك آمل من العلماء أن يقبلوا على شبابهم؛ يرفقوا بهم ويرحموهم، ويوجهوهم بالرفق والعناية كما هو – والحمد لله- حادث وواقع من كثير من مشايخنا وعلمائنا وطلاب العلم ، ولكن حالات فردية قد تقع من هنا أو هناك من بعض طلاب العلم أو من بعض الشباب.
**فضيلة الشيخ :إذا كان العلم الشرعي – كما تعلمون – له أثر في توجيه وتسديد مسيرة الشباب التربوية والدعوية ، فما مدى قرب أو ابتعاد الشباب عنه ؟ وكيف يمكن ضبط المنهجية العلمية للشباب ؟ وما أثرها التربوي على الشباب ذاتياً ؟***
نعم العلم الشرعي – كما ذكرت – له الأثر الكبير في توجيه وتسديد مسيرة الشباب التربوية والدعوية، لماذ؟ للإجابة على السؤال يجب علي أن أطرح هذا السؤال ، ما هو العلم الشرعي؟
والجواب هو : العلم الشرعي هو العلم بمراد الله ومراد رسوله _صلى الله عليه وسلم_ إذن كيف يكون الإصلاح؟ وتكون التربية دون أن نعلم ما هو مراد من دعانا إلى الإصلاح ، ودعانا إلى التربية وإلى الاستقامة، “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ” (هود: من الآية112) لاحظ هذه الآية ” فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ” (هود:112) إذن الاستقامة على غير الأمر الذي أراد الله لا تكون استقامة، كيف نعرف مراد الله – جل وعلا – ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم –؟ هو بالعلم الشرعي بمقدار التقصير في العلم الشرعي الذي هو الكتاب والسنة وما تفرع عنهما يكون التقصير في البلوغ إلى الهدف، والوصول إلى الهدف المراد ، ولهذا ألقيت محاضرة قبل عشرين سنة وقد صدرت برسالة بعنوان (العلم ضرورة شرعية) ، وذكرت من أسباب إلقاء هذه المحاضرة أنني زرت إحدى المدن الإسلامية عام 1406هـ وألقيت خلالها محاضرة بعنوان :(العلم ضرورة شرعية) ، ثم طبعتها بعد ذلك ،وقلت فيها: “إنني ذهبت إلى بلد إسلامي وجدت فيه صحوة كبرى ، وتدفقاً عجيباً للشباب ، وتوجهاً إلى الله – جل وعلا – بشكل نادر في العالم الإسلامي ، ثم قلت: إني أخاف على هؤلاء وخفت على هؤلاء الشباب وعلى هذا الجيل وجيل الصحوة ؛ لأنني لم أره يقاد بالعلم الشرعي وجدت فيه شيء من التفرق والاختلاف ، واتباع بعض المدارس العقلية ، وغير ذلك. هذا الكلام حدث عام 1406هـ وما مرت سنوات قليلة إلا وقد حدث في ذاك البلد من المشكلات ووقعت فيه فتن لا تزال آثارها إلى اليوم السبب – فيما أراه – نعم العدو يتحمل مسؤولية كبرى، العدو جر هؤلاء لهذه الفتن، ولكن أعتقد أن ضعف العلم الشرعي كان له دور وتأثير في اتخاذ القرار المناسب في مواجهة العدو ، هذا ما أراه هذا اجتهادي ، والإخوة هناك لهم اجتهادهم فيما لاقوه من بلاء وعناء من أعدائهم ، ولكن البعد عن العلم الشرعي هو الذي يوصل إلى كثير من الفتن. أحداث الرياض مثلاً إن كان الذين قاموا بها محسوبين على الشباب الأخيار، فلا شك أن السبب في ذلك هو نقص العلم الشرعي، ومرة أخرى لاحظوا الأحداث التي تقع في كثير من الفتن لا تجدون فيها قل أن تجدوا فيها ، بل قد لا تجد فيها عالماً وإذا وجد أحد من طلاب العلم فهم ندرة وقلة لا يمثلون شيئاً بالنسبة لغيرهم، فخلاصة الأمر: العلم حصانة – بإذن الله – ووقاية – بإذن الله- من الوقوع في الفتن ، ومن الوقوع في الزلل والوقوع في الخطأ ” فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” (النحل: من الآية43) ، فالرجوع إلى العلماء والتضلع في العلم الشرعي ، وأن نكون على مستوى من العلم من أقوى ، بل هو وسيلة ووقاية – بإذن الله – من أي فتنة ومن أي بلاء ، ومساعد أيضاً على تجاوز عقبات الطريق ، نعم لا يلزم أن يكون كل المجتمع من العلماء ، وهذا أمر كوني لا يمكن أن يكون الناس كلهم علماء ” فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ” (التوبة: من الآية122) فإذا وجد في الأمة علماء كما هو موجود الآن – والحمد لله – ووجد من الشباب رجوع إلى العلماء وتلقي عنهم وصدور عنهم انحلت المشكلة، المشكلة من أين تحدث؟ المشكلة تحدث عندما لا يوجد علماء كما في بعض البلاد الإسلامية ، ذهبت إلى بعض البلاد الإسلامية فلم أجد من العلماء الذين يتولون قيادة الأمة وقيادة الشباب ، بالرغم أنهم على مستوى من العلم الشرعي والتضلع العلمي قد يوجد علماء ، ولكنهم لا يعرفون، أو ليس لهم التأثير الكبير على الأمة وعلى الشباب بصفة خاصة، وفي المقابل أيضاً مع وجود العلماء لا بد أن توجد قناعة لدى الشباب والأجيال بالرجوع إلى هؤلاء العلماء ، ما معنى أن يصدر العلماء أقوالهم وفتاويهم ولا يجدون استجابة من الشباب ، وإنما يذهبون لأناس لم يتضلعوا في العلم الشرعي ولم يتمكنوا من العلم الشرعي فيصدروا عنهم فهنا يقع الخطأ ويقع الانحراف ، آمل أن يعاد النظر في هذه القضية من العلماء ومن الشباب، وأحض الشباب بأن يتضلعوا في العلم الشرعي ويتوجهوا للعلم الشرعي ومن لم يتمكن من ذلك عليه أن يأخذ على نفسه ألا يتصرف أي تصرف إلا أن يرجع إلى من سبقه علماً وفضلاً ومكانة ، أما أن ينطلق الشاب من عاطفته أن ينطلق الشاب من اطلاعاته اليسيرة ، أن يصدر عن بعض طلاب العلم الذين لم يتمكنوا ولم يتضلعوا من العلم الشرعي هذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض شبابنا في بعض بلاد المسلمين فوقع الانحراف ووقع الخطأ ، والله المستعان.
ويمكن ضبط المنهجية العلمية للشباب بوضع البرنامج العلمي المعتدل الذي يناسب الفئات العمرية، كل فئة عمرية لها ما يناسبها ، أما أن يأتي بعض صغار الشباب وأعمارهم بسبع سنوات ، أو ثمان سنوات ، أو تسع سنوات ويبدؤون بتلقي العلم عن كبار العلماء مباشرة ، بل حتى عشر سنوات أو خمسة عشر عاماً قبل أن يبدأ في صغار العلم يبدأ في كباره هذا خلل منهجي . يجب أن يتلقى الشاب العلم مرحلياً يبدأ بصغار العلم ، وعندما قال الله – جل وعلا – : ” وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ” (المائدة: من الآية44) قال المفسرون : إن المراد بالربانيين هنا،هم: الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره ، والأحبار هم كبار العلماء ، فمن ضبط المنهجية العلمية ما يلي:
أولاً: أن يبدأ الشاب بصغار العلم قبل كباره مقدمات العلم يبدأ بالمختصرات، أيضاً من المنهجية أن يبدأ بحفظ القرآن ، وحفظ كم من نصوص السنة.
ثانياً: اختيار العالم الذي يتلقى عنه ليس كل إنسان يصلح أن يتلقى عنه.
ثالثاً: اختيارالكتاب المناسب لواقعه وحاجاته.
رابعاً : الاستمرار بأن يضع برنامجاً علمياً طويلاً يستمر عدة سنوات، وإلا هذا الانقطاع والتقطع من بعض الشباب قد أحدث خللاً ، حضور دورة في السنة فقط لا يكفي لتكوين طالب العلم المتمكن، العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك ماذا يعطيك؟ لن يعطيك شيئاً ولن تحصل على شيء ، فالمسؤولية هي مسؤولية المربين أن يوجهوا الشباب توجيهاً مهماً .
خامساً : أن يربط الشاب بين الجانب العلمي والتربوي، الجانب العلمي الصرف فقط ، مجرد النصوص لا تخرج عالماً معبراً ، بل قد يقع خطأ وخلل كما حدث من البعض الذين اقتصروا على الكتب فقط أو على الحفظ فقط ، ولما دخل في المجتمع فإذا هم لا يستطيعون أن يتجاوبوا مع مشكلات المجتمع وظروفه وواقعه، فوقعوا في خلل كبير مع إمكاناتهم الكبيرة في الحفظ والقراءة والاطلاع ، فلا بد من التوازن والتناسق والتمازج والتناغم بين العلم والتربية من أولى الخطوات ، وكما بينت في أول السؤال لا يمكن أن يكون جميع الشباب علماء ، وإنما يختار نوعان من الشباب :
**النوع الأول :*** نوابغ يهيئون للعلم الشرعي لقيادة الأمة .
**النوع الثاني :*** وهم البقية فيأخذون من العلم ما يكفيهم في طريقهم وما يسد فرض العين وبعض فروض الكفايات ، ويجب أن يتخصص الشاب في نوع من العلوم من أجل أن يبدع فيه وهذا مهم، ولا شك أن العلم الشرعي تأثيره تربوياً على الفرد لا يمكن وصفه ، وبمقدار تقصيره في العلم الشرعي يكون الخلل في التربية ، فكذلك بمقدار تضلعه في العلم الشرعي وعمقه في العلم الشرعي يكون الأثر التربوي على الفرد وعلى أسرته وعلى أمته . وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
نقلا عن موقع المسلم