جاء دين الإسلام والناس لا يجمع بينهم إلا العصبيات، التي هي أساس حياتهم يومئذ، فأشرقت شمس الدين الجديد، والعصبية حاضرة بقوة في حياة البشر.
إنها العصبية الجاهلية التي كانت بمثابة الأساس للأعراف القبلية السائدة، وكانت في الوقت نفسه من أسباب الفرقة والتقاتل بين الناس، لذا فقد حاربها الرسول صلى الله عليه وسلم بكل قوة، ودون هوادة، وحذر منها، وسدّ منافذها، لأن العصبية لم تدخل في مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قوي إلا أضعفته،إنها حرباء تلونت ألوانها وتنوعت أشكالها، إنها دعوى الجاهلية، ما نجح الشيطان في شي مثلما نجح فيها، شب عليها الصغير وشاب عليها الكبير وتبناها جهلة المجتمع.
ومصادر الشريعة الإسلامية حافلة بإنكار العصبية والعنصرية والتشنيع عليها، وما أكثر النصوص في ذلك.
يقول الله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً…] (سورة النساء)وهذا إعلام بأن الخلق جميعهم متساوون، عربهم وعجمهم، وجاء التفضيل فقط بشرط واحد هو في سعة الناس كلهم وهو تقوى الله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](سورة الحجرات)، وعن أبي هريره رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم ُ : (إنَّاللهَ قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدمَ، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ، إنما هم فحمٌ من فحْمِ جهنمَ، أو لَيكونُنَّ أهونَ على اللهِ من الجِعْلَانِ التي تدفعُ بأنفْها النَّتِنَ) رواه أبو داوود وهو في صحيح الجامع.
ومما لا ريب فيه أن العصبية القبلية تؤدي إلى الشقاق والخلاف بين الناس كما أن التعصب القبلي يولد البغضاء بين أبناء الوطن الواحد، ويزرع الإحن بين أبناء الأمة، ويؤدي للوقوع في الحقد والغل والكراهية والتحاسد والتدابر والتباغض، ومن نتائجها: السخرية والغرور والهجاء والظلم وانتقاص إنسانية الإنسان.
إن العصبية تجعل صاحبها متبلد الحس جامداً في فكره ووعيه، مستعبداً بنوازع العصبية فلا يقيم وزناً لأي معنى يمثل في حياة الناس قيمة، فهو يظن نفسه وعصبته فوق الأنام، يحتقر الناس ويزدريهم فقط لأنهم ليسوا من النسل المبارك المطهر كما يزعم.
يتغاضى عن أخطاء قبيلته، وأهل عصبيته، ويعطي تلك الأخطاء تأويلات وتفسيرات يبرر بها أخطاءهم، بينما تكبر عنده أخطاء الآخرين، ويرى أنهم ليسوا إلا مجرد آليات يجب أن تسخر له هو وعشيرته.
أغلقت عليه عصبيته منافذ العقل والوعي فعاش في حدود القبيلة ومن وراء جدرانها لا يعرف معنى الأُمّة.
يقول الدكتور محمود عباس في كتابه (القرآن وقضايا العصر)” جاء الإسلام فاتجهت عنايته إلى محاربة المعنى الجاهلي البغيض للعصبية، كما أعلن الحرب على آثارها المدمرة ولكن الإسلام لم يتعامل مع العصبية على أنها آفة يجب القضاء عليها في كل الأحوال، بل تعامل معها على أنّها مظهر نفسي واجتماعي إذا تهيأت له الأسباب كانت له آثاره الطيبة في حياة الفرد والجماعة”.
ويحدثنا الدكتور محمود عباس عن النقلة التي أحدثها الإسلام في عصبيات أتباعه، وكيف أن الإسلام وظفها توظيفاً أمثل، فيقول:” تحول مفهوم العصبية في الإسلام إلى تنافس مثمر شريف يحرص عليه كل مسلم وفاءً لدينه وعقيدته لشعوره بأنّه لم يعد فرداً في قبيلة وإنما صار عضواً في أمة قال الله فيها: [ِإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء/ 92)، وفي إطار هذا المعنى تخلصت العصبية من كل مفهوم بغيض بل تحولت من طاقة مدمرة إلى طاقة فعالة مثمرة.. حدث هذا تدريجيّاً بطبيعة الحال وفي أثناء ذلك كان الإسلام يأخذ بيد الناس أخذاً رفيقاً من هياج العصبية الجاهلية للنسب أو القبيلة إلى الانتماء المطلق لعقيدة التوحيد ومن ثمّ كانت عصبية الإنسان لعقيدته مقدمة على عصبيته لنسبه وعشيرته، بل كانت عقيدة المسلم موجهة لحركة حياته كلها سلماً وحرباً فنسبه وعشيرته في خدمة العقيدة”.
العصبية التي يرفضها الإسلام أن تعين قومك على الظلم، وتؤثرهم بحق غيرهم، أما حبك لقومك وعشيرتك، وعونك لهم، فهذا مطلوب شرعاً وممدوح عرفاً، وهو مسلك الأخيار دوماً.