القاصة التونسية نورة عبيد: على النقد أن تصيبه عدوى التجريب حتى يتجاوز أزمته
[wpcc-script type=”ca438a48056ceb16e09770d5-text/javascript”]

تأتي القصة القصيرة من روح العصر الذي تعيشه، وتعمل بطياتها على صقل خطاب سردي اجتماعي وسياسي يلامس الكينونة، في تشظيها وتعقدها أمام إيقاع زمن المعاش والمتخيل. وتأتي القاصة التونسية نورة عبيد بحصاد أدبي تمثل في جائزة الطاهر الحداد لأدب المرأة عن قصصها «مرايا التراب». عنها وعن عالمها القصصي كان هذا الحوار.
■ كيف كان دخولك لعالم القصة القصيرة؟
□ ولجت هذا العالم الأخّاذ منذ كنت تلميذة في المرحلة الثانويّة. فكلّما اشتريت مجلّة أدبيّة أو جريدة أراني ألتهم القصص التهاما. وقبل أن أنتسب لمدرسة مغاربيّة أو مشرقيّة، قرأت المجموعة القصصيّة «الموتى لا يكذبون» لموباسان. ثمّ مع تخصّصي بقسم اللغة والآداب العربيّة وجدت نفسي منحازة للقصّة الذهنيّة، وتأثّرت بالتونسيين عزالدين المدني ورضوان الكوني والبشير خريف، ولا أخفي فضل المشرقيين محمود تيمور أنموذجا وميخائيل نعيمة وإيميلي نصر الله والقائمة تطول. وهكذا لا يمكن أن يكون التّأثير مغاربيّا او مشرقيّا وإنّما ما حصل أنّ هذا الجنس الأدبي الوافد على الأدب العربي طريف في جوهره مبنى ومعنى، وجدتني أعالجه معالجة تتبّع الطرافة والجدّة وتحقّق جوهرها الترميز والتكثيف.
■ وماذا يعني لك سؤال الشرعية الذي يطرحه الكثيرون حول القصة القصيرة؟
□ إنّ التمييز بين الأجناس الأدبيّة ثابت، ولكن لم يعد يتميّز بالصرامة التي كانت تحدوه. لقد بات مؤكّدا أنّ المرونة في تحديد الأجناس الأدبيّة أمر مهمّ، بل حتميّ. وهناك من النقاد من يقول «بموت الجنس الأدبيّ». إذ نسمع بالقصّة الشعريّة وشعريّة القصّة، وتسريد الشعر والشعر الحكاية، والرواية الشعريّة، وقصيدة النثر الشعريّة. تسميّات عدّة لمنجز أدبيّ له جمهوره ونقاده ومريدوه. فإذا كان الأمر كذلك في الأدب عموما، فما بالك بالقصّة أنموذجا. إنّ مقولات من قبيل «الشعر ديوان العرب» و»الرواية ديوان القرن العشرين» لتكون القصّة جنسا أدبيّا مغيّبا مقولات واهية وزئبقيّة. لكلّ عصر شعراء وروائيون وقصّاصون، بل من يتتبّع مسيرة من نبغ من الروائيين يجده بدأ شاعرا ثمّ قصّاصا لينتهي روائيّا. ومن هنا تستمدّ القصّة شرعيتها من وجودها وتطوّرها وقدرتها على الإقامة في الأدب.
■ وما دور التجريب في الاشتغال التخييلي، بمفهومك؟
□ الإبداع عندي تشكيل فنيّ يرتكز على الخيال ويدور في فلكه بالدرجة الأولى. والتخييل كيان حيّ يحكمه قانون النشأة والتطوّر والنضج. لقد جئت إلى عالم الكتابة وصيحة الشابي تسكن أفقي الإبداعي، في كتابه «الخيال الشعري عند العرب». فقد أطللت على هذا الديوان العربي وقد أنكر عليه الشابي الخيال والتخييل والتجديد، لأنّ الذات العربيّة ارتكنت إلى نسخ مقولات ونظريات وقواعد وقوانين تردّدها مطمئنة، بدون أن تتفاعل معها. جئت إلى عالم الكتابات وقد تشكّل في ذهني أنّ «لحظات المكاشفة الإبداعيّة» كما يذهب محمّد لطفي اليوسفي إطلالات على مدار الرّعب، وهو التّجريب المستمرّ الذي يضع المبدع في معمعان العمليّة الإبداعيّة، هناك يتشظّى ويكتمل ليتشقّق من عبق التخييل وهو يجرّب نصّا أمكن له أن يكون أدبا. من هنا يحتاج القاص والمسرّد عموما إلى «تسريد أسطورته الخاصّة، أو قصّه الخاصّ، بعد أن أقام طويلا في القصّ والحياة. إنّ الاشتغال التخييليّ إذن يهب التّجريب التفاعل وإعاد الإنتاج.
■ كيف تقيمين خطاب الترجمة ووقعه على مسار القصة القصيرة عربيا. أدب أمريكا اللاتينية نموذجا؟
□ شهد العصر العبّاسيّ مثلما يطلعنا تاريخ الترجمة لدى العرب حركة قويّة سايرها إنتاج خطاب حول الترجمة (شروطها/آلياتها/خصائصها/مجالاتها/حتميّتها) مثّله الجاحظ بدقّة فيما أورد من «كتاب الحيوان». لقد أجمع الباحثون على أنّ تأمّلات الجاحظ حول خطاب الترجمة تُجمل كلّ ما قيل وقد يقال حول ممارسة الترجمة إلى الآن. لا يمكن الإقامة إذن في العالم بدون ترجمة، ولا يمكن الإقامة في الفكر والأدب بدون ترجمة، إنّها استدعاء للآخر والاقتراب منه. إنّها جسر العبور للثقافات والقبول بها والاعتراف بها جزءا من حضارة الإنسان أينما كان، ولعلّ آداب الشعوب ومخيالها يخبرعن أحوالها أكثر ممّا يخبر التاريخ، إذ التاريخ يكتبه الأقوياء، يحتكم للمصالح أكثر ممّا يحتكم للوقائع، من هذا المنطلق استفاد المسرّد العربي كثيرا من سرود رواد القصّ في أمريكا اللاتينيّة. لقد حدث التفاعل وازداد مع الطفرة الجماليّة للقصّة القصيرة إذ باتت قصيرة جدّا تنهل من معين الواقعيّة السحريّة.
لا يمكن الإقامة إذن في العالم بدون ترجمة، ولا يمكن الإقامة في الفكر والأدب بدون ترجمة، إنّها استدعاء للآخر والاقتراب منه.
■ كيف تطرح القصة القصيرة إشكالية الوعي للذات وللعالم، للإنسان العربي؟
□ ما من شكّ في أنّ القصّة حديثة بطبعها. تحقّقت وتنامت وفرضت نفسها جنسا أدبيّا تعبيريّا مستقلاّ، ضمن مسيرة عسيرة قطعها المجتمع التونسيّ والعربيّ بحثا عن التحرر وبلورة للشخصية وتجديدا للهوية. ومن التعريفات الجاذبة لهذا الجنس الأدبي أسوق ما صرّح به محمد برادة: «هي بامتياز اللحظة الكاشفة المُنْبئة عن تحوّلات الكليّة المجتمعيّة والشكل الأصلح لالتقاط الأسئلة المتصلّة بالمظاهر الجوهرية والإشكالية للوجود». إنّه الإقامة في «المعمعان» في «قلب» الأشياء بما هي كيمياء الوعي بالذات والعالم. ومن هنا الذات العربيّة وما يتقاذفها من هواجس وتجليّات ورهانات. إنّ المسرّد يستدعي التفرّد ويطلبه، يطرد الخمول ويدفعه فتسمو القصّة ببرهان إلى مخيال يروم الكشف «عن نهر الإنسانيّة الجميل الذي أوّله لانهاية الإنسان وهي الرّوح، وآخره لانهاية الحياة وهي اللّه». كما قال أبو القاسم الشابي في المخيال الشعريّ عند العرب. وبين النهايات تتجلّى الوقائع عنيفة عنف الحياة وسحرها نفسه. تحاول القصّة الإمساك بذاك العنف. كأنّها صفعات سرديّة واقعيّة تسجيليّة سحريّة ذهنيّة تماثل القدر وتطاله بإمكان.
■ وكيف يقدّم عالمك القصصي المرأة التونسية والعربية؟
□ شببت على وجوه النساء الكادحات في الحقول والأعمال المنزليّة، شببت على تضحيّاتهن وهنّ يهدين عمرهن للأماني التي تخون. هنّ الوطن، لا يتأخرن عن الأنوثة والعمل. هنّ الغواية لأنهن الحياة بدون ابتذال أو امتهان. نساء المرايا لم يكن لباسهن مشكلة ولا زواجهن مشكلة. ظروفهن جزء من محيطهن، ومشاكلهن جزء من مشاكل وطنهن سيرورة التّحوّل والتّحوّلات وما فيها من حداثة وصدامات. لم أر للمرأة مشكلة بعيدة عن مشكلة التحديث، بل هي عنوانها. التعليم والصحة والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لم أر في جسدها مشكلة. ما الحياة إن لم تكن المرأة غوايتها. لم أر مشكلة كإقحام المرأة مشكلة للعناوين الكبرى. علينا قبل إقحامها في الممارسات السياسيّة تخليصها من المتاجرة بها جسدا وموضوعا. علينا مشاركتها العقل الذي به كانت قبل تقديمها جسدا الذي عليه كانت. إن قضايا المرأة العربيّة ولئن اختلفت من قطر إلى آخر، فإنّها تشترك في إبعادها عن مراكز القرار السياسي والنقابي والحزبي. والنظر إليها كمحمل من محامل الحداثة والتطوير وتغيير القوانين. يزدهر حضورها في المناسبات والأعياد ومواعيد الانتخابات، لذلك تعيش المرأة اضطهادا بشكل أو آخر بانت نتائجه الوخيمة على الأسرة والمجتمع. ولا يمكن أن نغفل أثر العولمة على المرأة. فقد نما حسّها المدنيّ والسياسيّ والجماليّ. وباتت تطالب بحقوق ما كان لها أن تطالب بها لولا الانفتاح الحضاري.
■ كيف تنظرين لجيل ما بعد الثورة في تونس من القصاصين، إبداعا ونشرا ونقدا، كتيار جديد له أسئلته وحساسيته التعبيرية وهواجسه الإبداعية؟
ـ أنا مؤمنة بأنّ الأدب كائن حيّ. ديناميكيّ متجدّد. والكاتب مقيم في التجريب العارف أو العالم، ذاك الذي نهل من الأسس والمعارف وخبرها، حتّى باتت جزءا ثابتا من التجديد الأصيل. فالأدب بدوره يخضع «للتفكير الأبستيمولوجي». يراجع فراغه الموصول بفراغ راهنه. والأدب عندي موصول بكلّ الأنساق الفكريّة والفلسفيّة والجماليّة التي تنتجه. فلم يكن يوما نظريّة محنّطة مجمّدة، بقدر ما كان فاعليّة وجدارة تفرز عبقريّات. ولكلّ زمان جيل يأخذ بتلك العبقريّة ويراهن عليها ويجدّ فيها ويجتهد. ولكلّ زمان قدماء ومحدثون .أنا ابنة زمني أعيشه أحياه أنظره، لذلك أنتصر للمجدّدين التجريبيين العارفين الصابرين على الرفض، المؤمنين بأن الآتي يؤسسه أهل الفكر والأدب تماما، كما كان الخيال العلمي محضنة العلم! نعم أنا مع جيل ما بعد الثورة. وهو جيل الثورة وقبل الثورة. جاءت القصّة والشعر والرواية حركة رفض للقوالب الجاهزة، للظلم، للاستعمار، حركة استدعاء للمستقبل للحلم، للأمل. أنا وريثة الطاهر الحدّاد صاحب كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع». الطاهر الحدّاد الأديب الملتزم بقضايا شعبه، المؤمن بالتطوّر، لقد أنصت بكلّ ما أملك من ملكات الإنصات لنداء الحرية والواجب والجمال. هكذا انتصر لجيلي وللثورة والكتابة ثورة وإلا لا كانت!
■ ما هو بنظرك سؤال الحاضر والمستقبل في الخطاب النقدي القصصي؟
□ أوّلا ليحيا الأدب لابدّ من مؤسسة نقديّة تساير الكم لتحدّد النوع. فلا قيمة للأدب خارج التناول النقدي الذي يهبه التداول ويفكّ شيفرات التواصل الجماليّة بعد أنّ حقّق سحره، وهو التأثير في المتقبّل وتشريكه في المشروع الفعلي للكتابة، ألا وهو القراءة. والقراءة كما يقال قراءات وكلّ قراءة خلق وابتكار. فكم من نصّ قصصيّ أو روائيّ أو شعري حلّق بعيدا بفضل ناقد مجيد مبدع. وهذا الناقد المجيد أيضا يشترط أن يقيم في عصره بعلم. أن يعلم عن الأقصوصة أكثر ممّا يعلم القاصّ. وأن ينهل من جماليات عصره وتاريخه وفلسفته وأنساقه أكثر ممّا نهل القاصّ. ببساطة الناقد «عالم» والنقد علم لا يخلو من نزعة إبداعيّة. عليه أن يبحث في الكيفيّة بدون تكديس للمعارف والنظريّات والأسماء. عليه أن ينساها ليستطيع الكتابة بروحها وبقانونها. يحتاج الخطاب النقدي إلى التجديد الدائم بعيدا عن «العنجهيّة» الأكاديميّة أو الابتذال الساذج. ولنا في تونس المدرسة النقدية الإبداعيّة ومؤسسها الخالد توفيق بكّار ومحمد لطفي اليوسفي. وكم من نصوص رفعت ومقدّمات نقدية حفظت تعادل النّصّ الأمّ أو تفوقه. على النقد أن يحقّق اختراق اللحظة التاريخيّة للقصّ. يعني ذلك أن تصيبه عدوى التجريب وقلقه أيضا. فيحاول اقتناص جوهر الرسالة الأدبيّة للنّصّ. فليس تمجيد الكاتب سؤال النقد، وإنّما الكشف عن مكوّنات ثوريّة النص الأدبيّ وعلاقتها بأسئلة الواقع.