الحمد لله.. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.. وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: فقد ودعنا في هذه الأيام عاما هجريا واستقبلنا عاما جديدا، ومثل هذه المناسبات ينبغي ان نقف عندها وقفات تأمل واعتبار، ووقفات مراجعة ومحاسبة وادكار.
نتأمل في هذه السرعة العجيبة التي مر بها هذا العام، الذي كنا بالأمس القريب نستقبله، وها نحن وبهذه السرعة الغريبة نودعه، وفي هذا ما ينبه أولي النهى والأبصار على سرعة انقضاء الأعمار، وسرعة فناء هذه الدار، وأنها سراب خادع، وبريق لامع، ولكنها سيف قاطع، وصارم ساطع..
ما بين الولادة والصبا، والشباب والشيخوخة والكهولة، والهرم ثم الموت، ينتهي شريط الحياة في عجالة، ويطوى سجل الإنسان وكأنها غمضة عين، أو ومضة برق، فياعجبا لهذه الحياة كيف انخدعنا بها، وغرنا طول الأمل فيها، وهي كما قال الله فيها: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}[الحديد:20].
إن الدنيا ليست بدار قرار وبقاء، وإنما هي دار امتحان وابتلاء، كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها فيها الظعن.. وإنما نحن فيها أيام محدودة، وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة..
هي والله قصيرة، وإن طالت في عين المخدوعين، وحقيرة وإن جلت في قلوب المفتونين.. فإياكم أن تغتروا بها فقد حذرنا الله من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}[فاطر:5]، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39].
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وكان صلى الله عليه وسلم قال: (مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها).
قال عيسى عليه السلام لأصحابه: “الدنيا قنطرة، اعبروها ولا تعمروها”.
وقال: “من ذا الذي يبني على موج البحر داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً”.
قال الإمام النووي:
إن لله عبـاداً فطـناً .. .. .. طلقوا الدنيا وخافوا الفـتنا
نظروا فيها فلما علمـوا.. .. . أنها ليست لحيٍ وطـنا
جعلوها لجة واتخذوا .. .. صالح الأعمال فيها سفنا
أيها الإخوة الكرام.. اسمعوا لي فإني والله لكم ناصح:
إن الأيام تُطوى، والأعمار تَفنى، والأبدان تَبلى، وملك الموت إما أن يسير إلينا وإما أن نسير إليه.. وما هي إلا أيام وتنتهي الأعمار.. والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله.. كما روى ذلك الترمذي عن رسول االله صلى الله عليه وسلم.
إن الدنيا منذ خلقها الله قد ولت مدبرة، وإن الآخرة منذ خلقها الله قد ولت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. كما روى مسلم في صحيحه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المحاسبة المحاسبة
أيها المسلمون.. إنما نحن أيام.. وكلما مضى يوم مضى بعضنا، وإنما أيامنا أعمارنا، والأعمار إنما هي أمانة سنقف يوما بين يدي الله ليسألنا عنها، كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.. فمن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، فإن الناقد بصير.
اعلموا أن محاسبة النفس هنا تهوِّن الحساب هناك.. وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.. وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].
هلموا بنا ونحن في نهاية سنتنا نتساءل عن عامنا كيف قضيناه، وعن وقتنا فيه كيف أمضيناه، وعن مالنا من أين اكتسبناه وفيما أنفقناه، وننظر في كتاب أعمالنا لنرى ما فيه سطرناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كانت الأخرى تبنا إليه واستغفرناه. فإن (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني). رواه الترمذي وحسنه.
إن ما مضى لا يتدارك إلا بالتوبة والاستغفار، وما يستقبل إنما تنفع فيه النية الطيبة والعزم فإنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
المحرم وصوم عاشوراء
لقد بدأ العام الجديد وبدأ معه شهر المحرم، وهو أحد الأشهر الحرم التي عظم الله حرمتها، ونهى عن ظلم النفس فيها فقال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}[التوبة:36}
قال ابن كثير: أي في هذه الشهور فإنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال ابن عباس: “جعل الله الذنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”.
ومن أفضل الأعمال في شهر المحرم الصيام.. بل هو أحب الصيام إلى الله بعد رمضان كما قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان الشهر الذي يدعونه المحرم)(رواه مسلم).
وآكد أيامه يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر منه.. فإن له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفًا بين الأنبياء، وقد صامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه؛ كما في حديث ابن عباس في الصحيحين قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياما فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون فصامه موسى شكرا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه)” صحيح ابن ماجه”.
وقال عن أجر وثواب صيامه: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)(روه أحمد وغيره).
فصوموه فإن صومه يسير، وأجره كثير، وفضله غزير ووفير.. وصوموا يوما قبله أو يوما بعده، وخالفوا اليهود؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر عمره كما في صحيح مسلم: (إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، (يعني مع العاشر) فلم يأتِ العام المقبل حتى توفيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم).
نسأل الله أن يغفر لنا ما مضى، ويصلح لنا ما بقي، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه.