في خضم الجاهلية الضاربة في أطناب الأرض جميعا، بزغ نور يخترق الظلام الذي خيم على المعمورة.. لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
أصيب المجتمع الجاهلي بهزة عنيفة بمبعث هذا الرجل، ففي الوقت الذي كانت فيه الشخصية العربية الممجدة هي الشخصية الأكثر قسوة وشدة والتي لا تحتكم إلا للسيف، ظهر محمد صلى الله عليه وسلم ذو الشخصية الفريدة التي كانت على غير مألوف العرب، فقد كان فيه قوة أهل الحق، وسماحة أهل الفضل، وكان فيه عزة من غير تكبر، ولين من غير ضعف، وثفة من غير اغترار.
كانت عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ونبله وشرفه تظهر جليا مع أدنى تأمل في سيرته العطرة، وتشهد بأن نبي الإسلام نموذج أخلاقي فريد؛ لذلك خلبت سيرته ألباب الناظرين حتى ممن لم يقروا بالإسلام، ولم يتبعوه عليه.
يقول العالم الألماني غوته: “بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم”.
من ملامح الشخصية المحمدية
ولعل النظر في شهادات المقربين من النبي عليه الصلاوة والسلام يكشف لنا ملامح الشخصية المحمدية.
فإذا سألت عن كلامه.. يخبرك خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، وكان يقول لأحدنا حين المعتبة: ماله تربت جبينه؟”.
وأما عن شجاعته.. فقد جاء عن صاحبه البراء بن عازب قوله: “كنا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا من يحاذي به”، أي يحاذي رسول الله في موقفه في المعركة.
ويقول ابن عباس رضي الله عنه واصفا جوده وكرم: “فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”.
وقال أنس: “ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أعطاه”.
وأما عن تواضعه.. فلم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يقومون له إذا رأوه؛ لعلمهم بكراهته لذلك.
وحين جيئ بوالد أبي بكر يبايع النبي صلوات الله وسلامه عليه فرآه رسول الله وقد اكتسح الشيب سواد رأسه ولحيته فقال: (ألا كنت تركت الشيخ في منزله حتى نكون نحن الذي نأتيه).
وقد لخصت امنا عائشة رضي الله عنها مجمل حاله عليه الصلاة والسلام بعبارة مختصرة موجزة فقالت: “كان خلقه القرآن“.
من علامات صدقه
اعتبر المستشرق أو المنصر الاسكتلندي “وليام وير” شهادات المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم على كماله الأخلاقي واتباعه من أعظم حجج صدقه حيث يقول: “إن من أعظم معزززات صدق محمد (صلى الله عليه وسلم) أن أوائل المعتنقين للإسلام كانوا أقرب أصدقائه إليه وأهل بيته، وهم الذين لهم صلة وثيقة بحياته الخاصة، فلا يخفى عليهم ملاحظة تناقض الحال الذي لا يخلوا منه المخادع المنافق عندما يكون في ملأ ويكون في بيته”.
لذلك ارتبك خصوم الدعوة وعصفت بهم رياح الحيرة والاضطراب في شأن المواجهة!! كيف السبيل إلى تكذيب هذا الرجل؟ فقد نشأ النبي صلوات ربي وسلامه عليه بين ظهرانيهم، ويعرفونه حق المعرفة، ويعلمون صدقه وأمانته، حتى إنهم لم يجدوا من قبل لقبا أكثر ملاءمة له وأصدق في التعبير عن حاله من لقب الصادق الأمين.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا في سن الأربعين ـ أي أنه لبث فيهم أربعين سنة كاملة ولم يجربوا عليه في كل هذه السنوات الطوال ولو كذبة واحدة. ومقتضى العقل يشهد أن من كان ملازما للصدق في صغره فهو له في الكبر ألزم؛ ولذلك يقول ربنا تبارك وتعالى محفزا عقولنا على التفكير في هذا لمعنى: {قٌل لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(يونس:16).
ومن المواقف التي تسفر عن يقين قومه التام بصدقه وأمانته أنه لما أُمِر بالصدع بالدعوة والبدء بعشيرته الأقربين صعد على الصفا ثم جعل ينادي في بطون قريش، فلما اجتمعوا إليه قال لهم: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم!! ما جربنا عليك إلا صدقا).
وهذا هو موطن الشاهد.. “نعم!! ما جربنا عليك إلا صدقا”.
لقد كان الجميع على يقين تام بأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على الله سبحانه وجل وعلا..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب “النبوات”: “النُّبُوَّةَ إِنَّمَا يَدَّعِيهَا أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ أَوْ أَكْذَبُ الْكَاذِبِينَ، وَلَا يَلْتَبِسُ هَذَا بِهَذَا إِلَّا عَلَى أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ”.
فمن زعم أنه مرسل من عند الله إما أن يكون صادقا وإما أن يكون كاذبا، فإن كان صادقا كان من أفضل الناس وخيرهم وأبرهم وأتقاهم، وإن كان كاذبا فهو من شر الناس وأضلهم وأفجرهم، وذلك أنه من المحال أن يتجرأ ويكذب على الله سبحانه وتعالى دون أن يكون مستمرئا للكذب على الناس.. فالتفريق بين الطرفين المتنافرين المتباعدين أسهل من التفريق بين الطرفين المتقاربين.
لقد كان صدق دعوى النبوة أمرا مستيقنا لا يتمارى فيه اثنان من خصوم الدعوة في مكة، ولكن حال تقليد الآباء والتعصب للجاهلية بينهم وبين شرف اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، برغم إقرارهم بنزاهته وأمانته..
ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعاىلى مسليا نبيه صلوات الله عليه وسلامه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.