القاص الأردني مفلح العدوان… الأدب هو الأقدر على إنقاذ الإنسانية من تيهها
[wpcc-script type=”8ea829280b3e4750b5fd6323-text/javascript”]

مفلح العدوان قاص وروائي، كاتب مسرح وسيناريو، وصحافي أردني.
أصدر مجموعتة القصصية الأولى «الرحى» عام 1994 ثم توالت المؤلفات القصصية، مثل «الدواج»، «موت عزرائيل»، «موت لا أعرف شعائره»، «شجرة فوق رأس»، وغيرها من المجموعات القصصية والمسرحية والكتابات المتنوعة، كما صدرت له في مجال الرواية عام 2013 رواية «العتبات». حصل العدوان على العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها جائزة «الطائر» للتبادل الثقافي بين الأردن ومدينة درم البريطانية. عن الكاتب ومشروعه الثقافي كان الحوار التالي..
■ بداية.. ماذا يعني لك فعل الكتابة؟ وهل انت أقرب إلى القصة أم الروايةً؟
□ فعل الكتابة بوابة الحريّة والجمال والمحبة والإنسانية، لا أتصور كاتباً بلا هذه الأقانيم الثلاثة، ويضاف عليها الضمير الحي والخير والتسامح. الكتابة التزام بحقيقية الأشياء، رغم أن الكاتب يتلاعب بفعل الكذب ليخلق صورة مغايرة ومختلفة ومدهشة، لكن الصدق حتى في هذا الكذب من حيث الفكرة والموضوع والتعبير عن الأشياء. ولو عدت إلى البدايات لوددت أن أكون قاصاً، ولو غيرت لن ألجأ إلى الرواية، أنا لا تستهويني كتابة الرواية، ربما أود لو أمتلك موهبة عزف آلة موسيقية، أو فن الفسيفساء، وقد تغويني السينما ليس تمثيلاً، ولكن إخراجا أو كتابة السيناريو، لكن أبداً لا تستهويني كتابة الرواية، بل أنا أقرب إلى المسرح، ولهذا فشرفتي التي أشعر بالحرية والهواء المريح إبداعاً هي في كتابة المسرح بعد القصة.
■ وما هي دوافعك لكتابة الرواية؟
□ أصدرت رواية وحيدة «العتبات» كان الدافع لها استكمال مشروع توثيقي للقرى الأردنية، جاءت كتابة الرواية كتابة كأنها دفقة واحدة، حيث كان هناك مخزون معرفي ووثائقي لأمكنة الأردن وقراه، وتحليل للتغير الاجتماعي، من خلال إطلالتي على مسيرة وسيرة وتطور عشرات القرى، فارتأيت أن أفضل ما يمكن تقديمه، سيرة هذا التغير الاجتماعي للقرية الأردنية، والمجتمع الأردني، من خلال رواية مكانية، تتبع سيرة الشخوص والأمكنة، في تدرج تنامي حياتهم عبر أجيال، من عتبة بيت الشعر وصولاً إلى عتبة بيت البللور والقرميد الحديث، مروراً بعتبة الكهف وبيت الحجر. ولا أستطيع أن أقول إنني عاكفٌ على مشروع روائي، فمنذ نشرت «العتبات» عام 2013، وكنت قد أنهيت كتابتها قبل عامين أو أكثر من هذا التاريخ، ولكن لم تراودني الرغبة في كتابة الرواية، فالرواية لا تأخذ مساحة لديّ انشغل بكتابتها، وما «العتبات» إلا رواية كتبتها لضرورة ما، أفرغتها بما يليق بما أفكر فيه بما يخص موضوعها وفكرتها.
■ برز اسمك في عالم الأدب محلياً وعربياً، مع إصدار مجموعتك القصصية الأولى «الرحى»، التي فازت بجائزة محمود تيمور للقصة القصيرة. واليوم بعد مرور أكثر من ربع قرن ماذا تقول عنها؟
□ كلما أعدت قراءة مجموعتي القصصية الأولى «الرحى» أحس كأنني كتبتها الآن، أنتشي بها، وكأنني أقرأها أول مرة، ربما لأنها الكتاب البكر الذي أصدرته، ربما لأنها كتبت في ظروف صعبة بالنسبة لي، ربما لأن الكثير من موضوعاتها ما زالت أسئلة تؤرقني حتى الآن، ذاك العمر كانت فيه نشوة الأسئلة وحيرة الأجوبة، كانت الدهشة طازجة، وهناك لذة في الكتابة، وعلى مهل. الآن كل شيء يأتي بسرعة، وكنت حين لحظة الكتابة لمجموعة «الرحى» أشعر بأن كل عرّافي الصحراء يتابعون معي ما أكتب، وكهول القرى، إحساس بأن كل ذرة تراب هي شاهد معي على لحظة الكتابة تلك، ولهذا فما زلت أتمنى عودة تلك الروح في الكتابة، رغم أن مجموعة «الدواج» و«موت عزرائيل» كتبت في الفضاءات ذاتها والأرواح نفسها، لكن الرحى مختلـــفة، فيها سحر فارق، ودهشة بكر، وصدق شفيف أٌقرب إلى معاناة النبوءات منه إلى إرهاصات الكتابة.
■ «موت عزرائيل» نص ملحمي بامتياز، فما هي المرجعيات الفكرية والثقافية التي استندت إليها في بلورة هذا العمل؟
□ سؤال الحرية، والمصير، ومعها أسئلة حول السلطة وثنائية السيد والعبد، كلها كنت أستحضرها حين كتبت «موت عزرائيل»، ليس فقط النص الذي حملت المجموعة القصصية اسمه، بل كل القصص الأخرى التي تضمنتها المجموعة، مع معمار بنيته على وعيي بالأسطورة والأديان، وبهذا الحبل السري الإعجازي الرابط بينها. وسؤال الموت تم طرحه في كثير من الأعمال الإبداعية، وهو سؤال أزلي متكرر كل يطرحه من زاويته، ومن وعيه، ومعتقده، وفلسفته الخاصة. كانت نظرتي في الكتابة هنا بأسطرة كل المفاهيم المرتبطة بالشخصيات التي يتجلى الموت فيها، تلك اللحظة الأخيرة، اللحظة التي يمكن من خلالها مراجعة كل تفاصيل الحياة والكون، عودة في خط نحو البدايات الأولى، نحو البدائية، نحو اللغات البكر وأسئلتها، وفيها أيضاً محاكمة لكثير من المفاهيم والعلاقات، التي صارت من كثرة تعودها أمراً تلقائياً، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، وتحتمل المزيد من الأسئلة والمحاكاة والمحاكمة. تجربة كتابة «موت عزرائيل» أرهقتني، خاصة وقد حاولت تكسير كثير من الأساطير، وإعادة بناء الجديد بشكل إبداعي. إلا أن الفترة التي نُشرت فيها المجموعة أسيء فهمها، وتم التعامل معها وكأنها كتاب ديني، بينما هي عمل قصصي إبداعي مبني على الخيال، لكن بعد فترة تم تجاوز منع النشر عام 1999، وطُبع الكتاب في بيروت، ثم سُمح به عام 2000 في الأردن، وتم استيعاب هذه الحالة والنمط من الكتابات الإبداعية.
■ تحتفي كثيرا بالأماكن، فماذا يعني المكان لك، ومتى بدأ الوعي بأهميته واستلهامه في العمل الأدبي؟
□ كان عمري سبع سنوات حين انتقلت مع عائلتي من الزرقاء، لنسكن في صويلح، ما زلت أتذكر كما الحلم سيل الزرقاء شتاء حين كان يفيض، وكأنه يمهد لطوفان عظيم، وكان حولي خليط من الناس يتآلفون حول السيل. في صويلح سكنّا قرب نبع ماء سمي بـ«عين الشركس»، وكانت البيوت حولنا محاطة بأشجار الزيتون والتين والعنب، اختفت في جنون الإسمنت الذي اجتاح المدينة. كنت في مراحل مبكرة من حياتي نهاية كل أسبوع أرافق أبي إلى قطعة أرض زراعية يملكها قرب منطقة البقعة، كانت أرضاً وعرة، جزء كبير منها على قمة جبل، وكان يصرّ على زراعتها، كأنه يريد أن يعوِّض بالأرض هناك سنوات عمره التي قضاها في الزرقاء، وهو يعمل في مناجم فوسفات الرصيفة، وفي مصانع الحديد هناك. ربما هذا الترحال المبكر في أماكن مختلفة له تداعيات متباينة، جعلني أتعلق بمعرفة سيرة تلك الأمكنة، ذلك أنني اندهشت بها وكنت أنظر اليها بعين المراقب لتفاصيلها، لجغرافيتها، لتنوع الناس فيها. ربما تكون بذور الوعي بالمكان تولدت من تلك المرحلة، وتركزت قراءاتي في ما أتيح لي من كتب حول الرحلات وأدب المكان، وحتى في قراءاتي للأساطير وللأديان كنت أتتبع في تلك الكتب، ما له دلالات ومتعلق بالأمكنة؛ وأنا أٌقرأ السيرة النبوية، كنت أتتبع جغرافية مكة وشعابها، وأحاول رسم المدينة بتفاصيل أحيائها، ومع المسيحية كنت أقرأ بشكلٍ موازٍ عن بيت لحم والناصرة وأورشليم والجليل، والفتوحات الإسلامية حين وصلت غور الأردن، صارت تشدني مسميات أمكنة وقرى صرت أألفها كأنني أعيشها في تلك المرحلة، وأساطير العمالقة تعيدني إلى جبال الشراة ورم، بينما جلجامش تخيلته يمرُّ من خلال غابات عجلون، وفي البحر الميت استحضرت ذاكرة سدوم وعمورة وسديم كبريتي كان يشتعل هناك.. تسللت الأمكنة إلى وجداني وذاكرتي، وصارت كل قراءاتي، بلا وعي مني، تصب في ذاك الاتجاه. أنا لا أحتفي بالمكان ولكنني أعيشه، أتشربه، أنفخ فيه حياة أخرى، من خلال إبداع أريد أن يخلده ويكشف الكثير مما تراكم على هذه الأمكنة حولنا من زيف وتغييب. ولعل رواية «العتبات» خير دليل على ذلك.
■ تعتمد كثيراً على الذاكرة في كتاباتك. فماذا تعني لك؟
□ الذاكرة فعل واع، هكذا أتفاعل معها، إن كانت ذاكرة ذاتية، أو حتى الذاكرة الجمعية، الذاكرة فعل ماض ويتم الاستحضار حين يستفز العقل والوجدان للتفاعل مع حدث ما، مع موضوع، مع فكرة، يكون للذاكرة دفاترها وشرفاتها، إنها إعادة استحضار حالة ذهنية سابقة، مجاميع من الصور والأحداث والأمكنة والمشاعر والأفعال مخزنة في الذاكرة، مخزن الحياة، الذاكرة حافظة الماضي، زخم نعود إليه لنعزز من خلاله واقعاً معاشا. وفي الإبداع تتمثل في الخيال، في التصور الجديد، في تمثيل ما كان وتجسيده حالة إبداعية متحققة. نعم أنا أتكئ على الذاكرة، على هذا المخزون الذي أتشربه، وهو ثري بكل تفاصيله وتداعياته على مستوى الذات والمجموع الذي أنا جزء منه، لا على صعيد جغرافي قريب، بل أيضاً ضمن فضاء إنساني أتفاعل معه، ومع تلك الذاكرة الكونية التي هي جزء من ميراث أسلافي على هذه الأرض.
■ أين تكمن الخيوط الفارقة بين جمالية النص وأخلاقياته، بمعنى ما هو الالتزام وفق رؤيتك؟
□ الإبداع السردي، والكتابة الإبداعية بشكل عام تقوم على المواءمة بين الفن والجمال، وبين الموقف الواعي من الحياة والكون المجتمع والمحيط. الفكرة هي المحرك الأساس للسرد، والفكرة من الفكر من التعاطي بموقف حقيقي ثابت واع من كل الأشياء حولنا وفي دواخلنا، وما من كاتب صادق يستطيع أن يبدع، بدون أن يكون قد حدد الأطر العامة التي تشكل مرتكزات لتعاطيه مع الحياة، وبالضرورة ستنعكس هذه المؤشرات على إبداعه، ولكنها لا تحد من نظرته الشمولية والمنفتحة، حتى لا يكون مقيداً لمخيلته، ومحدداً لإبداعه، بمعنى أن الموقف والوعي بمنظور إنساني، وليس في إطار حزبي أيديولوجي منغلق، لأن مثل هذه الحالة تحد من حرية الإبداع والمبدع، وأحياناً توقع المبدع في نوع من التطرف الذي يجعله منغلقاً منكفئاً، ومكرراً لمقولات غيره. الوعي والموقف من الحياة والكون والحرية تعلي من قيمة الإبداع، وأكثر المواقف صعوبة يستطيع المبدع الحقيقي أن يقدمها في سياق فنّي بديع، وبخيال راق، وشفافية عالية.
■ ماذا عن رؤيتك، من حيث فلسفة ما تُدافع عنها أو تدعو إليها؟ وهل هناك حاجــــة للأدب في عصرنا الراهن؟
□ أسعى في كل ما أكتب للإعلاء من قيمة الحريّة، والحق، والانتصار للإنسان والإنسانية دائماً، وأنا موقن بأن وعي المبدع يمتلك بوصلة تجعله في صف المعاني السامية، والفضاءات الرحبة للإنسانية، بعيداً عن ضيق الأفق ومصادرة حق الآخرين والكراهية والتطرف، وكل ما يجعل الكون أضيق، بعيداً عن عناوين مغلقة، إن كانت سياسية أو حزبية أو إقليمية أو دينية، وهذه الرؤية للحياة وللذات وللآخرين لم تتولد من فراغ، بل تأثرت بالبيئة الأسرية المحيطة التي تحمل قدراً عالياً من الألفة والتسامح والحميمية، وكذا القراءات مبكراً بشكل متنوع في الأديان والفلسفة والفكر والأسطورة، حاولت أن أطلع على جوهر الفلسفات والأديان، فوجدت قواسم مشتركة كثيرة، والاختلافات كانت في العناوين، وفي من يحاول حرفها عن بذورها الإنسانية الجامعة. أما بخصوص عصرنا التقني التكنولوجي، فهو أحوج ما يكون إلى أدب وإبداع يعاين تلك الإنسانية التي تم إغفالها، وتهشيم الكثير من دلالاتها بدعوى التقدم والتقنية هذه، والعالم بأسره بدأ يعي هذه الحاجة إلى القرب من الروح، إلى ملامسة النبض، إلى استعادة تلك الموسيقى الكونية، التي تراكمت عليها الحروب ومظاهر المادية والعنف والدمار. أنا موقن، في هذا العصر أكثر من أي زمن مضى، أننا أحوج ما نكون الى الكلمة الشاعرة، إلى الأدب النابض بالحياة، إلى قيم الجمال والشفافية والصدق، هي رسالة أخرى من رسائل الأدب والإبداع لإنقاذ البشرية والإنسانية من تيهها في برودة التقنية والعلم المادي الذي لم يسخر لخدمة الإنسان، ولكنه عمل على تعظيم الأنانية، وآلات الدمار، وركزّ على التوحش وتكريس شريعة الغاب بين الشعوب.