الفكر الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول .. حوار

الفكر الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول حوار - الفكر الغربي بعد أحداث أيلول يعبر عن أزمة حضارية- كيف نعيش التعددية الفكرية هذا هو أكبر تحدي في السياقين الإسلامي والغربي- النخب الفكرية ليست مستعدة الآن للتقارب أصبحت المشكلة هي مشكلة تموقع سياسي أكثر منه إعادة نظر في البنية الثقافية والفكرية- بعض الأطراف الأوروبية..

الفكر الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول .. حوار

– الفكر الغربي بعد أحداث أيلول يعبُّر عن أزمة حضارية.
– كيف نعيش التعددية الفكرية؟ هذا هو أكبر تحدي في السياقين الإسلامي والغربي.
– النخب الفكرية ليست مُستعدة الآن للتقارب، أصبحت المشكلة هي مشكلة تموقع سياسي أكثر منه إعادة نظر في البنية الثقافية والفكرية.
– بعض الأطراف الأوروبية ترى أن المسألة في غاية الخطورة وأن ما يجري في العالم الإسلامي في الحقيقة هو نوع من التدمير لقطاع أساسي من رصيد الإنسانية الثقافي والحضاري هو اعتداء على توازن ثقافي كوني.
– ينبغي علينا أن نركز على القوى الاجتماعية الصاعدة في الغرب والتي تقف من العولمة موقف مناهض.
– هناك دوامة من التنازلات سيدفع إليها أصحاب القرار في الحركات الإسلامية السياسية.

أجرى الحوار: عبد الرحمن الحاج ـ دمشق (الشبكة الإسلامية)

ما عاد أحد يشك في أن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول غيّرت العالم وفرضت اصطناعات جديدة، ومراجعات فكرية وفلسفية في كل أنحاء العالم، وإذا كانت انعكاسات الأحداث سياسياً واضحةً في هذا التضخم الهائل للهيمنة الأمريكية وعسكرة العالم وخصوصاً العالم الإسلامي في وسط آسيا والشرق الأوسط، إلاّ أن الانعكاسات الفكرية ما تزال بحاجة لاستكشاف، فالتحولات الفكرية بطبيعتها بطيئة وطويلة المدى.

في هذا الحوار نناقش مع $الدكتور أحميدة النيفر$$ أثر أحداث 11 أيلول على الفكر الإسلامي، في محاولة لاستشراف مستقبله من جهة، ولتلمس الإمكانات المتاحة لتجنب الإعاقات والآثارا لسلبية التي سيواجهها من جهة ثانية.

والدكتور أحميدة النيفر مفكر إسلامي، له تجربة فكرية إسلامية معروفة في تونس، وهو أستاذ الدراسات العليا في المعهد العالي لأصول الدين في جامعة الزيتونة ورئيس مؤسسة أوروبية للحوار الإسلامي ـ المسيحي في ألمانيا، له الكثير من البحوث والدراسات، وعدد من المؤلفات منها:
– “الإنسان والقرآن وجهاً لوجه: دراسة في مناهج التفسير المعاصرة” دار الفكر، دمشق، ط1، 2000م.
– “لماذا أخفقت النهضة العربية” (بالاشتراك) ـ دار الفكر، دمشق، ط1، 2002م.
وخمس كتب أخرى (بالاشتراك) باللغة الإنكليزية والألمانية والفرنسية من اللغات الأجنبية منها (مفهوم الوحي: في الإسلام والمسيحية).. وغيرها.

**س: كيف تقرأ أحداث 11 أيلول على المستوى الحضاري والفكري؟***
ج: هذه الأحداث الآن وتكوين كتلة في العالم تتابع ما يسمى إرهاباً، الوجه السياسي للموضوع الذي يخفي ـ في الحقيقة ـ وجهاً فكرياً ضمن الحضارة الغربية نفسها، الحضارة الغربية الآن في تطور العولمة وتطور المشروع الحضاري للغرب؛ الذي يختصر في أنه ليس هناك من بديل غير الانخراط في نوع من وحدة التاريخ للبشرية ككل، ضمن حرية انتقال الأموال، وحرية نقل المعلومات، وسرعة انتقالها… الخ دون أي خلفية فكرية أو دون مشروع ضمني، خاصةً بعد سقوط الفكر الاشتراكي أو التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، إذاً يبدو لي أن هناك وجه أول لابد أن ننتبه إليه، [هو] أن الفكر الغربي بعد أحداث أيلول يعبِّر عن أزمة حضارية، إذ إنه لا يقدم بديلاً للإنسانية يوازي التوسع التقني والعلمي والمعلوماتي الذي أصبح لديه. هذا الوجه الأول للمشكل سينعكس بشكلٍ حقيقي على الفكر الإسلامي في الجزء الجنوبي من العالم، يعني في العالم الإسلامي. إذاً هناك بعدٌ أول لما بعد الأحداث لابُدَّ أن ندركه، حين نرى الآن ما يجري ـ مثلاً ـ من نتائج سياسية في الانتخابات الفرنسية، أو ما يجري في خصوص إيطاليا، أو ما يمكن أن يجري قريباً في الانتخابات الألمانية، كل المؤشرات تؤكد أن ما يسمى “يساراً” بما يحمله من قيم عدالة، أو ما يدعو إليه من رسالة إنسانية… الخ يتشرذم ليس سياسياً فقط؛ ولكن يتشرذم حتى من ناحية البدائل التي يقترحها على العالم، العالم الشمالي (الحضارة الغربية) يعاني من أزمة حقيقية، والاحداث وما تبعها تؤكد هذه الأزمة، وبالموازاة لذلك هناك أزمة أخرى في العالم الإسلامي الذي يجد نفسه بعد أحداث 11 سبتمبر مضطراً لأن يلملم كثيراً من شؤونه، فالقضايا التي كان ممكناً الاستمرار في مناقشتها بعد أن شرع في بحثها، مثل قضية دينية الدولة، وهل يمكن النظر في أن دولة إسلامية لا تعني دولة دينية بالضرورة؛ وإنما تعني دولة مدنية؟ يتعايش فيها الأطراف المختلفون في منطلقاتهم باعتبار أن تحدي العولمة يفرض نمطاً أو مرجعية ديمقراطية داخل الفكر الإسلامي، هذا الاختيار الذي كان هناك ضمن الفكر الإسلامي بعض التساؤلات فيه، تبدو الآن بعد الأحداث سوف تتراجع، بحكم أن العالم الإسلامي يواجه هجمةً بربريةً وربما صليبية وما شابه ذلك.. إذاً سنعود إلى نوع من التبسيط في القضايا بحكم الأزمة العالمية التي نشهدها ونعيشها سواء في أفغانستان أو في الباكستان أم.. يعني ما يجري الآن في باكستان أو في الهند أو.. مؤشرات تدل على أننا نتراجع عن طرح القضايا المهمة، طرح فيه الكثير من المعاصرة، بمعنى أن الروابط الدينية ليست حائلاً دون جعل الفكر الإسلامي السياسي قابلاً لاستدعاء قيماً إنسانية في نسيجه في إطار المقولات التي يؤمن بها، وفي قضايا أخرى مثل القضية التعليمية: كيف ينبغي أن نطورها في العالم الإسلامي والعالم العربي أمام ما يقال اليوم عن أن الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة تفرض أو تدفع بعض الحكومات أن تعيد النظر في منهجية تعليم العلوم الإسلامية، وأن هذه العلوم ينبغي أن لا تكون أرضاً خصبةً لنوع من “فكر عنيف” أو “متطرف” كما يوصف. مثل هذا الكلام سيجعل المراجعات البطيئة التي كانت تحصل فيما يخصُّ المؤسسات التعليمية الإسلامية، هذه المراجعات [الذاتية] ستصبح مهددة إذا أخذنا فكرة التعايش الديمقراطي، ونوع من إعادة النظر في الفكر السياسي التقليدي ستجد نفسها مهددة بالانتكاس، المؤسسات التي تخرج النخب المثقفة أو المتعلمة في العلوم الإسلامية المختلفة، هي الأخرى ستجد نفسها ـ نتيجة هذه الضغوط ـ أيضاً في تراجع، كذلك قضية المرأة وموقعها في العالم الإسلامي، وأقصد الفكر الاجتماعي من وراء ذلك ـ هل يستطيع في مثل هذه الظروف أن يتطور كما كان يمكن أن يتطور لو لم تحدث هذه الأحداث؟
ضمن الفضاء العربي الإسلامي يبدو لي أن المقولات النقدية ستجد نفسها محاطةً باتهاماتٍ عديدة ومرعبة ربما أقلها أنها لا تساهم في المعركة التي يجب أن يشارك فيها الجميع. باختصار أعتبر أن المأزق الحضاري الآن هو مأزق مضاعف، في داخل العالم الإسلامي وفي خارج العالم العالم الإسلامي [ما زال الفكر الإسلامي على مسافة من التفاعل مع الفكر الحداثي]، والعشريتين القادمتين، يمكن القول بسهولة بأن الفكر الإسلامي سوف يغرق في المأزق الذي وقع فيه فكر النهضة في القرنين الثامن والتاسع عشر وهو التمزق بين ضرورة الحفاظ على ذاتنا الحضارية والتفاعل في الوقت نفسه مع الفكر الحداثي الغربي. لقد آل التمزق الناتج عن هذه الإشكالية إلى الدخول في خطاب دفاعي عند رشيد رضا مثلاً في آخر تحولاته، وعند حركاتٍ تلته، وأصبحت المسألة هي عقلية دفاعية لتحصين “الهوية”.

هذه المفارقة التي عرفها العالم الإسلامي نتيجة الهجمة الاستعمارية مطلع القرن الماضي ستجعل مجموعة من المفكرين في طورٍ ثانٍ ينسحبون من كل انفتاح على الخارج، هذه المفارقة يبدو لي أنها تتكرر اليوم من جديد.

**س: لا شك بأن أحداث أيلول غير عادية، وبالتالي سوف تفرض تأثيرات عميقة على النحو الذي شهدناه في أحداث مطلع القرن العشرين، والتي انعكست على الفكر النهضوي العربي والإسلامي، وأعاقت تطوره فيما بعد، ولم يستطع البدء بالتخلص منها إلاّ في نهاية القرن، والآن ثم اختلاف في تركيبة العالم وتطوره ووعيه، واختلاف في طبيعة وجغرافية الأحداث، ضمن هذا الاختلاف كيف تتوقع الاختلاف في التأثير؟***
ج: الفكر الإسلامي يمكن أن يدرك أن الظروف الجديدة ـ لو استبعدنا هذه الضغوط الظرفية التي أتصور أنها لن تكون ظرفية، بل ستطول ـ يمكن أن يستفيد وهي تختلف تمام الاختلاف عما سبق، هناك إمكانية للشعوب لكي تعبّر عن نفسها أكثر مما كان، يعني نسبة الأمية لا محالة أحسن بكثير مما كانت عليه في مطلع القرن الماضي، بعد مئة سنة صحيح لم تحقق النهضة مشروعها، لكن هناك نسبة من النجاحات التي لا ينبغي أن ننساها..

**س: لكنها نجاحات بسبب تطور الظروف التي يمر بها العالم لا أكثر، أي أنها متعلقة بحركة التاريخ العامة وليس إنجازات بالمعنى الحقيقي للكلمة؟***
ج: هناك جهات في العالم الإسلامي ما تطورت بنفس القدر الذي تطورت فيه جهات أخرى من العالم الإسلامي والعالم العربي. ما هو موجود في مصر ـ على سبيل المثال ـ لو قورن بما يوجد في بلد مثل باكستان سنجد هناك فروق جوهرية، صحيح هناك تعثرات في مصر وفي غير مصر، لكن النهضة في مصر مهمة جداً، ما يجري في مصر أو ما يجري في المغرب الأقصى أو ما يجري في سوريا مقارنة بما يجري في تركيا، التعطل في تركيا عجيب، يعني تعطل المشروع الحداثي وانزوائه في موقف دفاعي وانكماشه، هل هذه حداثة تختفي وراء الجيش! النظام الجمهوري أصبح لا معنى له!.
يبدو لي جهات من العالم العربي وإن حصلت فيها كثير من المصاعب والتعثرات حققت مكاسب التي هي ليست آلية، بل تحتاج أن تدعم، ولابدَّ أن نفهم كيفية دعمها.

إذاً الفرص المتاحة الآن فرص مهمة جداً، وأود أن أؤكد على أمرين في هذا المجال، القضية الأولى هي جدوى الحوار الداخلي ضمن الفضاءات العربية، وبالخصوص بين الأطراف المختلفة، وأخص بالذكر الإسلامية والقومية والحداثية، هل هذا الجانب كفرصة نستطيع الاستفادة منه أم أننا سنواصل في صراعات أيديولوجية عقيمة، وفي نوع من الخطاب المغلق الإقصائي.

أيضاً ضمن الخطاب الإسلامي نفسه؛ هل سنوفق إلى إِحداث نوع من ديناميكية حوارية ضمن تيارات الفكر الإسلامي نفسه (السلفي والحركي والتنويري..) إذا لم نحقق شيئاً من هذا فإني أعتقد أن القضية الأولى (قضية الفكر النقدي) ضمن الخطاب العربي العام روافده المختلفة ستكون مشروعاً مجهضاً، لن يكون هناك أي إمكانية لتجاوز المسلمات الأيديولوجية والخطاب الأحادي سواء ضمن الروافد المختلفة أو ضمن الساحة الفكرية الإسلامية نفسها، إذاً أظن أن القضية الأولى هي إحداث ديناميكية ضمن الروافد المختلفة المكونة للخطاب العربي والإسلامي.
المسألة الثانية التي اعتبرها مهمة هي أن يدرك الفكر الإسلامي أن موقعه في خصوص موقفه من العولمة ورغبتها في تنميط العالم وإدخال العالم في نوع من وحدة تاريخية، تتجاهل كل الخصوصيات الثقافية لابد أن ندرك في هذا الأمر أننا لسنا الوحيدين الذين يمكن لنا أن ننخرط في الشق الثاني الذي هو الغربي نفسه هناك أطراف ينبغي للفكر العربي بصفة عامة والإسلامي بصفة خاصة أن يدرك أنها هي الأخرى بصدد مراجعات فكرية مهمة في خصوص العولمة وفي خصوص الحداثة نفسها، لسنا الوحيدين الذين يمكن أن نخوض علاقات نقدية مع ها هو جارٍ الآن في هذا السياق.

وهذا يمكن أن يقينا من العودة إلى الانتكاس الذي حصل في فترة النهضة، يعني أن ندرك الآن أن العالم اقترب من بعضه ويسير بوتيرة خاصة تجعل هناك إمكانية لأن يجد الفكر العربي مكاناً له للمشاركة إذاً هو أدرك حقيقة ما هو بصدد الحصول لدى النخب الغربية، لدى حركات تناهض العولمة لدى ما يسعى بتيار ما بعد الحداثة، وأن نعي خصوصيات هذه الحركية الفكرية والاجتماعية والسياسية إن وعينا ذلك فإن هناك ـ ليس معسكر اشتراكي جديد ـ ولكن معسكر يعطي القيمة الإنسانية في هذا التطور الخطير الذي يحدث في العالم، يعطيها المكانة الأولى، وهو ما ينبغي أن يكون واضحاً لدى المنظرين ـ إذا كان هناك منظرين أو على الأقل أصحاب الخطاب الإسلامي اليوم ـ الذين ينبغي أن يدركوا أن لهم موقعاً ضمن التوجهات العالمية الإنسانية في اللحظة الحضارية الراهنة. عليهم ألا يتحدثوا عن إعادة بناء العالم كما كان موجوداً في قرون سابقة، كان فيها الإسلام هو القوة الرئيسية في العالم. إذا أدرك الفكر الإسلامي أن له شركاء في داخل العالم العربي يختلفون عنه من حيث المرجعية، لكن يتفقون معه من حيث الهدف.

إذا نظرنا للقضيتين الداخلية والعالمية لابد للفكر الإسلامي في تقديري أن يهيئ لنفسه موقعاً يختلف من حيث الطبيعة عن الاعتقاد بأن هناك أستاذية للعالم ينبغي أن يتحلى بها. هناك سياق حضاري إنساني قبل أن نكون أو غيرنا، إذا أردنا أن نخرج بشي ءمهم في هذا التحدي الذي نتحدث عنه، فهو القول بأن المركزية الثقافية التقليدية التي يفكر بها عدد كبير من الإسلاميين، والمركزية الثقافية الغربية التي ينطلق منها جزء كبير من النخب الفكرية في أوروبا وفي الأمم المتحدة هذه المركزية القائمة في اعتقاد أن المرجع الحقيقي هو ذات إما غربية أو اختياراته غربية، وخيار حضاري غربي، وأن كل الأطراف الأخرى لا قيمة لها، هذه المركزية إن كانت في سياقها الغربي أو كانت في سياقها العربي الإسلامي فهو أول نقطة ينبغي أن تراجع في الخطاب الإسلامي، كما هي مطروحة الآن للمراجعة في جهات من الخطاب الأوروبي.

هناك كثير من الأطراف سواء أخذنا الأطراف الحداثية أو غيرها أصبحت تعتبر أن المشروع المستقبلي ما بعد الحداثي لابد أن تشارك فيه الثقافات والخصوصيات الإنسانية على قدم المساواة، وهذا يتضح أيضاً في الصراع الفكري الموجود داخل الكنيسة نفسها خاصة الكاثوليكية فيها من ينادي برفع الوصاية الأوربوية عن الفكر المسيحي، إذاً هناك نوع من تحدي حقيقي مطروح الآن: كيف يمكن أن نفكر ضمن تعددية المرجعيات الثقافية، وإمكانية أن تثري هذه التعددية المستقبل، لمواجهة هذا التبسيط الموجود في فكر انتهى تاريخياً؟ أيضاً التبسيط الذي يوجد في العالم العربي والإسلامي بأن هناك حقيقة واضحة نهائية يعرفها هذا الطرف أو ذاك، وهي التي ينبغي أن تعرض على الناس أو يتجه إليها الجميع بصفة أو بأخرى، إذاً كيف نعيش التعددية الفكرية؟ هذا هو أكبر تحدي في السياقين الإسلامي والغربي.

**س: الحديث عن تعددية تدخل الآن في صعوبات أكثر بسبب الحرب ضد الإرهاب، حيث كشفت هذه الأحداث عن تحول الفكر السياسي الحركي عالمياً، والحرب فرضت نوع من النقمة البالغة سواء على مستوى النخب أو على مستوى الشارع لم يشهد له مثيل من قبل في العالم الإسلامي، المحتمل بناءً على هذا شيوع الفكر الحركي، وبالتالي سوف تصبح مسألة “الحوار” والتعددية بعيدة المنال، في ظل هذا التصور، ونحن نتحدث عن فكر إسلامي نقدي، ويجب أن نلاحظ أن التغييرات التي تحدث على مستوى الفكر بطيئة لكنها عميقة خلافاً للانفعالات الساسية الظرفية، لابد أن الفكر النقدي الإسلامي سوف يدخل في مأزق وعطالة جديدة، هل بإمكانه أن يتجنب الوقوع فيه؟***
ج: هناك صعوبات حقيقية أنا لا أنسى أن المخاطر ليست سهلة، هناك إمكانية لنوع من تجميع وفكرة لم الشتات وتوحيد الصف ضد الطغيان والغزو الثقافي والعسكري، هذه المسائل كلها سوف تؤثر في مسيرة الفكر النقدي التعددي، لكن لا أرى حقيقة هناك إمكانية أخرى غير الإصرار على هذه المقولات رغم أنها ستمر في مصاعب كبيرة، يعني ما رأيته الآن في الملتقى الذي كنت أحضره من نخب لا محالة هي لا تزال محدودة الصدى في العالم العربي رأيت نخب من مصر وبعض الجامعيين من المغرب العربي، وتعرفت على مفكرين تحديثيين من الخليج وهناك نواة واضحة ولكن ليس بينها ـ في الحقيقة ـ أي حد أدنى من التعارف، ولذلك الجهود تظل في النهاية مشتتة.

**س: هل تجد أن الأحداث الأخيرة أسهمت في تقريب النخب من بعضها؟ باعتبار أنها أصبحت كلها تشعر بنفس السطوة والهيمنة الأمريكية والمشكلات التي تخنق العالم الإسلامي، هل هناك نوع من تقارب الخطاب في الداخل، ربما في التوجه نحو حتى المواقف الأكثر راديكالية (ثورية)، هل هناك تقارب ممكن أن نترقبه تحت مظلة هذه الأحداث على نحو ما شاهدته في الملتقى الثقافي الذي شاركت فيه في دمشق؟***
ج: لا ليس هناك تقارب، دخلنا في وضع صعب، ربما يكون من السذاجة أن يظهر بأن الأمور ستتحقق بسرعة، هناك الخطاب مدعو إلى كثير من التحمُّل والصبر، النخب ليست مُستعدة الآن للتقارب، والنخب الآن قسم منها يفضل أن يدخل ضمن هذه الحركية النضالية ضد الغرب وضد التطرف الغربي، رأيت قسم لا بأس به من النخب التي تعيش في الغرب نفسه، مثلاً في أوروبا يقولون، أنه لابد أن نفرض أنفسنا في انتخابات بلدية، يعني أصبحت المشكلة هي مشكلة تموقع سياسي أكثر منه إعادة نظر في البنية الثقافية والفكرية، والوضع المتأزم يساعد على هذا في الغرب، وحتى في داخلنا نحن، يصعب على المثقف أن يتجاهل الحشد والتجييش الحاصل في العالم العربي، دون أن يتفاعل معه. ففي تقديري النخب ـ وهذا يمكن أن يدخلنا إلى نقطة جديدة ـ إذا ظلت تشتغل خارج عمل مؤسساتي، خارج مراكز، خارج قنوات اتصال عصرية وحديثة، هذه النخب لن تستطيع أن تفعل شيئاً أمام هذا التصاعد للخطاب التجميعي، ولم الشتات ولم الصفوف. إذاً النخب ستجد صعوبة، وملجأها الوحيد هو أن تعتمد علاقة مفتوحة مع النخب الأخرى الغربية وتعي ما يوجد خلالها من مراجعات وتأملات معرفية خطيرة. ومن ناحية أخرى لابد أن تؤسس لنفسها في المجتمع المدني المؤسسات اللازمة حتى تستطيع أن تكون جهودها متضافرة عوض عن وضعها المتنافر، وفكرة المفكر العظيم الملهم ما عادت تصلح، الآن ينبغي أن نفكر ضمن سياقات مختلفة للنخب ضمن مؤسسات جامعية ومراكز بحث ومجلات لها هيئات وتكوين أكاديمي في مختلف الميادين، هذا هو يبدو لي جسر النجاة.
وقضية المجتع المدني أصلاً نقطة أساسية، يعني التفكير ضمن لكن ليس ضمن استبدال حكومة بحكومة، هذا ما يصلح لشيء.

**س: نحن الآن أمام لحظة تاريخية في علاقتنا بالغرب من حيث تعديل صورة الغرب عنا، ولأنه الآن يبحث في جزء منه، وخصوصاًالحشد الأوروبي، عن صورة جديدة للإسلام أو إعادة اكتشافه، كيف تتصور أن نقدم إسهامنا ونستغل هذا الوضع لصالحنا؟ كونك تشتغل رئيس مؤسسة للحوار الإسلامي المسيحي في ألمانيا أي في مؤسسة معنية مباشرةً بهذا الموضوع؟***
ج: هناك أكثر من مجال، يعني مثلاً ـ باختصار ـ المجال الأول المجال الإعلامي الموجَّه لفئات واسعة من المهتمين بما يجري في العالم أحزاب مختلفة سياسية حتى المواطنين العاديين، الإعلام العربي والإسلامي إعلام يخاطب نفسه همساً وليس بصورة عالية وصريحة، خطابه محتشم جداً، [بالمعنى السلبي للحشمة]، ولذلك هو نفسه لا يشعر بمصداقيته تجده يخجل تماماً من رفع عقيرته بكلام ينقله، إلى لغات أخرى مثل القصص؛ عندما تترجمها إذا كانت تحمل حقيقةً قيم إنسانية فستصبح أدباً عالمياً، الخطاب السياسي الآن لو ترجم ونقل بلغات أخرى سيشعر أصحابه أنه لا يحمل مصداقية؛ أحياناً يستعمل كلمات يسمح بها بالعربية فإذا نقل هذه الصيغ والتراكيب والتعابير إلى لغات أخرى سيجد نفسه أنه يضحك على نفسه، لأنه نفسه لا يصدق ما يقوله! الجانب الإعلامي مهم جداً وسندرك أن الآخرين يمكن أن يتفهموا، أنا ما أعرفه مثلاً من خلال ممارسة بعض الأطراف الأوروبية أن الأحزاب الأوروبية فيما يتعلق بأفغانستان أو فيما يتعلق بفلسطين عدد كبير من الأوروبيين وعوا أن المسألة في غاية الخطورة وأن ما يجري في العالم الإسلامي في الحقيقة هو نوع من التدمير لقطاع أساسي من رصيد الإنسانية الثقافي والحضاري، في الفترة الأخيرة بعض الفرنسيين أصدقائنا عرضوا علينا وثيقة لنوقع عليها، تضمنت وجهة نظر جديدة بتأثير الأحداث الجديدة (أفغانستان ـ فلسطين) تتعلق بالبيئة الحضارية الكونية، إذ أصبح هؤلاء يؤمنون أن ما يجري هو نوع من البتر لجزء خطير من البيئة الثقافية الكونية، يفهمونها وكأنها اعتداء على شيء من البيئة والطبيعة مثيل للاعتداء عل طبقة الأوزون فما يجري في العالم الإسلامي ـ في نظرهم ـ هو اعتداء على توازن ثقافي كوني، يراد تدميرهُ، والوثيقة تتضمن احتجاجاً بهذا المعنى على ما يجري في العالم، باعتباره ليس مسألة صراع مع الإرهاب إنما هو نوع من تدمير البنية المتوازنة التي يمكن لهذه الأطراف العربية والإسلامية المعتدى عليها أن تدعمها ‎، أي أن هناك نوع من الخلل البيئي الثقافي يحدث الآن.
طلبوا منا أن نساهم في التوقيع على هذه الوثيقة وقد فعلنا.
هناك جانب مهم بالإضافة إلى الجانب الإعلامي هو الجانب الفكري يعني نحن نظن، وهذا من الأخطاء الشنيعة ـ أن الغرب هو شيء واحد، كيس واحد وكلهم على شاكلة واحدة،.. الخ، هذا الكلام يدل على أننا لا ندرك حقيقة ما يجري، فلابد أن ندرك أن هناك صراع وهناك مخاض في العالم الغربي ولابد أن نتفاعل مع الأطراف التي تقف مع رسالة إنسانية للفكر، وترد على إدعاءات الغرب في أن عنده خطر واضح اكتشف له هذا الاسم العجيب سهل المرور إلى كل الأماكن وضرب كل الأهداب أقصد “الإرهاب”. إذاً هذه التسمية العجيبة التي تنبئ على نوع المطامع التي تحرك هذه القوى، في تقديري الجانب الفكري بعد الإعلامي مهم جداً.

النقطة الثالثة التي ينبغي أن نركز عليها بعد هذين المجالين هي القوى الاجتماعية الصاعدة في الغرب والتي تقف من العولمة موقف مناهض لأنها تعتبر أن العولمة أولاً وقبل كل شيء خطر على الغرب نفسه. فلذلك لابد أن نهتم بتجمع هذه الفئات التي تعبر في كل مناسبة عن رايها ولها خلفية ثقافية، سواء في أوروبا أو خارجها على الأقل في هذا السياق الثالث القوى المناهضة للعولمة، والناقدة لها والمتجاوزة لها، والتي لا تريد أن تعيد الوضع إلى ما كان عليه تعتبر أن هذه الخيارات تحتاج إلى إصلاحات جذرية، هذه القوى ينبغي أن تتفاعل معها، القوى الفكرية والجهات التي تقوم بعمل نقدي على المستوى الفكري، والجهات الشعبية (الأحزاب، ألمنظمات) التي يمكن للإعلام أن يكون فاعلاً ضمنها.

**س: الآن هذه الأحداث (11 أيلول/ سبتمبر) ستفرض مساراً مستقبلياً للفكر الإسلامي كيف تتوقعونه؟***
ج: الفكر الإسلامي لابد أن يواصل مشروع إعادة قراءة التراث على ضوء المستجدات المعرفية المختلفة التي تقيد هذا الفكر هذا الأمر أساسي بالنسبة إليه لكي يستطيع أن يتجاوز عقبات خطيرة خصوصاً في قضية مؤسسة الدولة، وقضية وضعية المرأة، القوانين التي ينبغي أن تصالح لتجسيد الوضع الاجتماعي، هذا المشروع الذي بدأ به في نهاية القرن الماضي في تقديري لا ينبغي أن يتوقف.

الاتجاه الثاني لابد أن يتمَّهل في قبول بعض المسلمات التي ربما يغالط بها نفسه، مثلاً القول بأن الفكر القومي فكر انتهى، وتجاربه أثبتت فشله، أو القول بأن الفكر الأشتراكي بعدما حصل في الاتحاد السوفييتي انتهى أمره، ولما كان شرع في تنظيمه في المستوى الفكري، وبدأ بتطبيقه في تجارب لم تعطِ حقيقةً نتيجة مقبولة بصفة واضحة، إذاً لا يتساهل في اعتقاد أن هذه التجارب الإنسانية التي ليست مرجعيتها دينية تجارب فعلاً انتهت، وأصبح هو سيد الموقف، بدليل أن الولايات المتحدة تحارب ـ كما يقول ـ الإسلام. لو نظرنا إلى التجارب “الإسلامية” التي وصلت إلى السلطة الآن، في أصقاع العالم الإسلامي أظن أن هذا التبسيط سيدرك أصحابه أنه ليس مفيداً، لأن الذين حكموا في بعض الأقطار الإسلامية لم يحققوا الوعود التي ظن أهلها أنهم قادرون عليها، وهناك نوع من الشك الكبير في بعض الأوضاع من نجاح هذه الدول “الإسلامية”. إذاً تبسيط الأمور لا يجدي، واعتبر أنه فيما يخص القضية السياسية من جهة والقضية الاجتماعية من جهة ثانية، وفيما يخص قضية التراث ومراجعته بصفة علمية، هذان الأمران أساسيان، ينبغي التوجه إليهما بالنسبة للفكر الإسلامي.

**س: هذا ما يجب أن يفعله الفكر الإسلامي، ولكن أريد الاستشراف بشكل وصفي لما يمكن أن يسير فيه الفكر الإسلامي بمعزل عن رغبتنا لما يجب أن يفعله أو يسير عليه؟***
ج: الفكر الإسلامي يبدو أنه سيتجه في فترة قريبة إلى نوع من الانغلاق المؤخِّر، قسم منه سيصبح منساقاً في نوع من الشطحات التبسيطية التجييشية أكثر من أي شيء آخر، هذا الخط الذي أظنه أقرب لفترة، لكن انتكاسات أخرى ستحصل يبدو لي، ستجعله يقف أمام هذه النتائج السلبية موقفاً نقدياً، ومهتم أن يراجع نفسه، لكن لا أظن أنه سيستطيع أن يتخلص من هذا الإنجذاب والاستقطاب الذي يدفع إليه الآن هذا الجانب الوحيد الذي يبدو ممكناً الآن، الفكر الإسلامي سيمر بفترة انجذاب نحو نوع العنف وردود الفعل والمركزية الثقافية واعتقاد أنه ينبغي أن يدافع عن نفسه لأنه مستهدف.

**س: ماذا بشأن الحركات السياسية الإسلامية التي أصبحت الآن مستهدفة عالمياً وبشكل مباشر تحت مظلة “الحرب ضد الإرهاب”؟***
ج: ما آراه الآن، أنها تدفع إلى التنازلات، والتعبيرعن أنها ليست مناهضة للغرب، لم تعد في حالة تسمح لها بأن تأخذ مواقف فيها استقلالية، أو حد أدنى من الاستقلالية، العكس هو الصحيح، الآن كأنه باستمرار يقع نوع من المزايدات، سيقال هذا غير كافٍ، ينبغي أن تعبروا أكثر عن أنكم غير راضين عن العنف وكذا.. هذا ما يكفي أيضاً، ينبغي أن نرتفع درجة.. الخ هناك دوامة من التنازلات سيدفع إليها أصحاب القرار في هذه الحركات، وهذا هو الخطير، الآن هناك فترة صعود للهجمة الأمريكية، تجعل هذه الحركات بين أمرين إما أنها تقوم بعمليات “انتحارية” تضرب من جديد إذا كانت ما تزال فعلاً قادرة على ذلك، ستضع نفسها في موضع أسوأ مما هي عليه، وإلا ستقوم بعملية دفاعية وتعبر عن نواياها الحسنة، طبعاً اليوم سيرحب بها، لكن غداً ستطالب بأشياء أخرى وتدخل في دوامة تنازلات لا تنتهي. وهذا الشكل في العمل السياسي الإسلامي الآن إذ يجر باستمرار سواء في هذه الفترة بصفة مفضوحة، أم في الفترات الماضية، يستدرج ثم بعد ذلك يستغل لأغراض أخرى هو ليس واضعها، بل لم يفكر فيها أساساً. هذا الجواد الذي يركب ويمتطى أتوقع أن يبقى هكذا، يظل مطية لقضايا أخرى، ولا يتسطيع أن يحقق لنفسه خطةً ذاتية يضعها بإرادته في المدى المنظور.

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *