الفن في ميادين الجزائر

■ الحراك السلمي يتحول إلى حفلة، والشعارات إلى قصائد نثرية. الناس يُعيدون اكتشاف الشوارع، واليافطات أشبه ما تكون بمعارض فنية على الهواء الطلق. كل جمعة يبتكر المحتجون أغنية جديدة أو لافتة مختلفة. الألوان تتعدد والفن لم يعد حكراً على الغاليرهات المغلقة. النكتة تصير أدرينالين المشاة، والجزائريون يسخرون من الطغمة الحاكمة التي سخرت منهم في السنوات […]

الفن في ميادين الجزائر

[wpcc-script type=”bcd55fb35dadc8a28ad90773-text/javascript”]

■ الحراك السلمي يتحول إلى حفلة، والشعارات إلى قصائد نثرية. الناس يُعيدون اكتشاف الشوارع، واليافطات أشبه ما تكون بمعارض فنية على الهواء الطلق. كل جمعة يبتكر المحتجون أغنية جديدة أو لافتة مختلفة. الألوان تتعدد والفن لم يعد حكراً على الغاليرهات المغلقة. النكتة تصير أدرينالين المشاة، والجزائريون يسخرون من الطغمة الحاكمة التي سخرت منهم في السنوات العشرين الماضية. لقد قضينا عقدين نجلس فيهما على الرصيف ونُشاهد حفلة النظام، وهو يمضغ البلد في بهجة، أما اليوم فقد تغيرت المواقع، الشعب يستعيد الميادين، يرفع كلمات رفض بأكثر من لغة، يستأنس ببدء نهاية زمن مضى، بينما ساكنة قصر المرادية تتراجع إلى ركن قصي وهي تُشاهد، ولا قدرة لها على فعل أي شيء آخر سوى التصفيق في صمت أو الوشوشة بأصوات خافتة. الغالبية تجعل من الاحتجاج فناً وطريقة في الغبطة، بينما الأقلية تتفرج، من بينها أفراد يشتهون الانخراط في الفرح لكنهم يخشون أن يستفيق النظام القديم من رماده، فيضيعون على أنفسهم أمكنتهم القديمة. لقد عمّر حكم بوتفليقة أطول مما يلزم، وهو يمص مصل النشوة بمكاسب غير شرعية، يغض الطرف عن جثث من ماتوا في البحر، بحثاً عن سبل هجرة سرية، بينما اليوم تحول إلى ضيف ثقيل، يشاهد الملايين يخرجون في سلمية، يوزعون الموسيقى والأغاني والابتسامات، ولا يرجون سوى مقابل واحد؛ لا هدية ولا صدقة، بل فقط حرية طالما راودهم أنها حق نُزع منهم ولم يتوقفوا عن تعقبها.
الاحتجاجات، التي تطوف البلد، منذ أسابيع، هي أيضاً طريقة كي يهدم الجزائريون صورة سيئة روجها النظام عنهم، ويظهروا صورتهم الحقيقية، في الفرح والاحتفال وفي تحويل أمكنة الاحتجاج إلى معارض فنية مفتوحة، تكتظ بالصور والرسومات العفوية، بالموسيقى والغناء وبالزينة وبكثير من السخرية ومن مجابهة تعنت النظام باختلاق نكت موسمية. لم يعد العلم الوطني، بألوانه الثلاثة، وحيداً في التمييز بين المُناضل وغيره، بل هناك أيضاً اليافطات، باختلافاتها في خطوط كتاباتها ولغتها والصور التي تستعيرها. كل جمعة يخرج الملايين للاحتفال ـ أولاً ـ فهو يوم عطلة، يغنون حتى تبح أصواتهم، كما لو أنه لا شغل لهم في اليوم الموالي، لذلك يفرغون طاقة الفرح والمزاج الحسن في المسيرات، يكسرون الصمت، الذي خيم سنين، ويشرعون في ترديد ما كانوا يعجزون عن قوله في العلن. ساحات أول مايو أو أودان أو غيرها لم تعد فقط عمارات كولونيالية، بمصاريع زرقاء تنظر إلى البحر، ولا فقط زحمة، ودوريات شرطة، ومعاكسات فجة للعابرات، بل هي أيضاً جسد يسري فيه فن، مسودة نكتب فيها تاريخ الأمكنة، التي اعتقدنا أنها لا تساوي أكثر من كتلة إسمنت، فصارت حاضنة ثقافية، يتحول فيها الاحتجاج إلى فن.

لا أحد كان يتوقع أن يستمر الحراك في سلمية، ولاسيما الجهة الحاكمة، فقد تعودت أن تُصادف الضجيج في طريقها كي تجد سبباً في إخراج هراواتها. الضجيج صوت يليق كلحن لساكنة المرادية.

من يحتفل هو ـ عادة ـ شخص حقق أمراً يرنو إليه، أو أنه يتنبأ بحدث بهيج يتحقق عما قريب، والجزائريون يقعون في الحالة الثانية، إنهم ليسوا غاضبين ولا مهتاجين ولا حزنين ولا مستائين، إنهم فقط يحتفلون، بأسارير مغتبطة، يُخرجون ما في صدورهم من مرح ونشوة، لأن التغيير لن يطول، لن يتأخر في الوصول، فقد قرروا أن يحتفلوا قبل الوقت، أن يشرعوا في وصلة فرح قبل الأوان، وحين يرحل النظام كلية، تكون الحفلة قد ناصفت طريقها، لتكتمل كما بدأت في الميادين العامة، ثم ينصرف الناس إلى أشغالهم ومهامهم اليومية، مع ميلاد جمهورية جديدة.
هناك شعار يتردد منذ بدء الحراك السلمي، وهو شعار «بطل واحد هو الشعب». شعار مهرب من سنوات ثورة التحرير، ظل طويلاً شعاراً يتيماً، صامداً لم تطله لا تحديثات ولا تحويرات، لا خلاف أن لا بطولة بعدما فعله الشعب، ولكن اليوم نشهد ميلاد شعب مختلف، «فنان واحد هو الشعب»، الذي لم يخرج مثل الأجداد ببندقية في يده، بل بيافطة، بأغنية تتردد في حنجرته، بلحن يتكرر في ذهنه، وبعلبة ألوان يغيرها عن قناعة أن من في السلطة مُصابون بعمى الألوان.
الجمعة لم يعد ثقيلاً كما تعودت عليه شوارع الجزائر، صار يُشبه ليلة رؤية الهلال في رمضان، الليلة التي تسبق العيد، لذلك يخرج الناس للاحتفال في بروفات أولية استعداداً لفرح آخر مقبل، يحضرون أنفسهم لغد بملابس جديدة ودولة تحترف الزينة والظرافة في تحاورها مع مواطنيها، لا تبتغي المكر والبلطجة ولا إثارة النعرات، كما حصل في السنين الماضية. لا أحد كان يتوقع أن يستمر الحراك في سلمية، ولاسيما الجهة الحاكمة، فقد تعودت أن تُصادف الضجيج في طريقها كي تجد سبباً في إخراج هراواتها. الضجيج صوت يليق كلحن لساكنة المرادية.
بينما الشعب في الساحات يغني ويبتدع موسيقاه. فحفلته التي نراها في الشارع لم تكن لتتحقق لولا أنها بدأت بالفعل في دواخلهم، في صدورهم، قبل أن تفيض إلى الخارج.
هناك من يحتفل بعقد قران، أو بلحظة الانطلاق في مشروع ما، وهناك شباب في الجزائر يحتفلون، كل جمعة، بعقد طلاق مع النظام، قد يصادفون في طريقهم الفنان صافي بوتلة وهو يقود جوقة موسيقية، أو ملحناً هاويا يحمل بانجو أو قيثارة ويستعيد أغاني الحاج العنقى. إنها حفلة جزائرية تنقلب فيها المعايير، بعدما كانت الشرطة تحوط أفراح الناس، في الأمكنة المفتوحة أو في الملاعب، صار المحتجون هم من يحيطون الشرطة ويضمنون سلامتها، يرقصون ويرفعون أيديهم إلى السماء، ولا يمكن للشرطي سوى أن يتفرج عليهم، قبل أن يعود إلى المخفر الذي خرج منه صباحاً. ومع تعدد المسيرات، كل أسبوع، واختلاقها لأكثر من طريقة فنية في الاحتفال، بات الجزائري لا يشعر بأنه وحيد، بل يجد دوماً من يُرافقه إلى حلبة الغناء والرقص، بات يحس بأن الحفلة لا تكتمل إلا إذا اجتمع فيه مواطنون له، بات أكثر رحابة في تقبل من يختلفون عليه، ولا يجد حرجاً في هذا التمازج الخلاق بين رجال ونساء.
في الحقيقــــة، ما نُشاهده من حراك سلمي، ومن طفرة في إيقاظ روح الفرح، هي ليست فقط حفلة جماعية، ولا قضية أفراد، بل هي حفلة بلد، هي طبول من أجل تسريع ولادة جزائر مختلفة، تخرج من تحت أقدام المشاة، في سن رشدها وفي كامل حلتها وفتنتنها.

٭ روائي وصحافي جزائري

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *