سلوك الإنسان يشكله أمران: اقتناع العقل، ورضا القلب.
والقلب ملك الجوارح.. تأتمر بأمره فما من عمل تقوم به الجوارح إلا وهو مختوم بخاتم موافقة القلب.
ومن هنا يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ)(متفق عليه).
فالسلوك يبدأ بإصغاء القلب لصوت العقل، ثم رضاه بذلك، لتكون النتيجة وقوع الفعل.
والقلب يتنازعه إيمان وهوى..
فالإيمان: تصديق القلب لحقائق العقل، واتجاه المشاعر نحوها.
والهوى: ميل المشاعر لمحبوبات النفس والشهوات الحسية والمعنوية.
وعلى قدر قوة أحد الطرفين تكون غلبته على القلب، ويصير هو المتحكم فيه.
ومرض القلب وصحته تعود إلى هذا: فسلامة القلب وصحته بقدر غلبة وازع الإيمان فيه.. ومرض القلب وفساده وقساوته بقدر غلبة وازع الهوى عليه. والتربية المنشودة إنما تكون بإعادة تشكيل العقل والقلب، بزيادة الإيمان فيه، وتقويته في مواجهة الهوى، والعمل الدائم على زيادته لتكون له الكلمة الغالبة على القلب.. وأفضل من يقوم بهذه التربية، والتقوية إنما هو القرآن الكريم.
فالقرآن هو مصدر هداية القلب لمن أراد الله له الهداية (… وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)(سبأ:50).
وهو مصدر صلاح القلب لمن طلب ذلك فيه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}(يونس:57).
فمناقشاته ومحاوراته تخاطب العقل، ومواعظه توقظ القلب والعاطفة، فتنشأ الرغبة، ويزداد الشوق للإيمان فيدخل نوره إلى القلب حتى يملأه، بعد أن يكون قد أقنع العقل وأشبعه رضا وقبولا.
فكيف يصنع القرآن ذلك؟
أولا: القرآن ومخاطبة العقل:
لقد أودع الله تعالى في كلامه المعظم وكتابه المكرم الرد الشافي لكل تساؤلات العقل حول الكون ومبدعه وخالقه، وحول قضايا التوحيد والعقيدة والربوبية والإلهية، والبعث والنشور، والحساب والثواب والعقاب، وما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وفيه رد على كل ما يثار حول تصورات الحياة، وإجابات وافية على كل تساؤلات المكلفين عن أصل وجودهم، ومقصد حياتهم، وماذا بعد موتهم.
والقرآن الكريم فيه مخاطبة العقل ومحاوراته الفكرية، وإقامة حججه وبراهينه على إثبات قضاياه، وبيان قواعده، وصحة أحكامه وشرائعه.. فهو يملك كل أركان الإقناع، ويحوي كل دلائل إقامة البراهين الفلسفية والمنطقية والعقلية؛ بحيث لا يدع للعقل منفذا ينفذ منه للاعتراض والانفلات والرد.. وإنما تكون المعارضة لمجرد العناد والإنكار وللاستكبار عن قبول الحق {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(الأنعام:33).
وهذا ما ثبت فعلا في عناد قريش وتكذيبهم لرسالة الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام.. وقد سأل الأخنس بن شريق وهو من زعماء المشركين أبا جهل عن رأيه فيما سمع من القرآن، فقال أبو جهل: “تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعَموا فأطعمنا، وحمَلوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرَّكْب، وكنا كفرسي رِهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه”!
وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(النمل:14).
فالقرآن الكريم واحةٌ غَنَّاء لكل عقل سليم رشيد، ينهل من حقائقه، وينشرح لمحاوراته، ويقنع ويرضخ لدلائله، فينعم المنصف بهذا، ويقبل عليه متلذذا مستمتعا.. وكلما ازداد اغترافا، ازداد اغتباطا وانفساحا وانشراحا واعترافا، وتغلغل الإيمان في جوانبه.
ثانيا: القرآن ومخاطبة القلب
وكما أن القرآن الكريم يخاطب العقل ويغذيه بحقائق الإيمان.. فكذلك يخاطب القلب والعاطفة، ويستثير المشاعر وينميها للتفاعل مع هذه الحقائق.
والقرآن فيه في هذا الجانب ـ كما كل الجوانب ـ ما ليس في سواه، فكلام الله في ذاته له أثر السحر على الأسماع؛ “فإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه”.. فإذا كان هذا ما استوعبه “الوليد بن المغيرة” عند سماع كلام الله، وكذا أعاده بمعناه “عتبة بن ربيعة” وهو مشرك بالله كافر، فكيف سيكون قلب المؤمن المذعن؟
إن في القرآن الكريم قدرة هائلة على استثارة المشاعر وتأجيجها، ومخاطبة العواطف وتحريكها.. فلا يكاد يسمعه أحد إلا وتأثر به نظما ونغما وتركيبا ومعنى بمجرد طرق الأسماع.. فإذا وجد قلبا مقبلا يتسمع ويتفهم ويتدبر، وجد لمواعظه الأثر المرجو.. وهو ما يدخل في نطاق تربية القلب.
والقرآن واحة للقلب يُنَقِّله بين أسباب زيادة الإيمان بسلاسة عجيبة، وتسلسل وتدرج مذهل بين هذه الأسباب:
فتارة يدعو القرآن المسلم إلى الإخلاص وهو تسليم القلب لله وحده وجعل مقصده له دون سواه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(البينة:5)، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(غافر:14)، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}(الزمر:11 ـ 15)، {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}(يونس:106).
والإخلاص لله هو حقيقة الإيمان، فلا إيمان لمن لا إخلاص له. فليس دون الإخلاص إلا الشرك أو الرياء.
. وتارة يدله على العمل ويحثه عليه، فهو من أبواب زيادة الإيمان، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وزيادة العمل الصالح باب من أبواب زيادة الإيمان يقول تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الروم:38) ، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}(المزمل:20)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}(البينة:5).
. وتارة بدلالته على ضبط أحوال القلب، وبيان ما يتوجب على المؤمن مع تغير الأحوال بين السعة والضيق، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والعافية والبلاء، والمنع والعطاء.. وغيرها من الأحوال.
ـ فالصبر عبودية تلازم القلب عند البلاء: {وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ}(الحج:35)، {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}(البقرة:177)، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 155).
والشكر عبودية القلب عند الرخاء {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(الأعراف:144)، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم:7).
والتوكل والاستعانة بالله عند كل عمل {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159).
والإخبات والخشوع والتواضع عبادات دائمة خصوصا عن التعبد والذكر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(الأنفال:2)
والتقوى حال للقلب مع كل حال وبعد كل عبادة وفي كل مقام والله يحب المتقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة:197).
والقرآن بكل آياته ومواعظه يوجه القلب إلى هذه الأحوال ويستثير هذه المشاعر فيه، ويعوده عليها حتى تصبح أمرا تلقائيا عفويا فتجده صابرا عند البلاء، شاكرا عند الرخاء، متوكلا عند كل عمل، مراقبا في كل حال، مخبتا قانتا دائما وأبدا؛ وبهذا تتحقق عبوديته لله، ويتم إيمانه بربه سبحانه جل في علاه.