قرأت في بعض الصحف مقالات يبتهج كتابها بتنظيم جديد للفتوى ثم قرأت تكذيباً لخبر هذا التنظيم في صحيفة أخرى من إحدى الجهات الرسمية؛ وأياً يكن الخبر صحيحاً أم مختلقاً فقد كان سبباً لكتابة هذه الكلمات حول الإفتاء والفتوى التي صارت أمراً يسيراً عند فئام من الناس.
وأول ما ينبغي التأكيد عليه عظم شأن الفتوى وشدة خطرها؛ ويكفينا النصوص المحذرة من القول على الله بغير علم والنصوص المحذرة من الجرأة على الفتوى وما تناقلته كتب السير وآداب العلم والإفتاء من اجتناب الفتوى وتدافعها من جيل الصحابة والتابعين والعلماء الأفذاذ _رضي الله عنهم ورحمهم_؛ ولقد ذكر ابن القيم أن الفتوى حفظت عن مئة ونيف وثلاثين نفساً من الصحابة ما بين رجل وامرأة وهو عدد قليل بالنظر إلى عدد من وافوا الموسم في حجة الوداع وقليل باعتبار صعوبة الاتصال والتواصل في ذلك العصر البهي الزكي.
وفي مقابل تحرج أولئك العلماء نرى تقحم الفتيا ممن لم يبلغ عشر معشار القوم والهجوم عليها باستشراف وتلهف؛ حتى كثر المفتون وقل العلماء؛ وسادت العجلة في الفتوى التي عدها الإمام مالك نوعاً من الجهل والخرق.
وهذه بعض المقترحات والوقفات التي أحسبها مهمة حول هذا الموضوع:
لابد من التوسع في افتتاح الكليات الشرعية وزيادة الدروس العلمية والدورات المكثفة؛ فبلاد المسلمين تحتاج العلماء والمفتين والقضاة والدعاة والمحتسبين والمعلمين والأئمة والخطباء؛ وليست الحاجة المادية والتطبيقية بأولى من كليات الشريعة وأصول الدين والدعوة وعلوم القرآن والسنة وغيرها في خطط التعليم العالي الحالية والمستقبلية.
ومن المهم أن يكون لجهات الإفتاء فروع مركزية في جميع المناطق والمحافظات يقوم عليها أولوا العلم والدين والأمانة ليجيبوا عن مسائل الناس اليومية التي لا تحتاج إلى العرض على هيئة علمية كبرى.
ومن البدهي أن يفتي علماء الشريعة وحراس الدين في كل قضية؛ ومن المؤلم أن يكون هامش الحرية المتاح للإعلاميين أوسع بكثير من حرية الموقعين عن رب العالمين!
ومن المطلوب زيادة الطرق الموصلة للمفتين الأمناء عن طريق البرامج المرئية والمسموعة وأجهزة الاتصال الحديثة وبواسطة مواقع الانترنت والصحف والمجلات وفي المساجد والدوائر الرسمية وعلى هامش الندوات والمحاضرات؛ فصاحب الحاجة متلهف لمن يجيبه؛ وأوقات المحققين من أهل العلم شحيحة لا فضول فيها؛ والترتيب مطلب لسد الحاجة وقطع الطريق على ” مرتزقة ” الإفتاء.
معاقبة الذين يفتون من غير تأهل لهذا الأمر؛ ولا يقتصر العقاب على أصحاب الفتاوى التحريضية الخاطئة بل يشمل بعض المتعالمين والإعلاميين والممثلين الذين يفتون بلا حياء ولا خشية.
يقولون هذا عندنا غير جائزِِ! فمن أنتم حتى يكون لكم عند؟
إن التلفيق بين الفتاوى شأن البطالين الفسقة كما صحت الآثار بذلك عن جمع من علماء السلف؛ ومن اتخذ من رخص العلماء وزلاتهم ديناً فقد جمع الشر والسوء من أطرافه وجنى على نفسه وأنزلها دار البوار والخسارة؛ ولك أن تعجب من شأن هؤلاء فلو كان الأمر يخص أجسادهم لما تعدوا أمهر الأطباء قيد أنملة؛ ولو كان الموضوع حول المباني لما جاوزوا رأي أحذق المهندسين؛ ولو كانت المسألة في الاستثمار لبحثوا عن الخبير الحريص المتفنن المتحوط ؛ بل لو كانت القضية في ملبس يفنى ولا يبقى لسألوا أحسن الناس ذوقاً! فيا لله كيف هان أمر الدين على الناس حتى صدق فينا قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: ” لو اعتنى الواحد منا بدينه عنايته بشرك نعله لدخل الجنة “.
أن الطعن في الفتيا والقضاء طريق للطعن في الإمامة والحكم؛ وإن خطر الفتاوى الشاذة ونشرها لا يقل عن خطر ترويج الإشاعات والأكاذيب؛ والفتاوى دين وليست مجرد قول أو رأي غير أن بعض الناس والوسائل قد افتتن بالشاذ والمعضلات والطبوليات؛ ومن حمل شاذ العلم واشتغل بالغرائب فلن يسلم من الكذب والافتراء.
إن سكوت العلماء عن المخالفات والمنكرات ليست فتوى بالحل ولا إقراراً معتبراً شرعاً. وأمر سكوتهم بينهم وبين الله يحاسب كلا بعمله وويل ثم ويل لمن كتم علماً أو ضيع أمانة.
لا يجوز حصر الحق في رجل واحد؛ بل كل يؤخذ من قوله ويرد، خلا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_؛ وواجب على من تولى التوجيه والتربية ألا يربطوا الناس برجل واحد؛ كما يجب على أصحاب القرار ألا يحصروا الفتيا في رجل واحد؛ وأن يقع الاختيار على أفضل الناس لبيان الحق دون النظر إلى أي اعتبار آخر؛ ويتأكد ذلك في البلدان الإسلامية التي تعد مرجعية علمية لمكانتها أو لتاريخها أو لمكانة العلماء فيها.
أن دين الله مهيمن على كل أمر؛ ومن المستنكر أن يحال النظر في قضية ما إلى رأي المجتمع بينما يفرض أمر ثان بالقوة ويبحث عن فتوى للثالث وهكذا. ولو كان رأي الناس مقدماً لكان أولى ما يحال إليهم اختيار آليات التصرف في أموالهم واختيار من يرونهم أهلاً للثقة في الإدارة والتوجيه وحفظ الحقوق والأموال.
أن بعض الظرفاء والمتماجنين ينتقص من مكانة المفتين؛ ومنصب الإفتاء قد تولاه الله _جل وعلا_ بنفسه وتولاه نبيه _صلى الله عليه وسلم_ وخلفاؤه وأكابر أهل الإسلام حتى عصرنا؛ وأعظم به من أمر لو كانوا يعقلون.
إن زلة العالم لا تغير من الحق شيئاً؛ ولأمر ما كثر التحذير من إتباع زلة العالم التي يزل بها العالَم؛ وأن المفتي ما لم يكن مستوفياً للشروط المذكورة في مظانها فلا يعتد برأيه البتة.
وأخيراً فإن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة؛ وواجب على من ابتلوا بالإفتاء أن يعظموا العلم الذي حملوه ويراعوا الأمانة الثقيلة المناطة بهم وأن يكون منهجهم واحداً مع العامة والخاصة؛ وأن يبتعدوا عن الأقوال الضعيفة والمرجوحة وعن تقديم العقل وإرضاء الجماهير ففي هذه المزالق العطب وفساد الأمر؛ ولن يبلغ أحد بسخط الله أي مكانة ولو أحل كل حرام أو حرم كل حلال؛ والسلامة من البلاء بإتباع الوحيين الشريفين بعد طول النظر والتفكر؛ ولكل مجتهد نصيب.